كتبتُ سابقاً بأن أمريكا إمبراطورية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية من حيث القدرة على التأثير وامتلاك مختلف أدوات الانتشار المادية والمعنوية؛ لكن هل يعني هذا الاستسلام؟ إن الاستسلام مخالف للفطرة البشرية، ولو كانت المسألة موازين قوى لما كان على الفيتناميين أن يُقاوموا، وكان على الجزائريين من قبلهم قبول الفرنسة، وعلى عمر المختار الانضمام للفاشيست... الاستسلام والخنوع مرفوضان شرعاً وعقلاً وفطرةً، حتى في أوج قوة أي إمبراطورية غاشمة؛ فكيف الحال ونحن نعيش عصر انحدار وتراجع هذه الإمبراطورية بشكل لا تُخطئه عين ناظرة!؟
(1) خطيئة التفويض
قرر أنور السـادات بأن 99% من أوراق اللعبـة في يد الولايات المتحدة الأمريكيـة، وإقرار كهذا ينطوي على غباء سـياسـي؛ لأنـه حتى لو كان صحيحاً لا يجوز التسـليم بـه وإعلانـه بشـكل يُعطي للأمريكيين قوة فوق قوتهم، ونفوذاً فوق نفوذهم، وخلف من بعد السـادات خلف ارتموا في حضن الأمريكيين بشـكل مقزز، بل أعطوا صكوك «المحبـة والصداقـة» للإسـرائيليين.
وسير مصر بمكانتها المعروفة نحو توقيع (كامب ديفيد) أفقد بقية العرب خيارات أخرى، مع ما كان عليه العرب من وضع لا يمكنهم من التصدي لخيار السادات الذي شكّل خطيئة بشعة؛ فالعراق دخل في حرب مع إيران ووقفت إلى جانبه دول الخليج والأردن، وسوريا انشغلت بلبنان وكان خلافها مع العراق كبيراً، ودول المغرب لكل منها شأن يُغنيها، وصدق توقع الشاعر عن وضع مصر (كامب ديفيد) والعرب:
كلهم سوف يقولون له: بعداً
ولكن..
بعد أن يبرد فينا الانفعال
سيقولون: تعال
وكفى الله "السلاطين" القتال!
إنّني لا أعلم الغيب
ولكن.. صدّقوني: ذلك الطربوش.. من ذاك العقال!
(من قصيدة لأحمد مطر)
وكذا قصيدته المشهورة عن الثور والحظيرة، حيث لم يرجع الثور ولكن سارت في إثره الحظيرة!
لقد سنّ السادات سنّة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها، وهي تسليم أمريكا ـبلا مقاومة أو مناورةـ كل الأوراق وتفويضها وهي أبعد من أن تكون مؤتمنة!
(2) وهم الضغط على (إسرائيل)
لطالما حلم العرب ـرسمياً طبعاًـ بضغط أمريكي ولو بكلمات ناعمة من شفاه ناعسة على (إسرائيل)، ولطالما ردتهم واشنطن خائبين؛ فهي حتى لا تكتفي بالامتناع عن التصويت على قرارات تلوم (إسرائيل) بخجل ومواربة، بل تقذف بالـ(فيتو) على مشاريع هذه القرارات، وكأنها تتعمد إهانة العرب واستصغارهم وإحراجهم، وكيف لا تفعل وهي ترى حالهم أشبه بملوك الطوائف الأندلسيين!؟ وقد تخلوا عن أو بددوا ما تبقى لهم من أرصدة القوة، هنا أتحدث مستبعداً قناعاتي وأفكاري التي يوافقني عليها الكثير حول حقيقة علاقة العرب بأمريكا!
ولقد رافق ووافق النظام الرسمي العربي في أوهامه مجموعة من الكتبة والمحللين، ومع احترامي للجامعات التي تخرجوا منها وتقديري للمؤسسات التي عملوا ويعملون فيها، فإنهم إما يُضللون أو حالمون واهمون؛ فلطالما تحدثوا عن أزمات بين واشـنطن وتل أبيب، و"توبيخ" رئيـس أو وزير أمريكي لمسئول إسـرائيلي؛ فيما نحن نرى الاحتلال على أرض الواقع يزداد تغوّلا ويُمعن في وحشـيتـه، ويتناسـب هذا طردياً مع الدعم المالي والسـياسـي والعسـكري الأمريكي للاحتلال، فعن أي أزمـة يُحدثنا هؤلاء..!!؟؟ ولو فرضنا أن ثمة أزمة فهل تستحق كل هذه المبالغة؟ وحتى بعد خطاب (أوباما) الأخير خرج علينا من يطلب إعطاء الرجل فرصة لأن ثمة تحالف بين الـ(ليكود) والحزب الجمهوري، وكأن الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه (أوباما) حزب عربي أصيل ضد الصهيونية و(إسرائيل)!
