لم أقلق أثناء الثورة ولا في أثناء (موقعة الجمل)، لكن قلقت بعض الشيء عند أحداث (أطفيح) واستبد بي القلق تماما في أحداث إمبابة.
"القلق المستبد" كالشهوة المستبدة، ينزف، يستنزف، يحرق، وما بين محاولة تطبيق الحكم بالسجن على (العادلي) ورفض ارتداء البذلة الزرقاء على أساس أنه ورفاقه في (محنة ترانزيت)، سيخرجون بعدها بأي ثمن، ليس بالضرورة أن يأتي مبارك أو ابنه لكن بالضرورة أن يستمر نهب مصر وألا تُغلق أبواب الفساد.
لكن صديقي طبيب الأسنان المسيحي، كان قبل سنة أو نيّف حزين لأنه جعل أولاده يحبون مصر التي فسدت وكان يتمنى أن يهاجروا إلى كندا أو أوروبا مثلاً، صديقي وطبيبي كان اليوم حزيناً للغاية لأن المصريين المسيحيين أصبحوا (ملطشةـ عل...) وفوجئت به صريحاً للغاية، يؤكد لي بثقة أن لا إسرائيل ولا أمريكا يريدان لمصر أن تكون قوية وغنية، وكان مبارك ونظامه، ووزراءه وضباطه ورجال أعماله، كنز استراتيجي لإسرائيل (حسب تصريح قادتها)، بمعنى أن في خلال فترة حكمه أنهك مصر وحاول إفساد روحها، دمّر اقتصادها، قضى على زراعة القطن والقمح تماماً لصالح العدو الإسرائيلي ولصالح أمريكا التي ترفض تماماً وجود دولة بحجم مصر التاريخي والحضاري قويةً تؤثر على وجود دولة لا تتميز بشيء إلا بتفوقها العسكري الذي لا يعنى شيئاً في بحر الحضارات وذكاء الشعوب العربية الثائرة، يقال ـ والعُهدة على الراوين جريدة الفجرـ أن محمد حسنى مبارك قال لعمر سليمان مشيراً برأسه إلى المشير طنطاوي بحضور سامي عنان (خلّيه يشيل) لم يقصد مبارك (يشيل مصر بثورتها الفتية)، لكن كان يقصد (يشيل مصر خائفة، مفتتة، تسقط منها الإشاعة على جموع من الجهلة الأميين دينياً وأبجدياً؛ فتشعل الحرائق هنا وهناك، تحصد الأرواح حصداً).
فرحت الثورة بأنها (سلمية) تلك الصفة الكريمة التي رددّها السيد أوباما المتعهد بحماية أمن إسرائيل بشكل مطلق، رددّها مرتين (سلمية ـسلمية) معجباً بها، وعلى الرغم من أنها بالفعل ثورة بيضاء، إلا أن مقاومتها لما كان، كان (على قدّْها).
الثورات الناجحة لها أسنان، لها أيديولوجية، وقائد، ولها ميلشيات، سلاح الجيش لم يحتضن الثورة إلا بعد أن نجحت في الاستمرار، وغياب (صورة الرئيس) يكمُن في العقل الباطن للناس، والبلطجي ببعض أقراص (ترامادول) من ذلك الذي ترمي به سيارات نقل بدون أرقام عبثاً في مناطق عشوائية (شبرا الخيمة ـمثالاً) فيضيع الفكر والعقل، ويموت الضمير ويصبح البلطجي بالفعل كالروبوت، تُحركه فلول الوطني ورجال الأعمال وضباط العادلي السابقين.
ما بين الحكم بالسجن على حبيب العادلي، وبين كارثة إمبابة كان مؤتمر مصر الأول في قاعة المؤتمرات، كان لا يمكن أن يمر الحكم هكذا في ظل دهشة العادلي، إن باستطاعة القاضي الحكم عليه هو بالسجن، وهو.. حبيب العادلي قائد ميلشيات البلطجية (أربعة آلاف وخمسمائة بحسب بعض المصادر أي ربما أكثر عدداً من تعداد الجيش المصري).
