يتدافعون ببطء إلى داخل قاعة باردة وُضع في أعلى الجانب الأيمن من مدخلها قطعة خشبية قد تآكلت حوافها وتهرأت صبغتها وكُتب عليها بخط أسود شاحب: المشرحة!
البالطو الأبيض الذي يرتدونه يجعل منهم صورًا مكررة على اختلاف بنياتهم الجسدية وسماتهم المظهرية، تكاد لا تفرق العين بين أحدهم والآخر.
يتقدمهم أستاذهم الطبيب؛ أستاذ مساعد في منتصف العمر تقريبًا، تتناثر شعرات ذهبية من صبغة الحنَّاء على جانبي شعره البني القاتم، متأنِّق، يرتدي نظارته الطبية التي لا يكاد يظهر منها سوى إطار بنفسجي رقيق محكم يحيط بوجهه الأبيض الذي تبدو منه مخايل العز والراحة.
توقَّف الأستاذ وتبعه الطلاب مسرعين، يحاول كلٌّ منهم أن يأخذ موضعًا استراتيجيًّا أمام الحامل المعدني الرابض بوسط المشرحة، والذي تمدد عليه جسد ممشوق متصلب، شاب يبدو في الثلاثينات من العمر، تغطي الجسد في الوسط قطعة من الكتَّان الأبيض الخشن، بينما يبدو صدره ممتلئًا بشعر أسود كثيف تتناثر به بضع شعرات شيباء لا تتناسب وسنه الظاهر، ويقل تدريجيًّا بينما يتسرَّب نزولاً حتى السرَّة في خطٍّ شبه مستقيم أو شبه متعرِّج!
الموت يأخذ بمجامع الجسد الشاب، يخيم على أركانه، في سكون وجهه شيء ما يبعث على الراحة رغم شحوبه الشديد وجرح قطعي قاتل يخترق جبهته، أكثر ما يشيع رائحة الموت من جسده هو تلك العينان المفتوحتان المشدودتان على اتساعهما، واللتان تغبَّر بياضهما وكأنما احتجبتا خلف طبقة شمعية رقيقة قد أذهبت صفاءهما وأطفأت شعاعهما.
وقف الطبيب مخاطبًا طلابه في ابتهاج لا يناسب المقام: حظكم من السما! جثة طازجة! فرش! لم تُستخدم قبل اليوم، يئسنا من أن يتعرَّف عليها أحد فسمحنا بالتدرب عليها لصالح العلم، هذا من حسن حظِّكم بالطبع في الكثير من الدول لا يُسمح باستخدام أجساد حقيقية في التعليم.. يتابع في غير اهتمام واضح: كما ترون هنا العلامات الظاهرية للوفاة واضحة، من المفترض أن تكون الجثة قد دخلت في مرحلة التعفُّن الرِّمي منذ مدَّة، لولا الحفظ بالثلاجة والمواد الكيمائية التي عاملناها بها لظهر ذلك واضحًا جليًّا بالطبع، ولربما فررتم هاربين من المشرحة! أتبع مقولته برفعة من حاجبيه وابتسامة مبتسرة!
يصعد رفعت بتكاسل بضعة سلالم قليلة ليقف بمدخل الشقة التي استأجرها في قريته منذ زواجه، يدير المفتاح في الباب ببطء كأنما لا يرغب حقيقة في الدخول، تسمع فتاته الصغيرة دقَّات أقدامه وأزيز دوران المفتاح فتنطلق واقفة خلف الباب رافعة رأسها الصغير ذا الشعر المنسدل على جانبيه فاتحة ذراعيها ليحتضنها كما عوَّدها، اعتاد على وجودها؛ لذا يفتح الباب ببطء وهو ينظر في حذر خشية أن يؤذيها، احتضنها ذلك اليوم وقد بدا مرهقًا، وابتسم ابتسامة مصطنعة، ثم حملها متثاقلاً إلى أقرب أريكة وألقى بثقله عليها.