لا زلت أذكر كيف أن صحيفة واسعة الانتشار وضعت في مكان بارز على صفحتها الأولى خبراً عن أمر أمريكي (لإسرائيل): كفوا عن الثرثرة بخصوص العراق... مع حديث عن حل سيفرضه (بوش) على (شارون)، وبعد أسابيع قليلة احتلت أمريكا العراق وقدم (بوش) وعده الشهير لاحقاً (لشارون)!
لقد باعونا أوهاماً تلد أوهاماً، وتحدث البعض عن "عبقريـة عربيـة" سـتجعل أمريكا تتخلى عن (إسـرائيل) أو تضغط عليها، متى ذلك..!!؟؟ إذا تخلينا عن الخطاب المتشـدد وأبدينا مرونـة! فكنا على قدر من المرونـة والكرم العربي فقدمنا سـلفاً تنازلاً عن 78% من أرضنا للّصٍ، وقبلنا فكرة اعتبار هذا اللص شـريكاً وجاراً، وتناسـينا كل الآلام والجراح، لأنه يجب علينا أن نضمن مسـتقبل أبنائنا وأبناء جارنا؛ وجارنا يا جماعـة "مسـالم" جداً؛ فحتى الطفل في مدرسـتـه وجامعتـه يتعلم بأن هذه الأرض "أرضـه" منذ آلاف السـنين، وأن لـه هيكلاً في القدس يجب أن يُبنى من جديد، وحين أو قبل أن يبلغ مبلغ الرجال يتعلم فنون القتال بأحدث أنواع الأسـلحـة، فنعم الجار...!!!
وفي الوقت الذي يتحرك فيه من يدعون إلى الـ (ترانسفير) وإلى إبادة كل ما هو عربي على هذه الأرض، فإن هناك من ينصحنا بأن نظهر على قلب رجل واحد، وإلا فإن أمريكا لن تثق بنا!
والبعض الآخر وضع اللوم علينا؛ فكيف ترضى عنا أمريكا وحالنا لا يسرّ صديقاً؟ فعلينا أن نُقدم أوراق اعتماد إلى أمريكا لتقتنع بأهليتنا؛ أي أن نبني ذاتنا ليس لأجلنا بل لترضى أمريكا عنا... وما علمت من أحد قلع عينه لأن لابنه عيناً أجمل منها، وما سمعت عن رجل قتل ولده أو طرده لمجرد أن ابن الجيران أكثر منه تهذيباً معه، وهذا باعتبار العرب بمنزلة الابن أو الجار من أمريكا، وما أخالها تنظر إليهم إلا دون ذلك، وفعلها يغني عن قولها بأي منزلة تضعهم!
(3) مصطلحات مللناها
كتبت "عملية+السلام" في محرك البحث (جوجل) -ولمن لا يعرف فإن كتابة كلمتين بين علامتي تنصيص وبينهما إشارة الزائد؛ طريقة للبحث المحصور جداً، أي أن تكون الكلمتان متلاصقتان بنفس الترتيب- وكانت النتيجة 2510000 (مليونان وخمسمائة وعشرة آلاف لا غير!)، وحين بحثت عن المصطلح الإنكليزي بنفس الطريقة "Peace+Process" كانت النتيجة 6980000 (ستة ملايين وتسعمائة وثمانون ألفا لا غير!) فقد ظلوا يُرددون هذه العبارة حتى مللناها، لأنـه، وإن كانت النتيجـة هكذا في (جوجل)، فإنها على أرض الواقع آلاف الشـهداء والأسـرى والمزيد من المسـتوطنات، وخطر متواصل يُهدد القدس، ثم هل السـلام عمليـة أصلاً!؟ وما خطوات وطبيعـة هذه العمليـة، لقد كان الطرح العربي هو مبدأ الأرض مقابل السـلام، فكيف تسـتوي هذه المعادلـة مع مصطلح «عمليـة السـلام»!؟
قال المنظرون والمتفذلكون والحالمون والواهمون والضالون والمضللون والمخدوعون ومن هم على هذه الأنسـاق: علينا أن ننتظر الرئيـس الأمريكي (فلان) لأنـه حين يفوز بولايـة ثانيـة سـيتحرر من ضغط (اللوبي) اليهودي وسـيتمكن من الضغط على (إسـرائيل)؛ وكأن السـياسـة وتفاهماتها بين الرئيـس الأمريكي و(اللوبي) اليهودي «لعب عيال»، ورغم سـياسـة (جورج بوش) الصغير ظلَّ هناك من يُراهن على واشـنطن وضغطها، حتى جاءنا (أوباما)، فكان للإعلام ولإتقانـه التعامل معـه أكبر دور في بيعنا ذات البضاعـة المسـتهلكـة من جديد!
