الديكتاتوريات ملأت التاريخ، والديكتاتوريين مازالوا يحكمون مناطق كثيرة من العالم، ولكنهم يتوالون في السقوط، الديكتاتور السياسي أخطر من ذلك الذي في بيته أو في عمله، لأنه يتحكم في مصير شعب ويمارس اضطرابه الشخصي والسلوكي على أمّة بكامل أفرادها. إنه أبعد وأعمق من مجرد شخص على كرسي السلطة، يتناوله كاريكاتير أو برنامج تليفزيوني أو فيلم تسجيلي أو عمل روائي، إن ممارساته وخفايا شخصيته تكمُن في زوايا كرسيه، في حنجرته وهيئته وفي إمكاناته الخطِرة، لتسيير الحكم وفق هواه الشخصي، أفعاله قد تؤدي إلى كارثة أو إلى ثورة أو انقلاب عسكري ربما يأتي بديكتاتور آخر، أغلبهم يأتون من العسكر يفرحون ببزّاتهم الرسمية أوسمتهم وشاراتهم ونجومهم، يقومون بكل ما هو فاسد، مُفسدون ولا تطالهم يد العدالة إلا إذا وقعوا في قبضتها بعد نزولهم من على الكرسي.
التشخيص الأقرب (للديكتاتور) هو اضطراب الشخصية السيكوباتي Psychopathic Personality Disorder يسرقون، ينهبون، لا يعبأون، ويتركون دولهم خاوية الخزنة والقيم والأخلاق، ويستمتعون بشعوبهم في جهل وفقر ومرض، تنام خاوية المعدة معطوبة الضمائر.
بينما يودع السيكوباتيون الآخرون السجون والمصحات العقلية، يتمكن السيكوباتي الذكي الحذِر النصاب من اعتلاء كرسي الرئاسة، فيدخل تاريخ البشرية ليصنع الكارثة تلو الأخرى، لا يمكن وصفه إلا بالمهمّش التوّاق إلى الحكم، ويشكِل تربة صالحة لأيدلوجية تبتعد عن المنطق والعقل كثيراً.
يحيط الديكتاتوريون أنفسهم بنسيج من البشر المشوهين نفسياً، والسيكوباتيون كل في مجاله (التجارة، الأمن، والسياسة الخارجية).. فمن يصدق أن رجال الأمن في مصر خرّبوا روحها ببناء ترسانة من البلطجية والمسجلين خطر وأطفال الشوارع، يساعدونهم في تزوير الانتخابات، تصفية المعارضة، إحكام القبضة على الشارع من أجل أن يظل الحاكم على كرسيه المزوَّر، مما يزعزع بناء المجتمع ويهدم أعمدته الأخلاقية، وصل عدد البلطجية في مصر إبان ثورة 25 يناير 2011 وبعدها إلى أربعة آلاف وخمسمائة بلطجي حسب كثير من التقارير، أي أكثر من تعداد الجيش المصري النظامي، مُحبيهم وضامنين ولاءهم، قتلة بدم بارد بعيدين كل البعد عن مفهوم الإنسانية ومحتواها.
السيكوباتي كقائد ديكتاتور
الديكتاتور (تاريخياً) يرضع (القهر) ويُدوّره منذ صغره في كل أنحاء ودروب الوطن، يكره الثقافة وروح النص ويعادي كل الأيديولوجيات. على الرغم من قساوة وفظاظة وفجاجة الديكتاتور وبشاعته، إلا أنه يملك ذلك (السِحر السيكوباتي)، بمعنى قدرته على (جذب) أنظار الكثيرين، وسلب قلوب البعض بإمكاناته كطفل (ملّوث) في مختلف النشاطات، ما خفي منها كان أعظم، أنانيتُه تصبغ كل أفعاله، ونرجسيتُه الخبيثة، لكن سلوكه الظاهري يفضحه ـ أحياناً ـ لمن يدقق في تتابع أفعاله ونمو وحشيته التي تنام في حضن قفاز ناعم، كل هذا التاريخ وكل تلك العلاقة (الفيتيشية)(1) Fetish مع الكرسي، وهي علاقة آثمة مريضة جانحة تنقل العدوى، وتحقق للديكتاتور لازمة للارتباط اللا مشروط الباعِث على اللذة، وتحقق بما يعرف في التحليل النفسي بـ(الاتزان المرضي)، أي أن الدنيا تسير، وكما قال بعض المصريين في تمني وعشق لعودة الديكتاتور (مبارك)، (فين أيامك يا حسني، كنا مسروقين لكن مستقرين).
