من المؤسف أن معظم ما قيل بخصوص صدام حسين لدى مثوله أمام قاضي التحقيق، كان إما تحليلات سياسية مشحونة بانفعال الموقف منه (معه أو ضده) أو إسقاطات ذاتية غير موضوعية فبعضهم وصفه بأنه (بدا وكأنه أسد في قفص يتمنى أن يعود إلى موقعه، وأنه كان رجلاً متماسكاً ومتحدياً)، فيما وصفه آخرون بأنه بدا (منكسراً، ومرتبكاً، ومرتعشاً، ومتعجرفاً)، وما إلى ذلك من أوصاف انفعالية لأمور سطحية شغلت الناس عن جوهر القضية، وأنستهم أن صدام حسين ظاهرة عربية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ونفسية وسلوكية، ساهم في صنعها ليس فقط تاريخه الشخصي والأسري والبايولوجي، إنما العراقيون والعرب أيضاً، وأن في محاكمته إنما يحُاكم تاريخ ونظام، وأنظمة عربية مريضة نفسياً ومختلة عقلياً.
سيكولوجية شخصية صدام حسين
إن التحليل النفسي لأي شخصية إنسانية يتطلب إخضاع تلك الشخصية للفحص النفسي وتطبيق اختبارات نفسية عليها، وكنت قد طلبت من الدكتور عدنان الباججي في فترة رئاسته لمجلس الحكم أن يوفر لنا نحن النفسانيين العراقيين فرصة اللقاء بصدام حسين، فأجاب في حينه بأنه الآن في عهدة القوات الأمريكية، وها نحن نوجه الطلب إلى السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور إياد علاوي بأن يوفر لنا هذه الفرصة، قبل أن يصدر علماء النفس الأمريكيون كتاباً عن صدام حسين، أظنه الآن قيد النشر.
إن تحليلنا لشخصية صدام حسين تعوزه المقابلة والحوار معه وتطبيق مقاييس واختبارات نفسية تتمتع بالموضوعية والعلمية، ومع ذلك نستطيع القول بأن شخصية صدام حسين شخصية غير عادية بمعنى أن الناس يغلب عليهم نمط واحد في الشخصية: (انبساطي، انطوائي، نرجسي،...)، فيما شخصية صدام حسين تتصف بأنها مركبة من أكثر من نمط، البارز فيها أربعة، هي:
1. نمط شخصية المتحدي:
وأهم صفاته: الشعور بالثقة العالية بالنفس، وقدرة التأثير في الآخرين، وسعة الحيلة والدهاء، الصراحة، والشهامة، والحسم، وحب السيطرة، والميل للاستبداد والإرهاب، وحب المواجهة.
إن جميع هذه الصفات موجودة في شخصية صدام حسين، الإيجابية منها والسلبية أيضاً، ففي صفة الشهامة مثلاً، انفعل صدام مبرراً غزوه للكويت بأنه كان موقف الغيور على شرف المرأة العراقية، وبغض النظر عن الذين يفسرون موقفه هذا بأنه أراد أن يعزف على وتر حساس ليثير تعاطف العراقيين معه، وكان الأجدر به أن يعاقب ولده الذي انتهك شرف العديد من العراقيات، لكن أبرز هذه الصفات هو (حب المواجهة)، فالمتأمل للتاريخ الشخصي له على مدى نصف قرن، يجد أن صدام كان لا يرتاح للهدوء والاستقرار، وأنه كان يعمد إلى خلق أزمة تفضي إلى مواجهة ومجابهة، إذا شعر بأن الاستقرار سيطول زمنه، وهذه حاجة نفسية عصابية قسرية في شخصية المتحدي متحكمة فيه.