هو رجل أسمر -ينسون أنه نتاج علاقة غير شرعية بين أفريقي أسود وأمريكية شقراء-، وجذوره إفريقية وحتى أن له بعض الجذور الإسلامية، وذهب البعض إلى وصفه بالمرتد عن الإسلام، وهذا خلط وخطأ فادح لأن والده وكذا والدته لا ينتميان للإسلام؛ ونسي هؤلاء أن من يحمل هذه الصفات والجينات سيسعى بكل ما أوتي من قوة أن يُثبت ولاءه للعرق الأنجلوساكسوني لشعور ينتابه وتهديد يراه ويتوجس منه خيفة، ثم إن أمريكا لا تُحكم كما حكم زعماء عرب بلدانهم!
وخطابات (أوباما) المتقنـة زادت من صورتـه الرومانسـيـة، وتوهم البعض وتصرفوا وكأنـه "رئيـس دولـة عربيـة" وأنـه سـيعمل لصالحنا لا لصالح بلاده... فالحمد لله على الصفعـة التي أيقظت كثيراً أو بعضاً منا من أوهامهم وأخرجتهم من دائرة خزعبلاتهم، فلا قيمـة ولا وزن لنا قبل أن نمتلك القوة والمبادرة!
أما المصطلح الآخر فهو مصطلح «معسـكر السـلام في (إسـرائيل)» وهو مصطلح ينطوي على خدعـة كبيرة؛ فكأن هناك في (إسـرائيل) قوة كبيرة تُمثل نظيراً ومثيلاً لمعسـكرٍ آخر، فيما نتائج الانتخابات المتعاقبـة، والرصد العلمي للشـارع الإسـرائيلي يجعل ممن يُسـمّون معسـكراً مجرد مجموعـة لا وزن لها، ويزيد البعض بأن "حزب العمل" هو من يرأس "معسـكر السـلام"؛ هذا الحزب المعروف بتاريخـه الدموي، رغم ابتسـامات الثعلب العجوز (بيرس)، وحتى (يوسـي بيلين) دافع عن مجزرة قانا الأولى، والآن هناك من يُراهن على سـقوط الـ(ليكود) ليأتينا «كاديما» ونسـوا بأن هذا الحزب أسـسـه (شـارون)، وأن زعيمتـه الحاليـة "موسـاديـة" محترفـة، رغم كلامها المزايد على (نتنياهو)... لقد بقينا ندور في حلقـة انتخابات الرئاسـة الأمريكيـة، وما يجري داخل السـاحـة الحزبيـة الإسـرائيلية في مشـهد يجسّـد عجزاً وهواناً واسـتلاباً للإرادة!
ومن المصطلحات الأخرى التي مللناها «مستقبل المنطقة» لأن حاضرنا هو مستقبل ماضينا، ومنذ (سايكس ـ بيكو) ووعد (بلفور) وإقامة الكيان العبري أظلم المستقبل.
ومثله مصطلح «الشرق الأوسط» والذي لا هدف له إلا شرعنة وجود الكيان هنا واعتبارها مكوناً طبيعياً لا شاذّا... مللنا هذه المصطلحات بل قرفنا منها!
