العلاج الجمعي والفلسفة (1 من 3)
(مدخل محدود من كتاب مقدمة في العلاج الجمعي 1978)
انتهت نشرة أمس بسؤالين:
1) أين العلاج النفسي الجاري أو غيره من كل هذا؟...
2) ألا يشوه هذا التنظير الفلسفي مسيرة العلاج النفسي ويخرجه عن هدفه، أو يفرض عليه ما ليس له؟
وفيما يلي الرد الذي كتبته سنة 1976 دون تغيير تقريبا وهو مرتبط بالبحث الذي كان هذا الكتيب بمثابة مقدمة له، وكان البحث على مجموعة من المؤهلين (ولا أقول المثقفين)، وفي عيادة خاصة، وإن كان الرد الكامل على هذين السؤالين وغيرهما لم يصلني كاملا تقريبا إلا من مجموعات قص-حر العيني خلال 37 سنة وسيأتي بعض ذلك في الكتاب الحالي.
لكن نبدأ بالرد القديم:
1- إٍن هذه المشاكل الكيانية والصيرورية موجودة عند الشخص العادي وهي ليست مشكلة خاصة بالمختصين في الفلسفة أبداً.
2- إن المرض النفسي -وهذا النوع بالذات الذي تمثله هذه المجموعة- في تقديري هو مواجهة عنيفة غير محسوبة (لدرجة الإخلال)، مع هذه المشاكل الحية التي يعيشها الأمي أو المتعلم على حد سواء.
3- إن وعي المعالج بها ومعايشتها هو ممارسة الفلسفة، أي الحياة، ولكن الوقوف عند عقلنتها - هو الخطر الحقيقي على مسيرة العلاج..
4- إن وعي المعالج بها، وتحديد موقفه منها، هو السبيل لإثارة وعي مقابل من جهة المرضى يساعد في تحديد موقف مسئول تجاه ما فرصته التغيرات البيولوجية المتعلقة بالنمو واستثارة الوعي.
5- أن المتتبع لما جاء في الجلسات بتمعن هادئ يجد أن مسيرة العلاج النابعة من المشاكل المطروحة وكذلك قواعد العلاج التي استنتجها الباحث تتصل اتصالا مباشراً بمشاكل الفلسفة الحية، التي إذا كنا قد نجحنا في الهرب منها فيما يسمى العلم، فإِن هؤلاء المرضى جاؤوا يذكرونا بها من واقع مأساة وجودهم، وليس أمامنا إلا أن نواجه مسئوليتنا تجاهها... أو أن ندمغهم وننفيهم هرباً مما يمكن أن يثيروه مما هو داخلنا فعلاً حتى لا يهددونا بالرؤية أو يدفعونا إلى المحاولة.
6- إن الأعراض التي جاءت بالمريض إلى العلاج كانت تزول أو تهدد بالزوال على الأقل بمجرد إرجاعها إلى أصلها وهي مشكلة الوجود أو فلسفته.
7- إن المشاكل التي أثيرت طوال الجلسات المعروضة، والقواعد التي اتبعت لم تتعمد ترجيح فلسفة بذاتها أو تلزم المعالج أو أحد المترددين على رأي محدد بقدر ما أثارت أغلب وجهات النظر الفلسفية المعروفة في بساطة دون أن نرجعها إلى أصلها الفلسفي بلغة مغتربة بحال من الأحوال. وذلك خوفاً من العقلنة (أو بلغة هذه الفقرة: إحلال التفلسف مكان الفلسفة) وأورد هنا بعض الأمثلة التي تؤيد هذه الفقرة:
(1) يلاحظ المتتبع للمناقشات ما يشبه مبدأ "التهكم والتوليد" الذي اتبعه سقراط للوصول إلى الحقائق، وقد ظهر هذا جلياً في رفض الإجابة على الأسئلة أحياناً، وقلبها جملا إخبارية أحياناً أخرى، وأيضا في طرح أسئلة مقابلة أحياناً أخرى.
(2) يبدو جلياً أن العلاج كان يهدف إِلى تأكيد افتراض أن لكل مشكلة جانبين يكادان يتساويان في القوة وأن على الفرد أن يفحصهما من خلال العلاج ليرجح أحدهما في مرحلة ما، وأن الدفاع عن كل منهما بنفس القوة كان يتم من خلال المناقشات، والانشطار، والسيكودراما، ويقترب ذلك مما جاء في محاورة بارمنيدس حيث يقول أفلاطون "إن لكل مشكلة جانبين ويمكن الدفاع عن أيهما بمثل القوة التي ندافع بها عن الآخر".
(3) يظهر مبدأ رفض الثرثرة والجدل العقلي (الدردشة) الذي تقرر في كل جلسة تقريباً ما يقابل النقد الموجع للسفسطائيين عندما ذهب فكرهم إلى درجة أن أصبحت غاية التفكير هي الانتصار على الآخر وليس الوصول للحقيقة..
(4) نجد هنا أيضا في الهجوم على الموقف الُحكمي لأحد الأفراد ما يؤيد، ولو بدرجة طفيفة موقف الشاك بيرون حين يؤكد أنه: لا مجال للحكم على شيء، بل لعل وراء موقف بعض البيرونيين المتطرفين اللي وصل إلى رفض الكلام نهائياً مادام الحكم لا قيمة له.. لعل هذا الموقف الغريب فيه إيحاء ضمني للتواصل دون كلام الأمر الذي أثير في المجموعة وناقشة الباحث بوضوح.
