في مطلع عام 2011م أصدر عالم اللسانيات والمفكر العربي المرموق عبد السلام المسدّي كتاباً قيماً بعنوان (العرب والانتحار اللغوي)، وقد ناقش المسدي فيه جملة من المسائل التي تستحق منا كل العناية والمدارسة. وتدور تلك المسائل في إطارها العام حول ما يسميه البعض بـ(الحروب اللغوية) وظواهر موت اللغات واندثارها، ويعتقد المسدي بأن الحروب اللغوية لا تقل ضراوة عن الحروب العسكرية ولا السياسية، وقد عبّر عن ذلك ديغول بالقول: (لقد صنعت لنا اللغة الفرنسية ما لم تصنعه الجيوش) (الكتاب السابق، ص 45).
دعونا نتأمل بعض الأحداث والمشاهد اللغوية التي عرضها المسدي في كتابه دون تعليق حول دلالتها ولا استحقاقاتها. فقط لنتأملها جميعاً:
أولاً: يسوق عالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) في كتابه (ماذا يعني أن نتكلم) شهادة لها قيمتها تتمثل في الثبوت القطعي بأن المحتل سعى إلى ترسيخ نظرة دونية لدى الشعوب المحتلة إزاء لغتها القومية ودفعها من ثم لتعلم اللغة الأرقى (لغة المحتل).
وقد اندفع الفرنسيون إلى دعم اللغة البربرية في الجزائر إبان الاحتلال وبعده، ومن ذلك أنهم عمدوا بعد استقلال الجزائر إلى تأسيس (أكاديمية اللغة البربرية) ومقرها باريس. وفي سياق مشابه نجد أن (ساركوزي) حين كان وزيراً للداخلية عام 2006 تحرك لوضع ضوابط للتجنيس من بينها منع المهاجرين في الحديث فيما بينهم بغير اللغة الفرنسية.
ثانياً: اللغة العربية كانت تدرّس في البوسنة والهرسك في مرحلة التعليم العام، وأحسب أن الكثيرين منا لا يعلم هذا الأمر. وفي منتصف عام 2002م ضغط الأميركيون عليهم كي يتوقفوا عن تدريسها بحجة تطبيق برنامج شامل لمكافحة الإرهاب، فأصدر وزير التعليم هناك قراراً بوقف التدريس.
ثالثاً: بادرت فرنسا بإدراج ما تسميه بـ(العربية الدارجة) أو (العربية العامية) ضمن (لغات فرنسا) وذلك عند إقرار (الميثاق الأوروبي حول اللغات الإقليمية ولغات الأقليات)، ولم تكتف بذلك بل سعت فرنسا إلى إدخال العربية الدارجة كمادة اختيارية في امتحان شهادة البكالوريا (الثانوية العامة)، وذهبت أبعد من ذلك ففي يناير 1995م جعلت العربية الدارجة مادة كتابية تاركة للتلاميذ خيار كتابتها بالحرف العربي أو الحرف اللاتيني، وتولت الباحثة (دومينيك كوباي) مهمة الإشراف على ذلك المشروع، وهي معروفة بحماسها الكبير للهجات العامية واستنقاص العربية الفصحى والنيل منها، مع انتمائها المفضوح إلى اللوبي الصهيوني.
رابعاً: هنالك محاولات أخرى بذلت لإحلال الحرف اللاتيني بدل الحرف العربي من قبل أطراف أخرى، ومن ذلك الجهود البائسة في الجمهورية التي صنعها الأمريكان في العراق، إلا أنها باءت بفشل ذريع كما يبدو.
خامساً: قدّم سفيرُ أمريكي في تونس دعوةً لشاعر تونسي مجيد للشعر العربي الفصيح وهو مجيد أيضاً للون من الشعر الشعبي (الشعر الملحون) لإقامة أمسية شعرية، غير أن السفير اشترط عليه أن يلقي شعراً ملحوناً فقط، فأبى الشاعر وقال لنمزج بينهما، فرفض السفير وأصر الشاعر على رأيه، فأجهضت الأمسية وما وراءها!.
سادساً: في عام 2003 قدِم منتجُ سينمائي أمريكي إلى مدينة الإسكندرية وهو يحمل مشروع إعادة بعث مسلسل (افتح يا سمسم) بحلقات جديدة، ولم يكن لديه سوى شرط وحيد يتمثل في ألا يكون الإنتاج بالعربية الفصحى، على أن ُتختار أي لهجة عربية لأي قطر عربي.
سابعاً: أشار المسدي إلى أن هنالك جهات غربية عديدة -ومن بينها مجلس الاتحاد الأوروبي- تقف على أهبة الاستعداد لتمويل أي بحث يروم دراسة أي مظهر للهجات العامية، ويواصل المسدي القول (ولن تظفر بدانق واحد لو اعتزمت دراسة أثر اللغة العربية في قاموس اللغة الإسبانية أو قلت إني أعتزم البحث في الألفاظ المتداولة في اللغات الأجنبية والتي هي ذات أصول عربية) (ص 104).