سخر المحامي المشهور من الثورة قائلاـ (ثورة إيه وبتاع إيه، دى انتفاضة وائل وشادي).. وهي بالفعل لم تكن كذلك، كانت ثورة الشعب المصري كله ما عدا هؤلاء اللصوص والقوادين، لكن الظاهر للعيان، أن وائل (شرحوه وتركوه صامتاً متفادياً للعمل العام، يحاول القيام بمجهود تعليمي من خلال ترجمة الفيديو على النت، على طريقة سلمان الهندي، أسرع وسيلة للنهضة ولنشر المعرفة ومحاربة الوعي الضيق، ومرةً أخرى، بالطبع إسرائيل لا تقبل بذلك أبداً؛ فالمصريين عدا (حفنة) يجب أن يظلوا فقراء، محرومين، جهلة، مرضى، معوقون.
أما (شادي) فهو الثائر الحق يعمل وينظم وينتظم لكنه أصبح كذلك مذيعاً في قناة جديدة وبرنامج جديد، والكل فرحان بتلك (الهيصة) الديمقراطية.
إن المسالة أبعد وأعمق من لجان جديدة، وأحزاب جديدة، وكما قال د. طارق حرب فالسرطان لا يعالج إلا بالاستئصال، والجرّاح الشاطر بل أي جراح لا يتمكن من العمل ويداه مرتعشتان، وأتذكر جراحاً لقلوب الأطفال أًجبر على ترك مهنته لأنه يداه كانتا ترتعشان، والثورة لم تزل جنيناً ليست له ملامح، أعداؤها كـُثير داخل وخارج مصر، إعلامها ضعيف، تلفزيونها عاجز، قنواتها مفتتة ولا تضمّها سوى قاعات المؤتمرات وميدان التحرير، ثورة فقيرة تعاني الإنهاك بعد أن خوت خزنتها وسرقت نهاراً.
من هم في السجون يحركون خارجهم، هم سجناء أحرار، ومن هم خارج السجون أحرار معتقلون في إطار نظرية واحدة، ألا وهي إسقاط الثورة بكل رموزها ومفاتيحها حتى لو كلف ذلك الغالي والنفيس، فلا مانع من صرف المليارات وفتح أبواب مخازن الأسلحة كما ذكر بلال فضل في أخطر مقالاته (هذا بلاغ للشعب).
الدين كالأرض وكالعرض، مقدس، المساس به مساس بالكيان والإنسان، والكنيسة رمز ليست مجرد زينة وصلبان وأحجار مصفوفة.
إن أعداء الثورة يدركون تماماً وهم كـُثر وفي منتهى الدهاء والخبث والقدرة على إدارة المؤامرة بحذق ومهارة لا تضارع، يدركون جيداً أن الدين نقطة ضعف وثغرة يمكن إشعالها في أماكن الوباء، والأرض الجاهزة، امبابة، عين شمس، الصعيد.
كافأ أعداء الثورة حكام مصر الحاليين وأظهروهم مرتعشي اليد وأوضحوا أن (المخابرات) لم تتمكن من سد فراغ (أمن الدولة) بعد أن انهار جهاز الشرطة والآن يَحبي دون أقدام، ويحارب دون أذرع وكل العلاقات مع (السلفيين، الإسرائيليين، الإخوان الـ C.I.A).. مع ضباط الداخلية الحاليين والسابقين وبعضهم إن لم يكن كلهم يخدمون نظام مبارك ويقبلون قدميه قبل يديه لدى كل عملية ناجحة.
هل نخشى من (الإعدام) علناً في امبابة أو في ميدان التحرير، لأن ثقافتنا (رقيقة المشاعر)، وأننا شعبٌ (سلمي)، سيحترق سِلماً وسلاماً، ويقولون بالبلدي أن الفرق بين الطيبة والهَبل شعرة، وأن ضراوة العدوّ الإسرائيلي وكل من يكره لمصر استقرارها وقوتها وغناها، كل من يحب ويهوى إفساد فرحتها.