2. نمط الشخصية المتحمس:
من أهم صفاته: الجرأة، والنشاط والحيوية، ويكون إنساناً عملياً، لكنه اندفاعي غير منضبط، يسيء استعمال مواهبه وقدراته، ويستغلها بصورة سلبية، وهذه موجودة في شخصية صدام حسين، فهو يمتلك من الجرأة والنشاط ما لا يوجد عند من هم بمنصبه أو بعمره، وهو اندفاعي أيضاً استعمل قدراته بصورة سلبية، فغزوه للكويت مثلاً، كان ناجماً عن حالة انفعالية، وما كانت عقلانية قطعاً.
3. نمط الشخصية النرجسي:
وأهم صفاته: الميل لإخضاع الآخرين لآرائه ولمعتقداته الخاصة، واعتقاده بأنه يمتلك قدرات استثنائية أو خارقة، وشعاره هو (أنا مميز)، وعليه فإنه يجد نفسه أنه أفهم من الآخرين وأرقى منهم، وأن عليهم أن ينفذوا طلباته.
وواضح أن هذه الصفات موجودة في شخصية صدام حسين.
4. نمط الشخصية السايكوباثي:
وهذا يتصف بالسادية والعنف والقسوة مع الخصوم، ويعد إيقاع الأذى والألم بهم حق مشروع له، ولهذا فهو لا يشعر بتأنيب الضمير عندما يعذب خصومه أو يصفيهم جسدياً، وتفيد الأحداث أن هذه الصفات موجودة فيه أيضاً.
والاستثناء في شخصية صدام حسين أن صفات هذه الأنماط الأربعة (بإيجابياتها وسلبياتها) اجتمعت في تركيبه وشكلت الركائز الأساسية في شخصيته، ولهذا فإنه خلق أكثر من صورة ذهنية في أذهان الناس، فهو عند كثير من العرب وبعض العراقيين يمثل (شخصية المتحدي) التي تثير الإعجاب، وتبرر له أخطاءه، وحتى جرائمه، وهو عند معظم العراقيين (شخصية السايكوباثي) العنيف القاسي الذي لا توجد في قلبه رحمة تجاه خصومه، والنرجسي الأناني الذي احتكر الثروة لنفسه، وأنفقها في ترف سفيه، يأكل السمك المسكوف ولحم الغزلان المطعم برائحة الهيل، فيما شعبه يأكل الخبز الأسمر (بل الأسود).
صدام.. كيف يرى نفسه؟
لدينا في علم النفس ما نسميه (مفهوم الذات) Self Concept، ونعني به الآراء والأفكار والمشاعر والاتجاهات التي يكونها الفرد عن نفسه، وهو يتضمن جانبين: (الذات كموضوع) أي معرفة الفرد لذاته وتقييمه لها، و(الذات كعملية Process ) أي كحركة، وكفعل، وكمجموعة من النشاطات والعمليات العقلية، كالتفكير والإدراك والتذكير.
ويتشكل هذا المفهوم منذ الطفولة عبر مراحل النمو المختلفة، وفي ضوء محددات معينة يكتسب الفرد خلالها فكرته عن نفسه، وهذه الأفكار والمشاعر والاتجاهات التي يكونها الفرد عن نفسه ويصف بها ذاته هي نتاج أنماط التنشئة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي وأساليب الثواب والعقاب والاتجاهات الوالدية، فالطفل الذي يرى والده على أنه محبوب وذكي واجتماعي ولطيف، يرى نفسه كذلك، فيما الطفل الذي ينشأ في البيوت المتصدعة والظروف المحيطة بهذا التصدع، نتيجة وفاة الأب والانفصال الأسري، يميل إلى تكوين مفهوم سلبي عن الذات.
والنقطة الجوهرية هنا هي أن (مفهوم الذات) يعمل بوصفه دافعاً أو محركاً لسلوك الفرد، فهو، بتشبيه مبسط، مثل داينمو السيارة يشكل قوة دافعة، توجه وتنظم السلوك وتحدده، وتؤثر في توافقه وطريقة إدراكه للناس والأحداث.
