سنة كاملة مرَّت على حمدان، وهو يتنقل من شركة إلى أخرى، ومن مؤسسة إلى غيرها باحثاً عن عمل فلم يوفق. لم يترك مكاناً في رام الله، والبيرة وما يُحيط بهما لم يذهب إليه، حاول أن يجد عملاً في منطفة القدس لكن الحواجز الإسرائيلية ومطاردة العمال القادمين من خارج القدس أعاقته.
طرق أبواب السلطة للعمل في مؤسساتها فلم يجد عملاً، ولم يكن لديه واسطة، فلم يكن محسوباً على تنظيمٍ تابع للسلطة. وعندما ضاقت به الدنيا في قرية بيت لقيا القريبة من رام الله قرر محاولة التسلل للعمل في المشاريع الإسرائيلية، فقد دلَّه صديق له يعمل هناك على متعهد إسرائيلي يأتي إلى منطقة قرب رام الله ينقل العمال سراً إلى منطقة «بيت شيمش» ويُعيدهم إليها كل أسبوع متجاوزاً بهم نقطة التفتيش التي أقامها الجيش الإسرائيلي على مشارف المنطقة بسيارته الـ (فورد) البيضاء الكبيرة التي لا شبابيك جانبية أو خلفية لها، بحيث لا يرى الجنود ما بداخلها، ولا يُفتشونها لأن صاحبها يهودي، ورقمها إسرائيلي...
وافق حمدان على الفكرة رغم ما بها من مخاطر؛ فهو يعلم أنه كالذاهب إلى المعركة فإن أُلقي عليه القبض في المنطقة الإسرائيلية سيتعرض للسجن والغرامة معاً. إنها مخاطرة كبيرة، لكن من أجل رزق العيال فإن الآباء يتحملون الأهوال والصعاب...
توجه حمدان صباح اليوم التالي إلى المكان المتفق عليه، ليجد حوالي عشرين عاملاً من الفلسطينيين ينتظرون المتعهد الإسرائيلي (يوسي) الذي سينقلهم بسيارته بعد أن يزجَّ بهم كالسردين طالباً منهم الصمت وعدم الحديث عندما يتجاوز بسيارته نقطة الجيش...
كل عامل يتفق مع (يوسي) مباشرة وليس مع صاحب العمل الإسرائيلي، فيما يقوم (يوسي) بالاتفاق كمتعهد مع صاحب العمل ويحصل على أجور أكثر مما يدفعها إلى العمال ويحتفظ بالباقي لنفسه، لذلك كان يحرص على دفع أقل أجر ممكن مستغلاً أوضاع هؤلاء العمال، وحاجتهم إلى العمل...
فرح حمدان باستلام عمله الجديد في مذبح (مسلخ) للدجاج في بيت شيمش، كان يتوجه إلى العمل صباح الأحد ويعود مساء الجمعة ليقضي بقيه النهار ويوم السبت، مع العائلة...
كان اتفاق (يوسي) معهم على الدفع شهرياً لأن الشركة حسب ادعائه تدفع له الأجرة شهرياً. في الأسبوع الأخير من الشهر وقبل أن يحين موعد استلامهم أجورهم حملهم المتعهد (يوسي) بسيارته الـ (فورد) إلى رام الله، اقتربوا من الحاجز فطلب منهم الصمت. أوقف السيارة، فتح الباب وخرج باتجاه الجندي، بعد دقيقة عاد إلى السيارة فيما توجه الجندي إلى الباب الخلفي للسيارة، كانت يده على زناد بندقية م 16، فتح الباب ليُشاهد العمال المكدسين بالسيارة، يحمل كل منهم كيساً بلاستيكياً يحمل به ملابسه المستخدمة خلال الأسبوع... كان التعب قد أرهقهم، ينتظر كل منهم لحظة وصوله البيت بفارغ الصبر، فقد كانوا يبيتون خلال الأسبوع في بيت قديم أسفل إحدى العمارات أعده لهم المتعهد بعيداً عن أعين الشرطة والجيش. نظر إليهم الجندي كأنه وقع على صيد ثمين، سألهم:
ـ هوية، تصريح.
قدم كل منهم بطاقة هويته الفلسطينية، لكن لا يحمل أي منهم تصريحاً بالعمل.
حضر جندي آخر ليطلب منهم النزول من السيارة، مع أكياسهم، طلب منهم الوقوف على جانب الشارع ووجوههم بعكس الشارع باتجاه الجبال التي تفصلهم عن رام الله حيث أولادهم، وزوجاتهم ينتطرونهم هناك، ويعدون الدقائق بانتظار وصولهم...