(4) لِمَ لا نتعلم!؟
كان المفكر إدوارد سعيد، وهو الحاصل على الجنسية الأمريكية، والمحاضر في جامعات أمريكا، يلوم العرب على تركيزهم على كسب صداقة الغرب وأمريكا، وكان يتساءل عن عدم توجههم لبناء جسور تعاون مع الهنود مثلاً.
حقيقـة إن العرب يتعاملون مع الهنود والصينيين، وغيرهم، لكنهم أعطوا تفويضاً مطلقاً لأمريكا في مسـألـة فلسـطين، مما جعل كفـة أمريكا ترجح؛ وأكبر دليل ما يُقال حالياً من أن عدم اعتراف أمريكا بالدولـة الفلسـطينيـة يُسـاوي صفراً حتى لو اعترف بها الآخرون!
لِمَ لا نتعلم من العدو!؟ فالحركة الصهيونية عملت أفقياً وعامودياً على تعزيز مواقعها، رغم أن عدد اليهود في العالم بأسره أقل من عدد سكان مدينة عربية كبيرة..!! لقد قوّوا من وجودهم في الولايات المتحدة، وساهموا في صنع القنبلة النووية، وفي نفس الوقت اخترقوا الاتحاد السوفياتي ويُقال بأنهم سرَّبوا للروس سرّ صناعة القنبلة النووية، وأقاموا مع نظام الفصل العنصري علاقات متينة وتعاونوا معه إلى أقصى حد، فيما اخترقوا صفوف الأفارقة، وأفهموهم بأن السود كما اليهود يُعانون اضطهاد الآخرين وعليهم أن يتعاونوا سوياً، وشجعوا «التوتسي» ودعموا (جون جارانج) وأقاموا علاقات مع أريتيريا وأثيوبيا، وتظاهروا بالوقوف ضد الصرب، فيما كانوا يتبادلون معهم الخبرات العسكرية؛ كل هذا وهم يضعون مصلحتهم وكيانهم فوق كل دولة وكيان بما في ذلك أمريكا... فلِمَ وضعنا كل بيضنا في سلة واشنطن!؟ ويا ليتها أنصفتنا...
(5) هناك خيارات أخرى
إذا طرحت الكلام أعلاه سيكون رد البعض التلقائي عليه هو اتهامك بترديد الشعارات، وكأن الشعارات أصبحت كفراً، وسيعزف على مسامعك لحن انعدام البدائل وانحسار الخيارات، وأن ما باليد حيلة، وهذا حكم القوي الظالم على الضعيف الطيب المظلوم صاحب الحق المهضوم في سوق السياسة اللئيمة، وسيأتيك بالمعادلة الممزوجة بسؤال: هل تريد أن تُحارب؟ وكأن لا بديل عما نحن فيه إلا الحرب.
والحرب -من وجهة نظري- أمر لا مفر منه في آخر المطاف، وأعلم أن الأمة لم تنضج بعد لهذا الخيار بمفهومه العسكري التحرري الشمولي، ولكن الحال يستدعي المغادرة من دائرة العجز وانعدام المبادرة.
نتذكر حسني مبارك في بداية انتفاضة الأقصى حين سأله مراسل قناة الجزيرة عن الحل والاتجاه وما هو العمل، فأجاب بسخرية:
ـ إيه يعني عايزين تحاربوا؟ الجزيرة عايزة تحارب؟ متروحو تحاربوا!!
وكأن الأمر يتعلق بدور في مسرحية كوميدية؛ وعلى كل حال ليس الحل في الحرب... ولكن بالتأكيد ليس بإعلان (تسيبي ليفني) الحرب من أرضك على شعب غزة المحاصر، والمنظر المقزز لتوكؤها على يد أحمد أبو الغيط!
ـ وليس الحل ببيع الغاز للكيان بسعر أنت تعلم حقيقته!
ـ وليس ببناء جدار فولاذي لزيادة حصار القطاع!
ـ وليس باعتقال الفلسطينيين وتعذيب بعضهم حتى الموت!
ـ وليس بمنع المتضامنين، بمن فيهم أعضاء برلمانات عربية وأجنبية، من دخول غزة بحجج واهية.
مصر الجديدة قررت فتح معبر رفح، وهذه خطوة من الخيارات غير خيار الخنوع لضابط إسرائيلي في معبر «كرم أبو سالم»، أو تحريك الجيوش للحرب، فهناك خيارات رائعة وشجاعة ومفيدة غير خيار الحرب الذي يُخوفون الناس به، فالرأي قبل شجاعة الشجعان.
