لم أستطع حفظ الوعد الذي قطعته على نفسي أمام ابنتي آية، حين طلبت مني وهي تضحك ضحكتها العذبة، أن أشرح لها دروس مادة التاريخ استعداداً لامتحانات نصف العام، شريطةَ ألا أكتب عن ذلك واحدة من مقالاتي، في إشارة منها إلى ما فعلته حين شرحت لها درس الكشف في المعجم، ثم كتبت مقالة تالية، أخذت من يدها (كتاب الوزارة) المقرر عليها في الصف الثاني الإعدادي، ونظرت في أول سطر منه، فوجدت فيه ما نصه: شبه الجزيرة العربية هي الموطن الأول للعرب، ومنها خرجت هجرات منذ القدم.. وينتمي العرب إلى الجنس السامي، نسبة إلى سام بن نوح.
قلت في نفسي ها هو أول القصيدة (إيمان ساذج) بهذه المغالطة التي شاعت مؤخراً، حتى صارت كأنها واحدة من البديهيات. أعني الاعتقاد بأن السامية جنس أو عرق أو سلالة إنسانية، تنتمي إليها جذور العرب واليهود والسريان، وغيرهم! مع أن حقيقة الأمر ومبدأه، كما يلي:
في أواخر القرن الثامن عشر، ابتكر عالم اللغويات الألماني لودفيج شلوتزر مصطلحاً جديداً، يصف به مجموعة اللغات العبرية والعربية والسريانية (الآرامية) التي يمكن ملاحظة اقتراب أصول بعضها من بعض، وأطلق عليها جميعاً، لغرض الدرس اللغوي، وصف اللغات السامية، وهو الوصف الذي صار مصطلحاً معروفاً للمشتغلين بفقه اللغة (الفيلولوجيا) يميزون به هذه المجموعة من اللغات (السامية) عن المجموعات الأخرى التي تضم لغات أخرى، مثل الفارسية والتركية واللاتينية.
وقد ابتكروا لهذه اللغات غير السامية مصطلحاً آخر هو: الهندو/أوروبية.. ولم يجد هؤلاء اللغويين وقتها ضرراً في استخدام مثل هذه المصطلحات الفيلولوجية الملغومة التي سرعان ما تحول معناها عن حدود الدرس اللغوي، فصارت دلالتها عِرقية (إنثوجرافية) متصلة بمفاهيم السلالات الأنثروبولوجية وأصول الجماعات الإنسانية.
وانتقل معنى السامية وشاع بسرعة في المائة سنة الأخيرة، حين نجح أبناء عمنا يعقوب عليه السلام؛ أعني اليهود! في إقناع العالم بأنهم الساميون، وبأن كل من يدوس لهم على طرف هو عدو للسامية.. حتى لو كان هذا الشخص من العرب الذين لا يقلون عنهم سامية، وربما يزيدون. ونظراً للسطوة الإعلامية لليهود المعاصرين، ونظراً لأنهم يشتغلون بالعلوم الحديثة، ويتصلون بالعالم بأكثر وأعمق مما نفعل نحن العرب؛ فقد استطاعوا أن يشيعوا هذه الدلالة الأخيرة لكلمة السامية، وأن يُسقطوا مع الأيام دلالتها الفيلولوجية (اللغوية) أو يهمِّشوها لصالح الدلالة السياسية التي تخدم أغراضهم..
والغريب في الأمر أننا نجعل هذا الوهم حقيقة بديهية يدرسها تلاميذ المدارس في بلادنا منذ الصف الثاني الإعدادي. ومع الأيام يصير سام وأخوه حام وقريبه بلعام؛ وغيرهم من الشخصيات التوراتية، كأنهم حقيقة تاريخية لابد من الاعتراف بها؛ لأنها صارت بديهية من كثرة ما تردَّدت! مع أن تاريخ الإنسانية لم يعرف (سام) هذا الذي انفردت التوراة بذكره. فكأن توراتهم هي المصدر الوحيد للمعرفة، وكأن اشتهار أي أمر كافٍ لجعله حقيقة.
ويوما ما سوف تعرف ابنتي آية خطورة خلط الدين والسياسة والتاريخ في مسألة (السامية) هذه، وتدرك أن تكريس هذا (الوهم) وتأكيده لتلاميذنا فيه خطر عظيم، ونقض للتاريخ الحقيقي، ومناقضةٌ للمنطق.. وأرجو منها يوما أن تغفر لي أنني خالفت وعدي لها، وكتبتُ هذه السطور.
من كتاب "كلمات – التقاط الألماس من كلام الناس"
اقرأ أيضاً:
ومرة أخرى... لا إبداع بلا خيال!/ القوةُ تفني ذاتها.. اللغة الإنجليزية نموذجاً!/ لو كنت شيعياً لقلت لإيران: لا!!/ الاستعمار، والقابلية له : هل يعيد التاريخ نفسه؟!!/ الإنسان والتاريخ