زوجته قادمة من الداخل بتكشيرة عريضة ضاعفت غمَّه: ها! خير؟
يجيب بامتعاض بينما يقوم بخلع قميصه شاعرًا بلذة غريبة في انعدام رؤيته للأشياء من حوله: خير! كالعادة! اترك السيرة الذاتية وسنقوم بالاتصال بك لاحقًا. يتابع مخاطبًا نفسه: لم يحدث هذا الاتصال أبدًا ولو لمرة واحدة أو على سبيل الخطأ! بينما تجلس ابنته على حجره مداعبة شعرات بيض في صدره الذي يمتلئ بشعر أسود كثيف.
منذ فُصل من وظيفته السابقة في موجة عارمة لترشيد العمالة في عهد الرخاء الذي كان من نصيبه هو وأبناء جيله البائس وهو يدور بشهاداته على مكاتب الوزارات والشركات بل ومحلات الملابس والمطاعم بلا جدوى!
- لم يعد هناك بديل من الانتقال إلى العاصمة، ضاقت سبل الرزق هنا، سنجوع إذا انتظرت أكثر من ذلك. خاطب زوجته في استسلام وحزن!
مع تباشير الصباح انطلق في رحلته، ومع الشمس ابتلعته إحدى الموجات البشرية الهادرة في قلب العاصمة، جموع منهمكة في السير تتحرَّك دون التفات، أعينهم مشدودة إلى صورة ما لا وجود لها إلاَّ في أذهانهم الشاردة، لا يدري لم تذكَّر حين رآهم قصة الحمار والجزرة! كأنَّ كل واحد منهم هارب مطارَد!
وقف وسط مجموعة في انتظار سيارة أجرة تقلُّه، بين الحين والآخر تأتي سيارة مسرعة يصرخ صاحبها في ضوضاء وصخب، يركب البعض ويرجع آخرون خطوات إلى الوراء في خيبة أمل وضيق واضح، بعضهم ينظر في ساعة يده مضطربًا أو مظهرًا للاضطراب!
سأل من بجواره بعد طول انتظار واستحياء: هل تمرُّ السيارات الذاهبة إلى الحي السابع من هنا؟ يجيبه الآخر في حماسة غير مبرَّرة واستنكار أقرب إلى اللوم منه إلى النصح: الحي السابع؟! ما الذي أوقفك هنا؟ اذهب إلى هناك حيث الرصيف المقابل.
بداية غير موفَّقة! لا بأس، مثل كلِّ شيء آخر في حياته البائسة، يدير عينيه في حرص بين السيارات المندفعة القادمة من الاتجاهين، لا يقف طويلاً حتى تصل سيارة يصرخ صاحبها في سمفونية متواصلة: سابع! سابع! سابع!
من حسن حظِّه -أو من سوئه لا يدري- أن وقفت السيارة أمامه مباشرة، ركب في بطء بينما تدفعه الأيدي المتسرِّعة من خلفه، تتعثَّر أقدامه بينما يتلمَّس موضعًا لجلوسه، تحين منه التفاتات خاطفة متردِّدة إلى من حوله، وجوه الغرباء لا تبعث على الراحة!
ينزل حينما يشير عليه السائق بذلك، يضرب ضربات خفيفة على جيوبه ليطمئن على متعلِّقاته كما عوَّده أبوه أن يفعل في تلك المرَّات القليلة التي نزلا فيها العاصمة سويًّا وهو ما زال صغيرًا، أخذ يضرب على جيبه الخلفي ضربات متتابعة في اضطراب، أيقن أنَّ والده كان رجلاً طيِّبًا وعلى نيَّته! بداية أخرى غير موفقة.. فقد حافظته وهو ما زال في بداية الرحلة؛ ينفخ في ضيق: يا الله! ما هذا النحس؟! الحمد لله أنَّه وضع بعض المال في الجيب الآخر خارج حافظته، حيلة أخرى علمه إياها والده، ربما ثبتت جدواها هذه المرَّة!
سأل عن مقر الشركة التي نصحه بعض أصحابه بالذهاب إليها، أشار إليها بعض الواقفين في الناحية الأخرى من الطريق العريض الذي تمرق فيه السيارات كأنَّها قذائف تنطلق من أحد المدافع الحربيَّة! أو قطيع من الجاموس البرِّي يطارده وحش مفترس فهو ينجو بحياته في صباح بارد وقد تتابعت أنفاسه منبهرة!