يُمارس الديكتاتور مع نفسه ومع الآخرين المحيطين به عملية الاستبعاد، أي يقصي كل من له إمكانية للعقل أو الخير، فهو لا يندم، ولا يحسّ بالذنب ولا يتورع عن تكرار كل أفعاله القهرية، وهو أيضاً ينشق عن ذاته بمعنى انفصاله (كالأعمى الهستيري) الذي هو (فسيولوجياً) يرى باعتراف كل أطباء العيون الذين فحصوه، لكنه لا يرى، أعمى القلب والبصر والبصيرة باعتراف الحكماء وأطباء النفس، لأن ذاكرته لا تنفعل ولا تتفاعل، يفقد عقله حيويته فيصمّ آذانه ويخرس لسانه عن أشياء بعينها في عملية (ترشيح) Filtering يكاد أن يكون أعمى وأخرس وأصمّ، بل ومشلول لا تمتد يداه إلا للقتل والتعذيب والنهب والسرقة، إذا واجهته أو حاكمته، كذب وهو في مرآة نفسه لا يكذب، يدّعي أنه لم يفعل ولم يرَ، ودائماً يصدق نفسه ويكذب الآخرين ما عدا أذنابه.
يبدو الديكتاتور كثمرة الدوم، تظهر منه القشرة البنية الرقيقة التي تُخيف فلا تـُلمس لما وضعته حولها من هالة خوف ورعب وسيارات مصفحة مزودة بأحدث أجهزة التنصت، ورجال لا يعرفون الرحمة يقتلون بدم بارد، كل من يقترب من السيد الرئيس الديكتاتور، تحت هذه القشرة التي تسقطها الثورات بسهولة، ترقد اللُحمة شبه الأسفنجية التي تمثل وزراءه ومؤسسته الرئاسية،أجهزة أمنه، وعلى الرغم من أن ثمرة الدوم، لا تقضم بسهولة إلا أن الإصرار يعضّ فيها ويهلكها، إلى أن تأتي النواة الصلبة بلا أسنان وبلا شكل وبلا معنى، ضعيفة التوجه فاقدة الوعي، لا تمتلك أي حيلة دفاعية سوى الإنكار.
يحدث بين الحاكم الديكتاتور والمحكومين المظلومين المدفوعين بقوة لا يستهان بها، تكمن في صدورهم وثنايا أدمغتهم نوع من (المنظومة الضلالية) بمعنى (عدم الثقة، الشك، الريبة، الكذب، النفاق)، ولكن يحدث للمتوازن مرضياً (المحكوم) انتفاضة شفاء، يطيح فيها بكل الخوف؛ فيسقط الديكتاتور الذي لم يصدق أحد أنه مضى بخزيه للأبد وبغير رجعة.
لنتأمل مشهد ديكتاتور مثل مبارك، وهو على عهدة الراوي قد كلف قبره خمسة عشر مليون جنيهاً مصرياً بُنيت كل جدرانه بالرخام الطارد للذباب، حتى لا يحوم على روحه الديكتاتورية وعلى جثته التي لا تطيق الطنين.
