اقترح اللورد أوين في مقال منشور في المجلة البريطانية للطب النفسي أن يدرج هذا التشخيص ضمن تصنيفات أمراض الطب النفسي، وقد عمل الدكتور دافيد أوين كطبيب نفسي لمدة زمنية انتقل بعدها للعمل بالسياسة واستطاع التدرج في عدة مناصب فكان زعيما للحزب الديمقراطي الاجتماعي في بريطانيا ثم صار وزيرا للخارجية، وبرلماني وكذلك عضوا في بعثة السلام ليوغوسلافيا السابقة ثم أنعم عليه بلقب لورد.
إن مفهوم "متلازمة الغطرسة" Hubris Syndrome هو مفهوم جديد ينطبق بالأكثر على السياسيين ولكنه يمس أيضا كل الوظائف المهنية في شتى المجالات كالمؤسسات، البنوك والجامعات....الخ. وقد أوضح اللورد أوين في مقاله كيف أن الحالة العقلية والجسدية تؤثر على صانعي القرار من الحكام والمسئولين، واستعرض تأثير الحالة النفسية والجسدية من خلال مائة عام لجون كنيدي كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية وعوامل إصابته بمرض أديسون وآلام الظهر التي كان يعاني منها والتي تسببت في استعماله لعقاقير ضد الألم وكذلك المنبهات والكورتيزون مما كان له أبلغ الأثر في اتخاذه لقرارات خاطئة، كما حدث في مشكلة خليج الخنازير من أجل الإطاحة بكاسترو في كوبا .وأتخذ كمثال آخر لندون جونسون، الرئيس الأمريكي السابق وكيف أصيب بالاكتئاب ثم اضطراب الهوس الاكتئابي Manic Depressive Disorder (ثنائي القطب Bipolar Disorder ) والتي ظهرت لديه جلياً خلال مشكلة حرب فيتنام. وأيضا أنتوني إيدن أثناء العدوان الثلاثي على مصر واستعماله المتكرر للمهدئات والمنبهات مما أثر في قراراته وكان من نتائجه استقالته من رئاسة الوزراء . فالأمثلة كثيرة والقائمة طويلة تضم على سبيل المثال رئيس فرنسا فرانسوا ميتران، وكذلك شاه إيران، والرئيس الأمريكي نيكسون الذي أصيب بالقلق والاكتئاب واستعماله المفرط للكحوليات.
وهناك أيضا أمثلة كثيرة بين الحكام العرب وفي أمريكا اللاتينية. ومن هنا نستطيع أن نستنبط العلاقة المباشرة بين ازدياد القوة والاستعلاء وظهور متلازمة الغطرسة وتتلخص أعراض هذا الاضطراب كالآتي:
النظرة على العالم كمكان لتمجيد ذاته بالالتصاق بالقوة، الأولوية في اتخاذ القرار لتضخيم صورته الذاتية، الاهتمام المبالغ بصورته وطريقة كلامه، استعراض السلوك والكلام على أنه مبعوث العناية الإلهية، خلط وذوبان الذات مع الوطن أو المؤسسة أي أنه هو الوطن أو المؤسسة، الاستعمال المفرط لكلمة نحن عند الحديث، الثقة المبالغ فيها بالذات، احتقار وازدراء آراء الآخرين، اعتبار أن حق مساءلته هو من اختصاص الله أو التاريخ وليس من حق الشع، الاعتماد الراسخ ببراءته أمام الله والتاريخ، فقدان التواصل مع الواقع، اللجوء للتوتر والأفعال الاندفاعية لتحاشي أو تجنب الاستعانة بآراء الآخرين، يخص نفسه بالاستقامة الأخلاقية دون النظر إلى أي اعتبارات عملية، أو التكاليف المادية أو المآل، فهو فقط المتحلي بالأخلاقيات، يتضح الاستهتار وعدم الكفاءة في صنع قراراته. وتعتبر هذه السلوكيات هي المتميزة والمتفردة لهذا الاضطراب وبالأخص (ذوبان الذات مع السلطة) ،(استعمال لقب نحن) (الاعتقاد الراسخ بتبرئته أمام الله و التاريخ)، (اندفاعية القرار)، (الاقتناع بالاستقامة الأخلاقية بغض النظر عن العواقب) وهذه المحكات غير موجودة حاليا في تصنيف اضطرابات الشخصية في التصنيف العالمي للأمراض النفسية.