الموقف خيار، وفي ظل الإرادة الشعبية والثورات ونزول الشعوب إلى الشوارع هناك خيارات وكلام غير ما كان يُقال؛ فإذا قالوا بأن (شاس) و(ليبرمان) لهم جمهورهم، فلنقل بأن لدينا قوى لها تأثيرها وجمهورها ولا يمكن أن نتجاهلها أو نقمعها... وهذه هي الديمقراطية! وإن قالوا: ازرع ثقافة السلام والمحبة والتعايش، فالرد: زرعنا وسرنا بها ولكن الآخر يعتبر (جولدشتاين) بطلاً، ومنهاجه التربوي والتعليمي وبنيته الثقافية، وتصرفاته على أرض الواقع، لم تتزحزح قيد أنملة، فلمن نزرع إذن؟!
من أجل هذا تمنينا أن نُقبّل رأس أو حتى يد (رجب طيب أردوغان) ونُعانقـه حين صرخ في وجه (شـمعون بيرس) ولم ينظر إليـه "كحمامـة سـلام وديعـة"، بل ممثلاً لقتلـه الأطفال في غزة، ويا ليتك يا سـيد عمرو موسـى تأبطت ذراعـه وخرجت معـه ولم تكتفِ بمصافحتـه والتبسـم في وجهـه... أرأيتم كم من الخيارات نمتلك؟!
(6) اللغة القديمة
قام الخطاب العربي الرسمي منذ الدخول في مرحلة استنساخ (كامب ديفيد) على ترديد عبارات من قبيل: إن ما تقوم به (إسرائيل) يؤثر سلباً على عملية السلام، عملية السلام في خطر... بالله عليكم كم تكررت مثل هذه العبارات يومياً في ظل استمرار العدوان؟ وهل أثمر هذا الخطاب شيئاً مفيداً «للسلام»؟ أو القول بأن ما تقوم به (إسرائيل) يخدم قوى التطرف ويزيد من نفوذها؛ من هي قوى التطرف؟ هل هي (ليبرمان) وحزبه الذين يُشكلون كتلة برلمانية كبيرة ويشغلون وزارة سيادية، أم المقصود حركة (شاس) وأنصار المستوطنين الذين لهم وزنهم وتأثيرهم الكبير؟
لا، هم يقصدون قوى عندنا، وهذا يُذكرنا بالمساومات البغيضة، وبالمجمل هذا الخطاب فاشل ثم فاشل ثم فاشل... لم نسـمع أي مسئول عربي، كبيراً كان أم صغيراً أو بين بين يواجـه الخطاب الأمريكي والإسـرائيلي بمعادلـة (1+1=2)؛ فمثلاً حين يتحدثون عمّا يُسـمونـه عنفاً أو إرهاباً؛ فيجب أن يكون الحديث عن سـبب هذا "العنف والإرهاب" وهو الاحتلال وممارسـاتـه؛ وحين يُكثرون الحديث عن (جلعاد شـاليط) يجب أن يُرد عليهم بأن (شـاليط) مكث خمـس سـنين حتى الآن في الأسـر وكان وما زال بإمكان قيادتـه أن تحل مشـكلتـه بأقل من خمسـة أسـابيع لو وافقت على إطلاق سـراح أسـرى وأسـيرات، ومن الظلم والإجحاف النظر بعين واحدة لهذه المسـألـة فهناك آلاف الأسـرى الفلسـطينيين وما يُناهز المائتين قضوا أكثر من ربع قرن خلف القضبان، والعديد منهم مرضى، وأحدهم قد حطم رقماً قياسـياً كأقدم أسـير في العالم، وحين يتحدثون عن إيران وبرنامجها النووي وخطرها على السـلام في المنطقـة بل على السـلام في العالم بأسـره يجب أن يُرد عليهم بأن (إسـرائيل) تمتلك قنابل نوويـة قبل قيام الثورة الإيرانيـة، وعدوانها متواصل قبل أن يكون لإيران برنامج نووي لا زال سـلمياً، وحين يتحدثون عن القوى الإرهابيـة يجب أن يكون الرد أن هناك دولـة إرهابيـة جميعنا رأينا كيف تُرسـل فرقـة موت مدربـة إلى فندق في دبي، وكيف تُرسـل جيشـها لقتل عُزل على متن سـفينـة في المياه الدوليـة، مع وقاحـة وصلف وإصرار على مواصلـة مثل هذه الأعمال.