إن البدايات الأولى لتشكيل مفهوم الذات لدى صدام حسين ما كانت سليمة بالوصف المعروف عن أسرته، فوجد في حزب البعث ما يشبع فيه حاجة نفسية في أن ينقله من دائرة الإهمال الأسري إلى دائرة الاهتمام الاجتماعي، وعزز الحزب لديه مفهوم (الاقتحامي) الذي لا يخاف، ثم تطور إلى مفهوم (المناضل) ثم (البطل) ثم (الرمز) عبر خمسين سنة من خبرات متنوعة وعميقة ومتطرفة ومتناقضة، من فشل وإحباط ونجاح وتفوق استثنائي، أوحت له بالقناعة بأنه (بطل استثنائي)، وصادق عليها من كانوا يعدون أنفسهم ويعدهم هو أيضاً (أبطالاً) ولكن دونه درجات، والحق أن صدام يمتلك قدرات عقلية غير عادية، وقابليات جسمية استثنائية؛
وأن في تكوينه البيولوجي ما يشير إلى ذلك، فالمعروف لدينا أن الناس يقعون في ثلاثة أصناف من حيث نوعية الجهاز العصبي المركزي، الأول يتمتع بجهاز عصبي قوي، والثاني بمستوى متوسط، والثالث بمستوى ضعيف، وأن معظم الناس يكون لديهم هذا الجهاز بمستوى متوسط، فيما القلة منهم يكون جهازه العصبي المركزي قوياً، وصدام من هذا الصنف، والدليل على ذلك أن ما جرى من فقدانه لإمبراطوريته وحياته خرافيته ومقتل ولديه وتشتت أفراد أسرته.. لو أنها جرت لشخص آخر لانهار أو انتحر، ومع كل ذلك فإنه ظهر أمام قاضي التحقيق متماسكاً، وأراد أن يظهر للناس بأنه ما يزال قوياً، بالرغم مما أصابه من إهانة نفسية، وإذلال للكرامة، وأنه ينظر إلى نفسه بأنه ما يزال الرئيس الشرعي للعراق، وأراد أن يوصل رسالة بأنه الزعيم الحقيقي للأمة العربية.
بطل تراجيدي.. أم شرير؟
وعلى وفق هذا المفهوم للذات، فإن صدام ينظر إلى نفسه على أنه بطل في مسرحية تراجيدية يمثل الآن آخر فصولها، ومعروف أن بطل المسرحية التراجيدية ينتهي بموته في مشهد يثير التعاطف والشفقة وربما (التوحد) به، وأنه سيعمل على أن يكون مشهد المحاكمة كذلك، إذا بقي يعد أوهامه حقائق مطلقة، ولم يحصل معه حوار يقنعه بأن معتقداته هذه أوهام ليس إلا، ويعترف بأخطائه وجرائمه التي سيجد لها ألف سبب لتبريرها، وسيكسب المشهد إن نجح في تحويله إلى محاكمة سياسية.
وسيكون القضاء العراقي في امتحان حقيقي، فإذا استطاع أن يثبت بنزاهة أن هذا الرجل شرير في حقيقته وأفعاله، واقتنع الرأي العام بذلك، عندها ستنهار صورة (البطل المتحدي) في أذهان المعجبين بصدام، وستكون تلك المحاكمة أفضل جلسة علاج نفسي، ليس فقط للحكام العرب، إنما أيضا للمصابين بمرض التوحد بـ(البطل المخلًص).
شركاء.. في صنع شخصية صدام
ليس من الصحيح علمياً، أن نعزو سلبيات وأخطاء وجرائم صدام إلى صدام نفسه فقط، وإنما هنالك شركاء في صنع شخصيته، أولهم أسرته.. إذ شاع أنها عاملته في طفولته بشيء من الإهمال المادي والنفسي، مما اضطره إلى أن يعيش في بيت خاله، فضلاً عن أن علاقته بأمه سببت له عقدة نفسية لتعدد زيجاتها، وتلقيه معاملة قاسية من أحد أزواجها (وسنفصل في ذلك لاحقاً).
