تشير التقارير أن العراق صار ثاني أفسد دولة عربية ورابعها في العالم. فما الأسباب التي جعلته يتحول من حالة محدودة إلى ظاهرة؟...... بدايات هذه الظاهرة تعود لعام (1980) في المؤسسة العسكرية تحديدا" بين ضباط وميسوري حال من المجندين بدفع رشاو (هدايا) إلى آمريهم للحفاظ على حياتهم أو الحصول على إجازة يمارسون فيها أعمالا "تدرّ عليهم رزقا" أوفر من رواتبهم، و"شراء" قادة عسكريين بمنحهم أوسمة شجاعة بمكافئات مالية ضخمة وأراضي، خلقت منهم فئة ثرية جدا" ولدّت لدى الضباط الآخرين الشعور بالحيف فأخذوا (حقهم) من الدولة بالرشوة والاختلاس، نجم عنها (تطبيع نفسي) مهد لقبول هذه الظاهرة.
وجاء الحصار الذي اضطر أساتذة جامعة أن يعملوا (سواق أجرة) ويفتح مدرسون (بسطيات.. جنبر) لبيع السجائر، فدخل الفساد المؤسسات التربوية المسؤولة عن صنع الأخلاق ليلوث الضمائر الفتية ويهيؤها لمرحلة القبول حين تصبح شابة، لينتقل (التطبيع) الذي مارس عملية (ترويض الضمير) لثماني سنوات، إلى حالة (القبول) المبرر نفسيا.. لثلاث عشرة سنة.
في العام (2003) أطاح التغيير بالنظام ولم يطح بالفساد، بل توزع المحرومون على صنفين: سياسيون استلموا السلطة واستولوا على ممتلكات أشخاص ودولة، و(حواسم) نهبوا وفرهدوا ونطوا من الحضيض إلى (القمّة).. بنوا العمارات (بإحدى مناطق بغداد نقطة دالة اسمها عمارة الحواسم!) واشتروا الشقق الفاخرة في عواصم عربية. ولأنهم لم يحاسبوا، فقد ظهرت فئة من الناس أطلقوا على أنفسهم (النوادم) لأن ضميرهم الذي عدّ النهب حراما "في لحظته، تبين لهم فيما بعد أنهم أضاعوا الفرصة فصاروا من النادمين!. ويعني هذا سيكولوجيا، تعطل الضمير الأخلاقي لدى الذين كانوا مترددين في حوادث النهب والفرهود، وزيادة مساحة قبول الفساد المالي اجتماعيا".
وبتعرض العراق لأخطار داخلية وخارجية، ظهر عامل نفسي جديد ضاغط هو (قلق المستقبل) أشاع الظاهرة أكثر في زمن البرلمان الأول، وتحكّم بالغالبية المطلقة من المسؤولين فعدّوا وجودهم بالسلطة (فرصة) عليهم أن يستغلوها بما يؤمّن لهم ولأسرهم مستقبلا "ماديا مضمونا". وبممارستهم له صار فعل الفساد (شطارة) وتوقف الضمير عن التأنيب بعدّ الفساد حراما".
وبتعمق المحاصصة والطائفية السياسية شاعت (سيكولوجيا الاحتماء) التي تعني أن ابن الطائفة يحميه حزبه الطائفي، دفعت بعدد من هذه الطائفة وتلك إلى سرقة المال العام في اتفاق ضمني:(اسكت وأنا أسكت) منحهم الشعور بالأمن النفسي. وصار الفساد بحجم أكبر لم يشهده تاريخ العراق والمنطقة و"الفضل" في ذلك يعود لأمريكان وأجانب جرّؤا عراقيين على "هبرات" كبيرة.. وأمّنوا لهم الحماية.
وبسكوت الحكومة الحالية عن محاسبة الفاسدين، وتبادل التهم بين معممين سياسيين بشكل خاص ومدّعين بالزهد والنزاهة.. افتقد الناس نموذج القدوة وصار الموظف البسيط يردّ على ضميره: (إذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل.. فأنا لست بأحسن منه. وإذا كان حراما.. فلأضرب ضربتي.. ثم أذهب إلى الحج وأستغفر ربي.. والله غفور رحيم!).
إن تفاعل هذه الآليات على مدى ثلاثين سنة أفرز نتيجة سيكولوجية هي أن الناس حين تضطر إلى قبول أو غض الطرف عن سلوك كانوا يرفضونه، ويجدون أنفسهم غير قادرين على تغييره، انتشر بين غالبيتهم مخرجينه بتبريرات وإسقاطات تعطّل تأنيب الضمير على هذا الفعل. وبما أن الفساد شاع سيكولوجيا واجتماعيا فإن النصائح والمواعظ والتثقيف وخفض الرواتب الكبيرة... لن تقضي عليه، لأن الضمير الذي يتوقف فيه نبض الحلال والحرام يصبح مثل قلب توقف.. لن تعيد نبضه إلا رجّة كهربائية. والرجّة للفساد تكون بتشكيل محكمة من قضاة مستقلين تبدأ بمحاسبة الحيتان الكبيرة.. يأخذ فيها كل فاسد ومفسد جزاءه بالعدل، وتسترد ليس أموال الناس فقط.. بل الضمير الذي تهرّأ.. وهذا أثمن.
واقرأ أيضاً:
لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟ مشاركة / على باب الله 13 /3 مع العراق / الشهادة حق للفلسطينيين..محرمة على العراقيين!! / اجتثاث عروبة العـــراق!! / الهجرة من بغداد إلى بغداد!!