توجه أحد الجنود إلى (يوسي)، شكره على جهوده، سلم عليه وسمح له بالعودة...
مرت ساعة كاملة والعمال ينتظرون ماذا عسى الجنود فاعلين بهم...
كان حمدان قلقاً على مصيره لا يريد أن يذهب إلى السجن بدون ذنب ارتكبه. كان يفكر كيف فتش الجنود السيارة هذه المرة؟ ولماذا لم يتحدث المتعهد معهم لماذا لم يقل شيئاً!؟
لم يطل حديثهم، فقد طلب منهم الجندي الوقوف وبعد أن كبَّلهم واحداً واحداً، عصب عيونهم، ودفع بهم إلى سيارة كبيرة جاءت لتحملهم إلى معسكر للجيش قريب...
فوجئ حمدان ومن معه بعمال آخرين في السجن تم اعتقالهم بنفس التهمة، التواجد في (إسرائيل) / فلسطين 48 بدون تصاريح. كانت مفاجأتهم أكبر عندما عرفوا أنهم اعتُلقوا مثلهم على حاجز للجيش قرب رام الله عندما كانوا في سيارة المتعهد الإسرائيلي (شمعون)...
سأل حمدان أحد العمال السجناء القدامى:
ـ هل تعرف اسمه الكامل؟
ـ لا كل ما نعرفه أن اسمه (شمعون).
ـ هل هو طويل القامة، بلحية نصفها بيضاء، وسوالف على الجانبين؟
ـ هو نفسه كأنك تعرفه.
ـ وهل يلبس نظارات بيضاء؟
ـ ورقم سيارته 6843569.
ـ يا إلهي إنه (يوسي)!
فعلق أحد العمال:
ـ يبدو أنه محتال كبير، يحتال على كل مجموعة باسم جديد.
ـ اليهود ملاعين، لم يكتفوا بمصادرة أراضينا، فلاحقونا حتى على أجورنا على لقمة عيشنا.
ـ لهذا كان يوصينا منذ اتفاقنا معه أن ننكر أننا نعمل معه إذا اعترضنا الجيش، واعتقدنا في البداية أن الحادث عرضي، لكن اتضح أنه مُدبر ومقصود.
فقال حمدان:
ـ لو أراه مرة أخرى، سأنشب أظافري في عنقة.
فقال له زميل بجانبه:
ـ وهل ستعود إلى السجن!؟
ـ وهل أترك حقي يُنهب؟
ـ وهل هو الحق الوحيد الذي نُهِبَ؟ ألم تُنهب قرانا؟ ألم يطردونا من عمواس، وقِبية من قبل؟ ألا يُحاصرونا كل يوم؟ ألا يُصادرون ما تبقى لنا من أرض؟
هزَّ حمدان رأسه وقال:
ـ لهذا لم نستسلم.
فقال أحدهم:
ـ صحيح لكن ماذا حققنا من نتائج حتى الآن؟
سكت ولم يعرف ماذا يقول.
عاد حمدان إلى بيته بعد انتهاء فترة سجنه مشتاقاً إلى زوجته وأولاده. كان فرحه لا يوصف بلقائهم، لكنه كان حزيناً لأنه خسر عمله، وضاعت أجرته التي تعب لأجلها شهراً كاملاً.
بعد يومين التقى حمدان بأحد العمال الذي دفع الغرامة وخرج من السجن منذ شهرين قبله. سلم عليه، تعانقا، سأله حمدان:
ـ خبرنا يا محمد هل عثرتم على (يوسي)؟
هزَّ رأسه وقال له:
ـ طبعاً لم يكن صعباً أن يعثر عليه أحدنا.
ـ ها فماذا حصل؟
ـ لا شيء، أنكر أنه يعرفنا، وضاعت كل حقوقنا!
ـ هل حاولتم تقديم شكوى ضده؟
ـ شكوى!؟ ليس لدينا أية إثباتات!
ـ كلنا نشهد ضده.
ـ لمن سنشكوه؟ سيقولون لنا لماذا عملتم بالتهريب..!!
هزَّ حمدان رأسه وقال:
ـ وهل وجدنا طريقة أخرى أفضل!؟ كانت خيارنا الوحيد. إنهم يدفعوننا إليها دفعاً.
واقرأ أيضا :
زيارة إلى مكتب الإف بي آي! / ساعة امرأة!