والشريك الثاني هو الحزب الذي انتمى إليه (حزب البعث) واعتماده أساليب التخويف والتهديد والتصفية الجسدية مع الخصوم السياسيين.
والشريك الثالث هم (العراقيون) أنفسهم في مرحلة صعود صدام في السبعينيات تحديداً، وفي مقدمتهم أساتذة جامعة وعلماء ومثقفون وفنانون، أضفوا عليه صفات استثنائية من قبيل (هبة السماء إلى الأرض)، فضلا عن الحشود الضخمة التي كانت تملأ الساحات تمجد صدام وتعده (بطلا استثنائياً).
والواقع أن تأليه (العراقيين) لصدام حسين وتمجيدهم له (في السبعينيات تحديداً) نابع من حاجة سايكولوجية، وذلك أن السلطة في العراق، وعلى مدى أكثر من ألف وثلاثمائة سنة مارست الظلم والقسوة والطغيان على الناس، وأوصلتهم إلى حالة الشعور بالعجز بعدم القدرة على التغيير، خلقت فيهم الحاجة إلى (بطل مخلّص)، وقد نجح الإعلام والثقافة في العزف على هذا الوتر النفسي، ليخلق في اللاشعور الجمعي لدى(العراقيين) صورة (الرمز) لهذا البطل المخلص، فضلاً عن أن تاريخ الحكام القساة اللذين حكموا البلاد أسهم في تكوينه الإدراكي لرجل السلطة في العراق بـأنه لا يمكن أن يعيش ويحافظ على كرسيه إلا بأن يكون أكثر قسوة وأشد عنفاً منهم.
معتقدات صدام.. أوهام أم حقائق؟
يعرف المعتقد بأنه فكرة يكونها الشخص بخصوص شيء أو موضوع، ويمكن أن تكون هذه الفكرة عقلانية ويمكن أن تكون غير عقلانية. ويمكن تعريف الوهم بأنه كل معتقد غير واقعي، وغير عقلاني، أو يستحيل تحقيقه.
والواقع أن الكثير من المعتقدات التي يؤمن بها صدام تبدو لنا أوهاماً، وأول هذه الأوهام هو معتقده بإمكانية توحيد الدول أو الأقطار العربية في دولة واحدة، يسودها نظام اشتراكي وتتمتع شعوبها بالحرية، وثاني هذه الأوهام هو معتقده بأنه أفضل العرب لرئاسة دولة الأمة العربية. فيما يشير الواقع العربي إلى أن الوحدة العربية لم تنجح بين قطرين عربيين، وأن صدام لم يمنح الحرية ولم يطبق الاشتراكية في البلد الذي حكمه لأكثر من ثلاثين سنة.
العبرة.. للحكام.. والشعوب
إن في محاكمة صدام أكثر من عبرة بليغة لحكام العالم الثالث، وللعراقيين ومن سيحكمهم، منها:
٠ أن من سيحكم العراق مستقبلاً، عليه أن ينحي جانباً فكرة (البطل)، وينظر إلى رئاسة الدولة على أنها وظيفة يشغلها لزمن محدود.
٠ وأن على العراقيين أن يكفوا عن تمجيد الحاكم، وأن يغسلوا لا شعورهم الجمعي من فكرة (الرمز) و(البطل المخلّص).
٠ وأن على العراقي الذي يهوى السياسة ألاّ ينتمي لأي حزب يميل إلى استعمال أساليب العنف في تعامله مع خصومه.
وأخيراً، فإن الحكام العرب سيعتريهم هاجس المصير نفسه في أثناء متابعتهم لمشاهد المحاكمة، وسيوازنون بين أنفسهم وبينه في ظلمهم وفي عدلهم، وأظن أن أكثرهم غير عادلين، ولا أقول ظالمين.
واقرأ أيضاً:
التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / دوافع الموقف العربي من صدام حسين / مجانين تنعي صدام حسين مشاركات2 / من قصيدة لبغداد / سقوط بغداد