كنت أتصور أن هناك ما يسمى بالتربية السلطوية في العالم العربي، وهي تربية تقوم على السلطة الأبوية والمدرسية وتلغي خيارات الأبناء، وتعطي قيمة عليا للطاعة والانقياد بينما تستنكف التفكير والإبداع والتجديد، وتجعل أقوال الآباء والأجداد مقدسة بينما أفكار الأبناء والمعاصرين مدنسة.
إلى أن حضرت اجتماع مجموعة "نفسانيون من أجل الثورة" في يوم 23\6\2011م حيث كنا نبحث ملف التعليم، وما هو مطلوب فيه بعد قيام الثورة المصرية في 25 يناير وحضر الاجتماع خمسة عشر خبيرا وخبيرة في المجالات النفسية والتعليمية كلهم من المصريين إضافة إلى السيدة ليسلي وايتننج (خبيرة تعليم إنجليزية) والسيدة ديدي (خبيرة تعليم روسية)، وتطرق النقاش إلى جذور فكرة التعليم السلطوي ومظاهره وتداعياته.
وهذا يعود إلى 1800 ميلادية وما بعدها في بروسيا، حسب ما رصده John Gatto الكاتب وخبير التعليم، والذي رأى أنه بعد الهزيمة المهينة لجيش إمبراطورية بروسيا على أيدي جيوش نابوليون، اجتمع جنرالات الجيش لمعرفة سبب الهزيمة، فكان تفسيرهم أن الجنود كانوا يفكرون لأنفسهم أكثر من اللازم وكانوا لا يطيعون الأوامر. لذلك قرر علماء التربية والسلوك بتوجيه من الخبراء العسكريين تصميم منظومة تعليمية تهتم بغرس المعلومات المطلوبة، وتنشئة مواطنين ملتزمين بالطاعة للسلطة السياسية ليكونوا فيما بعد جنودا مطيعين في الجيش الإمبراطوري.
وكانت الدراسة عبارة عن موضوعات متقطعة ومجزأة تعطى في صورة حصص يقطعها جرس المدرسة كل ساعة، وكانت المكافآت تعطى للحفظ، ويتعود الطالب على الخضوع لسلطة المدرس والناظر وإدارة المدرسة (كما كان يخضع لسلطة الأبوين من قبل)، وبهذا يمكن تحويله إلى مواطن ذلول تتشكل اتجاهاته وقناعاته بواسطة سلطة الدولة ووسائل الدعاية الموجهة.
وانتقلت هذه السياسة في التعليم إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية بواسطة العلماء السلوكيين الألمان والذين شكلت أفكارهم جذورا لمعهد تافيستوك Tavistock التعليمي في لندن، والذي تفرع منه معهد هندسة المجتمع Social Engineering Institute .
وأصبح معهد تافيستوك مسئولا عن تصنيع الرأي العام وتشكيل الوعي لقبول الأنظمة واللوائح والممارسات وذلك من خلال وسائل غسيل مخ جماعية، والتحكم في النشاط العقلي، والبرمجة الاجتماعية، والسيطرة على المجموعات من خلال إحداث حالة من الرعب يسهل على الناس فيها قبول الأفكار المطلوبة. ولهذا المعهد المذكور تأثير هائل في الولايات المتحدة حيث تسربت أفكاره ووجدت أرضا خصبة من خلال معاهد ومراكز أبحاث شهيرة مثل كارنيجي وروكفلر وستانفورد ومورجان؛
ولم تكن تلك المعاهد الأمريكية معنية بالجانب العسكري بقدر ما كانت معنية بزيادة الإنتاج وتكوين الثروات طبقا لمفاهيم النظرية الرأسمالية الغربية، ووسيلتها لذلك مواطنين مطيعين وملتزمين بتعليمات الإدارة التزاما حرفيا، ولا مانع من توفير بعض السعادة لهم من خلال الرفاهية المادية وأنماط الحياة الاستهلاكية والترفيهية. وهكذا أصبحت تلك المعاهد هي البوابة الخلفية لتصنيع المقررات الدراسية في كثير من دول العالم، وهي ترسخ لوجود نخبة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية تحرك الجماهير (المستعبدة في سعادة أو في قهر) لتبقى هذه الفجوة بين السيد والعبد في أشكال عصرية.
والنتيجة في النهاية هي إنتاج "مواطنين صالحين" (بالمعني السياسي الانتهازي للكلمة) لا يملكون إلا الطاعة والاستجابة لأوامر النخبة، وهم قابلون للإيحاء والاستهواء والاستلاب تحت تأثير آلات الدعاية الإعلامية السلطوية، وهم غير قادرين على التفكير الحر المبدع بعد أن ملأت الآلة التعليمية رؤوسهم بمعلومات وتعليمات محددة تقلص من طموحاتهم وتطلعاتهم، وهم فارغون تماما من المعاني الكلية على المستوى الأسري والاجتماعي والإنساني والأخلاقي والديني والروحي، هم فقط آلات إنتاجية أو أصوات انتخابية أو كائنات استهلاكية.
وأخيرا من فضلك راجع السياسة التعليمية في مصر والعالم العربي ثم أعد قراءة الموضوع من بدايته.
واقرأ أيضاً:
نهضة ماليزيا في حوض سمك / مولد سيدي راعي البقر!