قد يبدأ الديكتاتور حكمه طيباً معتدلاً يحمل في حشاياه بذور عنفه وبطشه، هنا ينمو النسيج المُنظِّم لبناء علاقات اجتماعية مشوهة، تشترك فيها أطراف عدة (أصحاب المصالح، الفاسدون، رجال الأمن المتواطئون)، تنمو النطفة علقة، ثم يكسوها اللحم، وكما ينمو الطفل تنمو شخصيته، فتنمو نفسية الإنسان سوياً كان أو فاسداً، تبدأ القوة الديكتاتورية الغاشمة في جذب كل عناصر تناسلها وتكاثرها وتناثرها بأنحاء الوطن مما يضخم الأنا فتتورم وتتوحش، في حين يبدأ المقهورون في التقهقر والتقزُّم والتخلف والتضاؤل نفسياً، لكن لكل هذا حدود يحكمها الصبر والتاريخ ودرجة الغليان الداخلي ونزع كل أقنعة الخوف.
يكافئ المرض النفسي مريضه، بتبادل النفسي والاجتماعي حمايةً ودرءاً وعطاءاً إيجابياً وسلبياً في آنٍ واحد. فكما يستنفر الديكتاتور كل نواحي الشرّ لديه، يستنفذ الشعب كل القوة والرفض والاندلاع كالنار لا تبقى ولا تُذرّ، وعلى الرغم من رعب جهاز وتفشيه كالسرطان (كجهاز أمن الدولة المصري)، بكل غرف تعذيبه وأقبية جهنم، إلى القتل المباشر كحالتي خالد سعيد(2) واللواء البطران(3) أو بالإخفاء قسرا كحالة رضا هلال(4) أو الحكم بالإعدام كحالة خميس والبقري(5) في بداية حركة يوليو 1952.
عنف الديكتاتور وأجهزته يتغذى باستمراره وبمنظومته القهرية، بكل ما فيها من الإلهاء البذئ والمتهتك، وبالفضائح المرتبة والقضايا العبثية (حالة مرتضى منصور مثالاً)، الإقصاء (إقصاء كل القوى المزدهرة النابتة القوية العتية بحرمانها من كل فرص التحقق)، تشجيع إدمان المخدرات وانتشارها، التقاعس عن محاكمة تجار المخدرات والتساهل في نشر ثقافة الجنس الرخيص والدعارة، التدني الثقافي والفني، كل المحاولات لإزهاق روح الأمة، بما في ذلك بيع اقتصادها ونهبه بشكل منظم.
عودة إلى العقل الباطن للديكتاتور،منغلق سوداوي، يخاف دائماً، يحس رغم كل ترسانة أسلحته التي سقطت كورقة التوت في 28 يناير بعدم الأمان، ويستخدم كل السبل لتحقيق أمانه: ضرب الأعناق ـ مراقبة الهواتف ـ التعاون الآثم مع البلطجية والمسجلين خطر، وعلى الرغم من أنه قد يبدو ثلجياً صخرياً كتماثيله، إلا أن خوفه على غنائمه يجعله شقياً بتفكيره، فيما قد يحدث وهو في النهاية ديكتاتور مهزوم ضعيف مُهان مغترب عن ذاته وعن شعبه، في صدره هلع دعا (زين العابدين بن علي) إلى الهروب و(حسني مبارك) إلى التخلي بسرعة، و(القذافي) إلى الإصرار على تحويل ليبيا إلى بحور من الدم، وكذلك (علي صالح) و(بشار الأسد)، كلهم متكبرون فيهم عناد وتشابه وصلف وعنجهية لا أساس لها.
ويوضح سلام عبود أن (هاجس الديكتاتور يرتبط ارتباطاً قسرياً وضرورياً بالقوة، أي بالعنف، وبالخوف إلى حد الهلع من فقدان هذه القوة، فليس امتلاك القوة وممارستها هو هاجس الديكتاتور وشاغله، كما نظن جميعاً، إن هاجسه الجنوني الأعظم يكون في خوفه الهستيري من فقدان هذه القوة وإضاعته مصادر صناعتها وإدامتها).