(5) كان في التأكيد على الحرية والاختيار والمسئولية ما يؤكد المبدأ الأساسي في الفلسفة والوجودية وهو أن الوجود يخلق نفسه باستمرار، وأن الإنسان هو حريته.
(6) إن محاولة الانتقال من الحب الفردي والعلاقة التكافلية المعطِّلة إِلى حب الآخرين دون تمييز ما يشير إٍلى موقف أفلاطون من الحب، ذلك الموقف الذي أسيء فهمه أشد الإساءة. بزعم أنه "عذري" أو "مثالي".. الخ
(7) نلاحظ أنه في مبدأ "أنا - أنت"، سعي المجموعة في إصرار إلى كسر التحوصل حول الذات لما يؤيد أن الوجود الفردي لابد له أن يتناسق مع الوجود العام، الأمر الذي ناقشه هيدجر تحت مفهوم "التواصل" و"ياسبرز" تحت مفهوم "الأنت".
(8) إن في التأكيد على ضرورة خوض تجربة حية كأساس للشفاء أي للنمو والتغير ما يقابل رأي جابرييل مارسيل في ضرورة العودة إلى تلك الخبرة الأولى.
(9) نشاهد كذلك في الجلسات تكرار محاولة، البداية الجديدة من تجربة حية بما يؤيد الرأي الوجودي المقابل سواء كانت تجربة مغامرة إظهار الضعف والاعتماد (ما يقابل هشاشة النفس) عند ياسبرر أو تجربة سقوط الدفاعات القديمة قبل ظهور البديل أي الاقتراب من المأزق (ما يقابل الغثيان عند سارتر)؟
(10) نرى في إعلان الحاجات اللذية للكيان الطفلي أو أحيانا الوالدي - بلغة إريك بيرن - أو هما معا إذا حدث تلوث ظاهر أو خفي.. ما يعلن اتجاه المدرسة الأبيقورية في تقديس مبدأ اللذة؟
(11) ثم يمكن أن نستشعر ظهور مبدأ البراجماتية في كل آن، وذلك بالإصرار على إرجاع كل مسار العلاج إلى الواقع العملي، ومثال ذلك حين تُرفض البصيرة العقلانية، ويصر المعالج والمجموعة على الوصول إلى البصيرة الحقيقة التي تستقر في القلب ويصدقها العمل...، وفي كل ذلك ما يؤكد المبدأ البراجماتي من أن الفكر غائي بطبيعته، وأن المعرفة لا ينبغي أن تكون إلا أداة في خدمة العمل؟
(12) أليس في محاولة تصعيد الإدراك لدى أفراد المجموعة من استقبال الآخرين والأشياء باعتبارهم "موضوعات ذاتية" إلى استقبالهم باعتبارهم "كيانات موضوعية"، ما يلقي بنا دون هوادة في خضم نظرية المعرفة بأمواجها المتلاطمة بين المثالية والواقعية وقد استعمل الباحث هذه التغيرات ببساطة لأنه استقاها من مصدر من مصادر التحليل النفسي، ولكن وراءها ما وراءها من إثارة مشاكل معرفية جسيمة، إلا أن استقبال المرضى لهذا التحول كان سلساً دون تنظير، مما يدل على أن "التجريب الفلسفي" ممكن بالصورة التي صورتُها في أول هذه الفقرة، بل هو قد أكد لي فعلا أن تطور الإدراك من الذاتية إلى الموضوعية لا يتم فقط بالطريقة التي اقترحها "كانْت" في مثاليته النقدية (التي لم أفهمها إِلا من خلال نظرية تنظيم (فعلنة) المعلومات) ولكنها أقرب ما تكون -أيضاً- إلى تصاعد مراتب الوعي عند هيجل في ممارسة تجريبية عملية..، وقد كان هذا يتم تحت ناظري في انبهار مذهل (الإنسان في أصول وجوده وحركة صيرورته!!).
(13) وأخيراً: إن في ما يجري في هذه المجموعة ما يؤكد، بل ويحقق فكرة الديالكتيك كأساس لمسيرة التطور كما نادى هيرقليطس إٍلى هيجل فماركس؟ وقد ذكر الباحث إٍشارات متتالية إلى ما أسماه مرحلة الولاف Synthesis.
وبعـد؛ نقف هنا لنتساءل (مايو 2011):
وهل كل هذه النظريات وغيرها تساهم بنفس القدرة في الربط بين هذا العلاج وبين الفلسفة، ولكن دعونا.
سوف نخصص نشرة الثلاثاء القادم لشرح بعض أبعاد حركية النمو من خلال خبرة هذا العلاج خاصة على خلفية تنظير المؤلف كما وردت في ذلك الكتاب 1976، وعلاقتها "بالجدل" وهو يقع في بؤرة فلسفة هيجل ونظريتنا في النمو والتطور والعلاج، وبخاصة العلاج الجمعي.
ويتبع >>>>>: العلاج الجمعي والفلسفة (3 من 3)
واقرأ أيضًا:
تعتعة نفسية العلاج بوصفة الأعراض(3) / ما تود أن تعرفه عن العلاج المعرفي السلوكي