كل تصرف في علاقة بين طرفين يكون محكوما بالطبيعة السيكولوجية لهذه العلاقة، سواء كانت بين زوجين أو صديقين أو جماعتين، أو بين المثقف والسلطة. فما الطبيعة السيكولوجية للعلاقة بين السلطة والمثقف؟. ما الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة، وما الصورة التي تحملها السلطة عن المثقف؟. وعلى افتراض أنهما خصمان أو مختلفان في الفكر والمزاج والضمير والقيم، فهل سيأتي حين من الدهر يكونان فيه منسجمين، أم أنهما يبقيان إلى الأزل.. جبلان لن يلتقيا؟.
إننا نعني بالسلطة هنا نظام الحكم السياسي الممثل بحكومة مسئولة عن إدارة شؤون الناس، ونقصد بالمثقف.... الذي يكتب وينشر في قضايا تخص الفكر بكل أنواعه والحياة بكل مجالاتها، ويكون مخلصا للحقيقة وصادقا مع نفسه.
هذا يعني أن السلطة والمثقف يجمعهما ميدان مشترك من القضايا التي تخص الناس والحياة، ولكنهما يختلفان في أمرين:
- المنظور الفكري (المعرفي) الذي يحملانه بخصوص هذه القضايا،
- وأساليب التعامل معها؛
فالسلطة تحمل منظورا فكريا واقعيا، فيما هو عند المثقف مثالي.. بمعنى أنها تنظر للأمور وتزنها على أساس أبعادها الواقعية فيما ينظر لها المثقف على أساس أبعادها الإنسانية.
القضية عند السلطة تقاس على ما يمكن أن تكون عليه، فيما يقيسها المثقف على ما ينبغي أن تكون عليه، (والفرق كبير بين تكون وينبغي). والاختلاف في المنظور الفكري يؤدي إلى الاختلاف في التعامل حتى مع القضية الواحدة، تماما مثل المصاب بالبرانويا الذي يفسّر همس اثنين بأنه تآمر عليه فيما يفسّره آخر بأنه مسألة خاصة بينهما.
إن الصورة التي يحملها المثقف العربي عن السلطة أنها (عدوة) له. فمفهوم السلطة، حتى في اللغة العربية، ظل مشحونا لقرون بطابع العنف والقوة ودلالات التسلط التي تتجلى في غائيات الطاعة والخضوع والامتثال، فيما هي (السلطة) في اللغة الفرنسية مثلا تعني الحق في توجيه الآخرين والقدرة على اتخاذ القرارات وشرعية استخدام القوة. وبما أن الحرية للمثقف كالهواء.. لا يمكن أن يمارس دوره من دونها، وأن السلطة تخشى الحرية، فإن المثقف عاش حالة اغتراب نفسي عنها أفضت بحتمية سيكولوجية إلى علاقة خصومة أو عداوة.
ولقد تشكلت لدى السلطة صورة نمطية عن المثقف بأنه خيالي، يتعامل مع الأمور بحس انفعالي، ويريد أن يكون التعامل مع الناس بشاعرية، بإنسانية، فيما السلطة تتعامل مع القضايا من منطلق مصلحتها الشخصية أولا ومصلحة الناس ثانيا، ولا مكان للمشاعر والعواطف.... فقلبها غليظ وطبعها خشن وليس رومانسيا كقلب المثقف ورقيقا كطبعه.
وثمة طباع سيكولوجية متناقضة بين السلطة والمثقف. فالسلطة اعتادت دائما أن تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس أن يقوموا بدور المنصت لها، فيما المثقف يعدّ نفسه الأكفأ بالتحدث والأصدق، فتخشاه لأنه أقرب منها نفسيا للناس.
والسلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، في رأيها، عن (طبخة) ناضجة وعملية جمعت كل مكونات القضية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة في رأيها، ولهذا فإنها لن تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبختها) طعما طيبا.. إلا إذا كان حلوا في فمها.
والسلطة تميل إلى التعميم وتعمل على أن تشيع ثقافة تنتج أفرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل إلى التفريد ولا يضع للثقافة مواصفات أو حدودا. والمثقف ناقد بطبيعته لا سيما للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. والسلطة تشعر بالنقص الثقافي أمام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: الشعور بالنقص والاستعلاء.. فهل بعد هذا، يا ترى، سيلتقي الجبلان؟!
نقلا عن: الشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
المؤتمر الإقليمي الثاني لعلم النفس (تقرير) / بطلا تسونامي العرب