أنا لا أسوق تلك المشاهد لمجرد إثبات عدائية الآخر للغتنا العظيمة في سياقات عديدة، بل للتأكيد على أن ثمة استحقاقات كبيرة تقع على عواتقنا جميعاً، ولئن كان حديثي السابق عن العربية موجهاً إلى الشباب والشابات العرب، فإني اليوم أوجه حديثي إلى متخذ القرار العربي في الحقول السياسية والتعليمية والثقافية والإعلامية، فنحن نحملهم وزر التخاذل عن دعم اللغة العربية والتقصير في حمايتها وتعزيزها كلغة قومية دينية لشعب عربي يزيد عدده على 350 مليون ولغة دينية لشعوب مسلمة يتجاوز عددها المليار، مع تقديري الجم لكل الشباب والشابات الذين تجاوبوا مع دعوتي لإطلاق حملات إلكترونية لدعم العربية وصونها، غير أني أنتظر منهم أكثر وأكثر.
كيف نسمح باستخدام اللغات الأجنبية كلغة رئيسة في عدد من المناسبات التي ُتعقد في عالمنا العربي في مشهد احتضار (الغيرة اللغوية) لدينا؟..
في حين أن الساسة الفرنسيين على سبيل المثال يشترطون في المرشح لليونسكو إتقانه للفرنسية أولاً. ويذكرنا المسدي بعدد من المشاهد التي انبرى فيها الساسة لحماية لغاتهم. ومنها أن السلطة المركزية في الاتحاد السوفيتي أقرت في مطلع القرن العشرين (حملة التنقية اللغوية) لحماية اللغة الروسية.
وحين رحل المحتل الياباني عن كوريا وكان قد منع تداول اللغة الكورية إبان احتلاله، صدر أول مرسوم كوري بحظر اللغة اليابانية واستدعي الشيوخ لتلقين الأطفال والشباب لغتهم القومية، وبعد انتصار (هوشي) في فيتنام أعاد الوهج للغتهم القومية وأعلن (فَتنمة المدارس)، فطلب أساتذة الطب إمهالهم بعض سنوات للانتقال إلى الفيتنامية فأنظرهم تسعة أشهر.
وفي الصين عمد (ماوتسي تونج) إلى إقرار توحيد اللغة الصينية بإقرار أن على كل صيني أن يتحدث (اللغة الخانيّة) وهي لغة بكين، وأن يدع ما سواها، أما جهود اليهود في إحياء العبرية بعد اندثارها فهي أشهر من أن تذكر.
ولنا أن نتساءل بحسرة: وماذا قدم الساسة العرب في هذا العصر لدعم اللغة العربية ومواجهة المهددات ومعالجة المعوقات أياً كان مصدرها ونوعها؟ لن أقول شيئاً محدداً كإجابة، وسأكتفي بالتذكير بأن تآزرنا كعرب سيكون له مردود ملموس في تعزيز العربية وحمايتها ونموها كأعظم لغة إنسانية متكاملة، ومن الشواهد الدالة على ذلك ما يسوقه الدكتور المسدي حيث يرى أن إدخال اللغة العربية كلغة سادسة ضمن اللغات المعتمدة في المنظمات الأممية في بداية عام 1974م حدث من جراء عدة عوامل، ومنها ما تحقق من انتصار عسكري وسياسي واقتصادي عربي عام 1973م، ولنقل بقدر من التآزر العربي والعمل المشترك.
هل تتحركون أيها العرب لحماية لغتكم ومن ثم ُهويتكم ولصيانة أعظم لغة إنسانية متكاملة، وهي اللغة الوحيدة التي عمرت قرابة 17 قرناً في حقيقة علمية قاطعة -فوفقاً للمسدي- (فلأول مرة في تاريخ البشرية - على ما نعلمه من التاريخ الموثوق به- يُكتب للسان طبيعي أن يعمر حوالي سبعة عشر قرناً محتفظاً بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية، فيطوعها جميعاً ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن ينتزع النظام الثلاثي من داخله..
إن اللغة العربية ُتلقي بتاريخها تحدياً كبيراً أمام العلم الإنساني، وهذا التحدي يبتهج به العلماء الذين أخلصوا إلى العلم مهجتهم، ولكنه يغيظ سدنة التوظيف الأممي، ويستفز دعاة الثقافة الكونية، لا سيما منذ بدأت المعرفة اللغوية المتقدمة على المستوى العالمي -وفي الجامعات الأمريكية تخصيصاً- تكتشف ما في التراث العربي من مخزون هائل يتصل بآليات الوصف اللغوي، ويقف على الحقائق النحوية العجيبة، ويستلهم مكونات المنظومة الصورية الراقية التي انتهى إليها النحو العربي: من حيث هو إعراب، ومن حيث هو منطق قياسي، ومن حيث هو كذلك علم بأصول الظاهرة اللغوية الكلية) (ص 26).
غير أن البروفيسور المسدي يرى بأن العداء الخارجي ليس هو الأخطر على اللغة العربية، إذ الأشد خطراً وفتكاً بها هو لون من العداء الداخلي أو ما أسماه بـ(آلية النسف الداخلي التي تهدد اللغة العربية بالانفلات الذاتي على يد أبنائها وعلى مرأى من ساسة أبنائها) (ص 26)، وذاك حديث يتطلب مقالاً مستقلاً.
ولعلي أعيد طرح السؤال المحوري:
ترى ماذا سوف تعملون أيها المتنفذون العرب في الفضاءات السياسية والتعليمية والثقافية والإعلامية إزاء لغتكم وهويتكم؟.
اقرأ أيضاً:
خطورة خلق صور ذهنية سلبية! / ضرورة التأسيس المعنوي للكيان الوطني! / الوطنية حقوق وواجبات.. وليست هي (الوطنية المترفة)! / صناعة النفاق الاجتماعي!