عودة إلى منظومة الديكتاتورية التي تحيط نفسها، وتتشكل تركيبتها من المجموعات فاسدة الروح رثة القلب ملوثة الوجدان، تجذب إليها ضعاف النفوس والقابلين لكي يكونوا أذناب ديكتاتوريين، وبعض هؤلاء ضباط مارسوا القهر والتعذيب، كانوا مع زوجاتهم وفي بيوتهم فئران، تجذب إليها مُنظّرون حقوقيون (أمثال أحمد فتحي سرور)، ومثقفين تافهين كرؤساء تحرير صحف مثيرين للغثيان، يشترك جميعهم في عفونة نفسية وتآكل إنساني فظيع يجعلهم أقل حضارة، إذا ما سقطت أقنعتهم لدى سقوط الديكتاتور، يتهاوون كالذباب حول فضلات آدمية تبعث على القيء.
الجمعة،27 مايو، 2011
__________________________
(1) الفيتيشية Fetishism وهى تعني في ثقافات مختلفة السحر أو المعبود المحبوب، الفيتيشية الجنسية تعني الشهوة والعشق في إطار سلوك جنسي (غير طبيعي) فيه (مبالغة)، (جنوح) و(إفراط) ممكن أن يحدث في إطار علاقة جنسية طبيعية عادية ومن الممكن أن يكون غير عادي (لوحده يعنى) دون أي تفاعلات جنسية أخرى عداه.
(2) خالد محمد سعيد 27 يناير 1982- 6 يونيه 2010 ـ المعروف بشهيد الطوارئ وبضحية التعذيب إسكندرية. شاب مصري عنده 28 سنة يتوجه اتهام للأفراد من البوليس المصري في الإسكندرية، عُذب وضُرِب بوحشية حتى الموت.
(3) توفي اللواء محمد عباس حمزة البطران في محاولة من مجهولين لفتح أبواب السجن وتهريب المساجين من سجن القطا بالقليوبية في فجر يوم 29 يناير 2011 م حسب أحد حراس سجن الفيوم فإن مقتل اللواء كان نتيجة لمحاولته صد هؤلاء المجهولين من فتح أبواب السجن خصوصاً بعد مقتل حارسين كانا معه. ولكن المجهولين نجحوا في تصفيته وقتله. وقالت شقيقة الفقيد البطران أنه قال لها في مكالمة تليفونية "العادلي ولع البلد. العادلي ولع البلد" وكان صوته غضبان جدًا.
(4) رضا هلال صحفي مصري شغل منصب نائب رئيس تحرير صحيفة الأهرام، اختفى في ظروف غامضة يوم 11 أغسطس 2003، لم تقدم أجهزة الأمن المصرية أية تفسيرات عن حادثة اختفائه، كما تتردد شائعات عن وجود دور ما لجهاز مخابراتي ما في اختفائه.
(5) في 12أغسطس عام 1952 أوقف عمال كفر الدوار الآلات وأعلنوا الإضراب عن العمل وقاموا بوقفة احتجاجية لإعلان مطالبهم لحركة الجيش، قامت قوات أمن كفر الدوار بمحاصرة المصنع وأطلقت النيران علي العمال فسقط عاملا قتيلا، فرد العمال في نفس اليوم بعمل مسيرة لباب المصنع، نصبت المحاكمة العسكرية واتهم مئات العمال بالقيام بأعمال التخريب والشغب وكان من ضمن المتهمين طفل عمره 11 عاما! وتم النطق بحكم الإعدام على العامل «محمد مصطفى خميس» ابن التسعة عشر ربيعا وتم النطق بذات الحكم على العامل « محمد عبد الرحمن البقري» صاحب السبعة عشر سنة.
واقرأ أيضًا:
سيكلوجية الشعوب بعد ثورة الشباب المصرية / أي ثورة نحتاج؟ / حول قابلية الدول العربية لحضانة الثورات / متلازمة الغطرسة... والسلطة