فجأة وبعد أن أوشك على عبور الطريق تجحظ عيناه وتتسع حدقتاه، يتوقف قلبه عن النبض، وتصم أذناه ويسود الكون من حوله صمت أصمُّ، كأنَّه في حلم عميق أو يمر أمام عينيه مشهد سينمائي بالأداء البطيء! في اللحظة ذاتها يُسمع صوت فرملة شديدة وارتطام مكتوم، ويطير جسده عدَّة أمتار مبتعدًا أمام أعين الناس الذاهلة وأفواههم الفاغرة!
يتابع الأستاذ شرحه الذي ازداد حماسة بعد أن قام بشقِّ الصدر وكسر عظام القصِّ وقد أظهر بعض محتوياته عارضًا إياه أمام طلابه ذاكرًا أسماءها بالإنجليزية وشارحًا لبعض مهامها الحيويَّة، يطلب منهم أن يأخذوا راحة لمدة خمس دقائق حتَّى يتناول فنجانًا من القهوة، يضرب بيده بلا مبالاة على الرأس الرابض أمامه في استسلام: لا تذهب إلى أي مكان! سنعود إليك حالاً! ندَّت عن بعض طلابه ضحكة ساخرة، بينما نظر البعض إليه في استغراب بابتسامة باهتة، وأظهر آخرون قليلاً من الضيق بدعابته السمجة!
وقف الأستاذ يرتشف قهوته الداكنة في هدوء وتمعُّن، أقبل ناحيته شاب وسيم حسن الهندام تبدو عليه مظاهر الرسمية، سأله في اهتمام: دكتور حسام؟ فأجابه في استشراف: نعم! أي خدمة!
هل لك أخ اسمه أشرف؟
عم! ما له؟ تردَّد الشاب قليلاً:
حقيقة يا دكتور، لا أدري ماذا أقول لك! الحقيقة أنه.. أخوك.. للأسف ليس خبرًا جيدًا.. لقد تعرَّض لحادث في محافظة أخرى ليلة أمس.. آسف.. لم تُنقل إلينا جثته إلا الآن.. ومن الضروري أن تأتي للتعرُّف عليه.. إنَّه.. في.. الغرفة المجاورة.
صرخة مكتومة ندَّت من فمه، ودمعة متثاقلة تتسرَّب من عينيه الجامدتين.. جثته؟! التعرُّ عليه؟! إنَّها ألفاظ صادمة لا تحتمل التأويل!
- هل تحتاج لمساعدة؟ سأله الشاب. فأشار بيده أن لا! وتقدَّم بضع خطوات وئيدة لا تكاد تحمله قدماه. ثم دخلا إلى ذات القاعة الباردة التي كُتب على قطعة خشبية في أعلى يمين مدخلها: المشرحة.
في هذه المرَّة كانت الوضع مختلفًا بشدَّة، كان ينظر إلى جسد يعرفه، جسد طالما لمسه وأحسَّ به، طالما شاكسه واعتنقه، شريط طويل من الذكريات الحلوة والمرَّة طاف بخاطره، إنَّها جثة أخيه الأصغر، ليس من الطبيعيِّ أبدًا أن يقف هذا الموقف، كان من المفروض أن يحمله أخوه الأصغر إلى مثواه، تبادل قاسٍ في الأدوار، داعب شعرات منسدلة من مقدمة رأسه في حنان، للمرَّة الأولى يلحظ هذا الشبه الواضح فيما بينهما والذي كان يذكره الجميع، كان يخبره في ضيق يخفي وراءه الكثير من الاعتزاز أنَّه يسبِّب له مشكلة! - لِم؟ - لا أذهب إلى مكان إلاَّ ويسألني الناس:
- أخو الدكتور حسام؟
لم يكن الأستاذ ساخرًا كعادته، ولم يشعر بالرغبة في الابتسام هذه المرَّة، اغرورقت عيناه بالدموع ولم يتمالك أن حضن الجسد البارد بين يديه، رفعه الشاب الضابط بهدوء ماسحًا بيده في رقَّة على ظهره، ثم حدَّثه خافضًا من صوته:
- دكتور، يجب أن نعيده إلى الثلاجة مرَّة أخرى حتى استخراج الإذن بالتشريح، أنت طبيب وتعلم ماذا قد يحدث إذا تركناه خارجًا أكثر من ذلك!
