كل الثورات الكبيرة في التاريخ ارتبطت بأسماء أشخاص.. زعماء.. قادة.. أبطال، إلا تسونامي ثورات العرب (يناير، فبراير.. 2011) ما كان لها قائد في المشهد المرئي. لكن بطليها الحقيقيين شابان فقيران.. عاديان جدا، الأول بائع خضار راح يشكو حاله إلى الحكومة لتساعده في قوت أسرته، فصادرت بضاعته ودفرت عربته برجلها شرطية مع صفعه بيدها إلى وجهه مصحوبة بتحقير وشتيمة.
ولأول مرّة في تاريخ ثورات العالم، تشعل حالة انتحار بالنار لهيب ثورة أحرقت قصور حكّام عاهدوا السلطة أن يبقوا فيها مترفهين إلى يوم يخصّهم عزرائيل بالزيارة، فهربوا من قصورهم مذعورين ملعونين في (جمعات) كانت سودا على الظالمين بيضا على المظلومين.
ذلك هو "بوعزيزي" الشاب التونسي الذي أحرق نفسه في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 ، والمعروضة عربته الآن للبيع بآلاف الدولارات، وما كان يدّخر منها في السنة دولارا واحدا!.
كاد حدث إحراق بوعزيزي لنفسه أن لا يذكر أصلا، فقبله انتحر كثيرون، وأصيب بالجنون كثيرون، وأودع المصحات العقلية مثقفون وشعراء وفنانون ومناضلون، كان الجاني عليهم حاكماً عربياً مستبداً، وكانت أدواته شرطة سرية وأمن مخابراتي جرى لهم غسيل للضمير والأخلاق نظّفهم تماما من كل ما هو إنساني، حتى صار فعل الشر عندهم سلوكا عاديا، بل واجبا وطنيا!.
وكاد حدث الشاب بوعزيزي أن يمر عاديا لولا شاب آخر كان عاديا "مثله" يسكن عبر المحيطات اسمه مارك زكربيرغ، لم يكن يملك عملا أيضا لكنه يمتلك عقلا يعادل وزنه ذهبا، بل هو يساوي الآن 45 مليار دولار!.
كان مارك هذا هو مؤسس "الفيسبوك"، ابتكره أصلا لإحساسه بأن منغصات الحضارة جعلت الناس تعيش حالة اغتراب نفسي واجتماعي وأنهم صاروا بحاجة لوسيلة سهلة للتواصل الاجتماعي، وما درى أن أداته هذه ستصبح أقوى وأوسع وأسرع وأسهل أداة في تاريخ التحريض على الثورة.
ففي الثورة الفرنسية (1789) كانت الصحيفة أداتها، التي لا تصل إلا إلى آلاف، وكذا كانت جريدة "الشرارة" في ثورة أكتوبر 1917. وأذكر أيام كنت في وارشو عام (1982) كانت غدانسك توزع المنشورات بشوارعها، وكذا كان المنشور السياسي هو أداة التحريض عندنا، ثم تطورت إلى جهاز لا سلكي يوضع على قمة جبل ويطلق على نفسه "إذاعة" لا يعبر مدى إرسالها مائة كيلو متر.
كل أدوات الثورات السابقة كانت مسافاتها إعداد كيلومترات وتعداد مستقبليها آلافا، إلا الفيسبوك، عبر المحيطات ومستقبلي رسائله مليارات!.. معظمهم شباب بثقافة وطموحات تختلف عن ثقافة وطموحات أنظمة حكم صارت خارج الزمن. وما كان لعزيزي ومارك أن يكونا بطلي "تسونامي ثورات العرب" لولا أن الحكّام أفرطوا في إفقار الناس. فالفقر هو محرّك كل الثورات بالتاريخ، إذ يمكن للناس أن تصبر على استبداد الحاكم إذا كان عادلاً، لكن أن يكتنز المليارات ويعيش حياة خرافية عشرين ثلاثين وأربعين سنة وشعبه يشقى، فان تراكم كبت القهر والشعور بالحيف يملأ "الحوصلة" فتنفجر بغرزة إبرة، وكانت "عربــــــة" بوعزيزي الإبرة التي فجّرت "الحوصلة العربية". وكان "مــــارك" هو الذي أوصل الصرخة التي صاحت بالعرب قبل أكثر من ألف سنة: (عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه) فصرخوا.. وأدهشوا العالم بما يصعب تصديقه!.
أليس بوعزيزي ومارك هما بطلا هذا التسونامي المبارك، وإن علينا أن نقيم لبوعزيزي تمثالا بميادين التحرير وساحات التغيير في عواصم العرب، فثمة تسونامي عربي يتكون الآن قد يوقظه بوعزيزي آخر ليطيح ليس بحكّام ظالمين بل بحكومات فيها من يجهل أن فساد الحاكم أشدّ من ظلمه في إثارة الشعور بالحيف، وأقسى على الناس حين يشرعن ديمقراطيا!
نقلا عن: الشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
المؤتمر الإقليمي الثاني لعلم النفس (تقرير) / السلطة والمثقف… هل سيلتقي الجبلان؟