رأى مذيع معروف في مبارك أنه (أجمد من ربنا)، أستغفر الله العظيم، لكن هو كذلك بالفعل يؤكد على ذلك مع كل عملية ينفذها رجاله بعد أن (شال الجيش الليلة وشال الشعب خراءه وبلوته وفضائحه)، لا يريد أن يموت إلا بعد أن يرى الثورة يأكلها بلطجيته، أولئك الذين يعاقرون الخمر وينامون مع أكثر من امرأة ورجل، ويدخنون الكوكايين، هؤلاء الذين يصيعون بوجوه مدممة مُشرطة مشروخة كالحة وأيدي خشنة، يضربون حبوب المخدر لكي لا يحسّون بخوف الإنسان، ولا بذنب البني آدم العادي، ويستخدمون نفس طرق أعدائهم التكنولوجية (غرف التشات) التي يخترقها ويدربهم عليها ضباط أمن دولة سابقين أو حاليين وربما بعض رجال مكافحة الإرهاب السابقين.
هكذا يبدو المشهد كالمثلث، (ضلع الأمن) بين يدي الجيش الذي وجد نفسه متورطاً في دور الشرطة، والشرطة التي تلملم جراحها، ضلع الحكومة بكل شرفها ونقائها ونزاهتها وقلة خبرتها في إدارة الأزمة وإدارة البلاد، لأن الحكم صنعة يحتاج إلى ممارسة، إلى صنايعي يقضي وقتاً يمارسه، لا أن يخرج من رحم الميدان فقط فنرفعه على أعناقنا، ونتمتم في أحاديثنا الأسرية ما أجمله، ما أروع مسْحته الإيمانية، هكذا فقط.
الثورة تريد وحوشاً وجيوشاً، تريد صرامة وشدة، حتى لا يكره الناس الثورة ويومها (بدؤوا كذلك فعلاً).. وهذا هو هدف مبارك وأذنابه، وحتى لا يردد الناس (مسروقين لكن مستقرين)، وهم مدركين أنه كان استقراراً أقرع، هش، منخور، مائع حقير، تداس فيه الكرامة في كل لحظة، لكن بالفعل الناس بدأت تردد ذلك القول إلى حد أن طبيب أسناني المسيحي إياه ردد (ما كنا عايشين، أنا بشتغل وأنت بتشتغل والدنيا زيّ الفل، مبارك كان حرامي، آه حرامي، يمكن حقه، نصيبه في إنه يمِّن علينا بالأمن والأمان، فاسد آه، لكن مفيش رعب كده وحزن كده وخوف كده).
لابد من وأد الفتنة وبعنف مماثل قاتل، لا بدّ من محاصرة ظاهرة "الشيخ جابر" الطبال البلطجي ـبحسب سرد أشرف جمال ـالذي أصبح أمير الجماعة في إمبابة ولا ننسى أن (أمن مبارك) سيطر على دولة جابر الإسلامية بعد مواجهة في عام 1992 في أكبر مواجهة، بتطهُر كمبضع الجراح القوي ذا اليدين الثابتتين القويتين الدقيقتين، بحرب شوارع استمرت سبعة أيام.
خطيئة جهاز مبارك الأمني أنه ظل يفعل ذلك من باب أن أمن مصر هو أمن الرئيس، وأنه لم يقضِي على بذور الفتنة، ولا أقتلع جذورها مستخدماً عناصر كثيرة من هؤلاء الجهلة، كعناصر مزدوجة متعاونة ومحاربتهم ببلطجية شديدي البأس، كل هؤلاء صاروا الآن سلاحاً في يد مبارك وأعوانه لطعن الثورة في سويداء القلب.
الضلع الثالث هو الناس بكل قضهم وقضيضهم، يريدون أن يحيوا حياتهم في عزّة وكرامة، ويودون أن يذهب أولادهم لمدارسهم وأن يأكلوا ويشربوا في هناء.
لا أحد يريد العيش فوق سطح صفيح ساخن، ولتلتقي أضلع المثلث وليكشف الجميع عن وجهه الحقيقي، ولتأتي لنا أجهزة المخابرات بهؤلاء الأوغاد المختبئين في أوكارهم، هؤلاء الذين لا هم لهم إلا سحق الثورة.
علينا أن نعيد قراءة التاريخ جيداً.
خاصة تاريخ كل الثورات في العالم، ولنعلم ولنتعلّم.
القاهرة 9/5/2011
واقرأ أيضاً:
ثورة 25 يناير وعرس الاستفتاء/ حشود الإسلاميين ومخاوف الأوصياء/ باستيل مصر/ منظومة الحرية/ الرؤية المستقبلية لمصر.