نظر إليه من خلال الغمامة التي أحدثتها دموعه الساخنة وأشار برأسه موافقًا. ثم انسحبا خارجين من القاعة تشيِّعهما نظرات طلابه في حزن عميق.
جلس في انتظار استخراج إذن النيابة، يشعر مثل ثقل جبل تعلق برأسه، آه.. حرقة شديدة تشعل صدره جحيمًا، ماذا سيكون وقع الخبر على مسامع أمي وأبي، وتلك الفتاة المسكينة التي خطبها فقط منذ أسبوعين؟ ما ذنبها؟! آهة أخرى تنفلت محترقة!
يتذكر في جلسته الثكلى تلك الجثة الأخرى بالمشرحة، ألم يعصر فؤاده عصرًا بين قبضتيه القاسيتين، وارتعاشة تسري في بدنه فينتفض لها أصبعه الأصغر! آه.. هؤلاء الذين لا نعرفهم من المؤكد أن هناك من يعرفهم، يومًا ما دبُّوا على الأرض وطافوا بأرجائها، عانقوا الشمس والسحاب والمطر، التهمت أعينهم في تلذذ قوس قزح، اشتموا النسيم وسط الحقول الخضر، وتعبَّقوا بدخان الحضارة، أحبُّوا ذات مرَّة وكرهوا، غضبوا وصبروا، ضحكوا وبكوا، انتقموا وعفوا، حتمًا تنعموا بحلاوة الحياة، ولابد قد شقوا بمرارتها القاسية.. ليس أقل من أن نظهر لهم بعض الرحمة والاحترام عند الممات!
أراد بشدَّة أن يقوم هو بتشريح جثة أخيه، وأصر رئيس القسم وزملاؤه على ألاَّ يقوم بذلك، كانت إرادة زائفة في لحظة حزن عميق، لم يكن ليتمالك نفسه في الحقيقة، نظر إلى زميله الذي سيقوم بالمهمة وخرجت الكلمات من بين شفتيه في استعطاف ذليل: - اهتم به!
بعد أسبوع من الحادثة كان الأستاذ جالسًا في مكتب وزير الصحة وقد بدا على ملامحه الحزن الشديد، خرج إليه مستشار الوزير، رحَّب به سائلاً إياه عن إمكانية إطلاعه على سبب الزيارة، أخرج بضع ورقات من جيبه أعطاها المستشار ثم قال له في لهجة يائسة: يمكنك أن توصلها للسيد الوزير بنفسك، ثم تنهَّد وانفلت خارجًا!
نظر المستشار في الورقات بين يديه نظرة سريعة ثم انفلتت منه ابتسامة ساخرة، توجَّه إلى السكرتير محدِّثًا إياه: - عجيبة أن يصدر مثل هذا الطلب من طبيب! يريد أن يتقدَّم الوزير بمشروع قانون لتجريم استخدام الأجساد البشرية في تدريب طلاب كليات الطب، واستخدام أجساد بديلة عن طريق المحاكاة من خلال برامج الكمبيوتر. ماذا إذن لو لم يكن طبيبًا؟!
ألقى الورقات على مكتب السكرتير في نظرة موحية، ثم اتَّجه إلى مكتبه، سحب السكرتير الورقات وقلَّب عينيه بينها في نظرة متطفِّلة، ثم حشرها في فظاظة بين أسنان الآلة القاطعة!!
واقرأ أيضاً:
نعم / يومُ الفتحْ!! / نقش على لوح قصيدة مطرية: لا معذرة / ما ذنبي؟!! / ..صمود.. / اللص المحترم / الشبح القاتل! / أمةٌ عجب! / إذا الشعبُ.. / رثاءُ روح..