كما يوجد بعض اضطرابات الشخصية Personality Disorders التي إن زادت عن حدها قد تصل إلى متلازمة الغطرسة منها الشخصية النرجسية Narcissistic personality العاشقة لذاتها، وكذلك الشخصية المستهينة بالتقاليد والأعراف Antisocial personality في سبيل الاستمرار في القوة والسلطة المطلقة. وأضيف هنا أنه دائما ما يخفي السياسيون والحكام مرضهم خاصة في النظم الشمولية وأحيانا في النظم الديمقراطية خوفاً من أن يكون لذلك آثار سلبية على انتخاباتهم التالية وتتلازم هذه السرية مع فترات حكمهم خوفاً من أن يشوب قراراتهم عدم المصداقية. ويبدو أن الأطباء الذين يعتنون بالحكام أمام مشكلة أخلاقية، فهو حسب قسم ابقراط يجب أن يلتزموا الصمت والسرية ولكنهم أيضا مسئولين عن وطنهم خاصة إن كان مرض الحاكم قد يؤثر بالسلب في إتخاذه للقرارات مما قد يؤدي بالوطن إلى كوارث .
إن المسئولية الأولى للطبيب وإخلاصه والقسم الذي أقسمه يضع سرية المريض في المصلحة الأولى. ونذكر هنا كمثال، بمفرمولام، وزيرة خارجية شمال أيرلندا عندما كذبت بشأن نوع ورم في المخ إن كان سرطاني الخلايا أم حميد، وإن كان هذا الورم قد يؤدي إلى اضطرابات سلوكية مما يؤدي للضرر بالوطن ولم يستطع آنذاك طبيبها المعالج من البوح بحقيقة هذا السر حيث أن واجبه الأساسي هو المريض، وقد عانى هذا الطبيب من تداعيات هذا الموقف كثيرا. إذن كشف سرية مرض الحاكم وحتى وإن أصبحت قراراته ضاره بالوطن تشكل مسألة أخلاقية في غاية الأهمية، الفرد أم الوطن حيث أن القسم الطبي للفرد وفقط!!!! وهي مسألة تحتاج لمناقشات عديدة في مجال الأخلاقيات الطبية.
فالمصاب بمتلازمة الغطرسة ليس عنده البصيرة لمعرفة طبيعة سلوكه، وأحد أنواع العلاج هو الوقاية في ألا يمكث أي حاكم أو رئيس أو قائد مؤسسة أو بنك...الخ أكثر من مدة محددة حوالي أربع سنوات مع احتمال تجديدها مرة واحدة، ومحاولة الطبيب الاتصال بأقاربه أو أصدقائه لحثه على العلاج النفسي أو حتى علاجه من الأمراض المصاحبة لهذه المتلازمة مثل القلق، الاكتئاب، التعود على الكحول،المهدئات أو المنبهات وكذلك اضطراب عدم التكيف مع العائلة والأصدقاء. ونحن نعرف جيدا أن السلوك الاندفاعي والعناد، والتجمد الفكري له مسارات عصبية خاصة في المخ خاصة المتصلة بالفص الجبهي ومسارات الدوبامين (موصل عصبي في المخ مسئول عن اللذة والمتعة).
ويوجد دراسات عديدة قامت بتصوير المخ تشيد بأن إيمان واقتناع المريض بشفائه يقوي جهاز المناعة وتفرز مزيداً من الموصل العصبي الدوبامين وكذلك أفيونات المخ (إندورفين Endorphins والانكفالين Enkephalins ) مما يجعل القوة والسلطة المطلقة مرض إدماني مثل مدمن الهيروين الذي يقوم بكل الأفعال المستهينة بالأخلاقيات والقيم للحصول على الهيروين وكذلك الحاكم المستبد قد يقوم بأي سلوك من تعذيب واعتقال وقتل في سبيل البقاء في السلطة و إلا سيتعرض لأعراض الانسحاب من المخدر.
لذا أهيب بواضعي الدستور المصري الجديد أن يقوموا بالوقاية في مواد الدستور من إدمان السلطة، وذلك لن يتحقق سوى بمراعاة البقاء في القوة والسلطة لمدة محددة مع ضرورة الشفافية والمساءلة الفورية، نريد قوة وسلطة المواطن وليست قوة وسلطة الحاكم مع الامتثال المطلق للقانون وتنفيذه.
نقلا عن الشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضًا:
أمراض السلطة(2) / فساد السلطة / عن السلطة والإيمان والدين / سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / الشخصية المتغطرسة: زملة هيوبريس أو متلازمة الغطرسة