متى يكون الحديث بهذه الطريقـة؟ إن هذا الحديث فقط يجري على ألسـنـة وأقلام بعض الإعلاميين العرب، لكن ما زال بعيداً عن المسـتوى الرسـمي، رغم أن فرصـة الثورات والتغييرات تتيح وبقوة تطوير وتقويـة لغـة الخطاب وأسـلوبـه.
(7) متربحون يُضيعون الوقت
لقد سُررت باستقالة (جورج ميتشل) وأتمنى ألا يحل مكانه أحد فقد سئمنا هؤلاء القوم، ولا يخلو شعبنا الفلسطيني من الظرف واستعمال الطرفة حتى في أحلك الأوقات فكان لقب (ميتشل) «مقشل» أما (دينيس روس) فكان «دنس»، و(كونداليزا رايس) لقبها «كندرة رايس»... وهكذا، فهذه الألقاب تُعبر عن وعي فطري فلسطيني بعدم فائدة هؤلاء، وأن الاحتلال مستمر في ظل جولاتهم المكوكية العقيمة. إن الحكومات الأمريكيـة تحل مشـكلـة البطالـة لهؤلاء الذين يتقاعدون من المناصب الوزاريـة والاسـتشـاريـة؛ فبدلاً من أن يتفرغوا لحدائق منازلهم واللعب مع كلابهم المدللـة، يُرسـلونهم إلى هنا مع مكافآت مجزيـة وبدل مهمات وسـفريات وخلافـه، وبعد أن يذهب أحدهم إلى بيتـه يبدأ بالتفاوض مع قنوات تلفزيونيـة وصحف ودور نشـر ليتحدث عن تجربتـه مع القضيـة الفلسـطينيـة ليجني أرباحاً جديدة، ويتظاهر بأنـه لم يكن "منحازاً" أبداً، بل "حريصاً على تقريب وجهات النظر"، ولا بأس لو قام بكشـف ما قد يُعتبر سـراً، بعد التنسـيق المسـبق مع أجهزة دولتـه، لزيادة أرباح كتاب المذكرات أو الحديث الصحافي، والتضليل في نفـس الوقت!
هؤلاء يُضيعون الوقت في الكذب والتضليل، ولا مراء في تبعيتهم للصهيونية العالمية، وهدفهم فقط تضييع الوقت في بيع الوهم وتزيينه حتى تكتمل حلقات أخرى من المشروع الصهيوني، لنبدأ من عندها ونَجُبُّ ما قبلها بحكم الأمر الواقع والمتغيرات وانتهاز الفرصة وعدم الانعزال عن خريطة السياسة الإقليمية والدولية... إلخ.
(8) الآن وفوراً
في ظل جميع هذه الحقائق والمعطيات، ومع وجود شعوب حية متحركة واعية يمكن سحب التفويض من أمريكا، وهي اليوم أضعف مما كانت عليه سابقاً، مع تغيير شامل في لغة الخطاب، والكف عن تقديم المبادرات، بل سحب المبادرة التي استهزأ بها (شارون)، والعودة إلى جذور القضية بشكلها المجرّد بعيداً عن الكلمات الخادعة، فهي قضية شعب شُرِّد واحتُلت أرضه، ولو أن العرب تقدموا في هذا الاتجاه فإن واشنطن ستحسب لهم ألف حساب، وما يمكن أن يجنوه سيكون مجزياً ومفيداً أكثر من خطاب الاستخذاء المكرر، الذي يُقابل بالاستعلاء... هذه هي الخطوة المطلوبة على المستوى السياسي، وعلى الشعوب الثائرة الضغط لتحقيق هذا الهدف الاستراتيجي: أي سحب القضية من أمريكا وإعادتها إلى حاضنتها الطبيعية.. الآن وفوراً!
الثلاثاء 28 من جمادى الآخرة 1432هـ -31/5/2011م
واقرأ أيضاً:
وهل الضفة الغربية/ بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة!/ أليس هناك مساجد في جنين؟!/ دروس لصحافيين عرب من العجوز المجربة/ الكتابة... لماذا وبأي هدف؟/ الحرية أولاً... الحريـة دائماً...