اتصلت بأحد أصدقائي أهنئه بحصول خال زوجته على منصب وزير في الحكومة الجديدة، وقلت مازحا يا ليت ومن خلال "خالها البيه" على رأي صلاح جاهين وسعاد حسني، يا ليت تدبر لي منصب مسئول الصحة في قنصلية مصر في أي مكان من العالم، ضحك وقال أي مكان تريد يا دكتور؟ قلت له أنت كثير السفر وسأرضى ذوقك!... ضحك ثانية وقال لي أولا "نقبك على شونة" فهو لم تأته الوزارة أيام الفساد العظيم في النظام القديم.... لو كان حصل هذا قبل الثورة لكنا فعلنا ما نهوى لنا ولأصحابنا، ثم استطرد ثانيا لكن الأهم هو: أنا لست مع هذا الاختيار.. أنا أود الاعتراض على شخص هذا الرجل وزيرا في مصر بعد الثورة وسأرفع لافتة بهذا في التحرير، لأن هذا الرجل فلول نعم من الفلول يا دكتور... فقلت له بسرعة -وقد بدأ المريض القاعد أمامي يتململ- على فكرة كلنا فلول يا صديقي فكر بهذه التهمة قليلا وسترى فقال ضاحكا: لو صحت يبقى "ياعزيزي كلنا فلول!".
ومنذ تلك اللحظة وأنا أفكر في حكاية كلنا فلول هذه... الفكرة ليست جديدة علي فقد شغلتني من قبل وإن لم يكن بنفس الوضوح وسوف أذكر بعد قليل كيف ولماذا شغلتني... لكنني قبل ذلك أتذكر تلك الحيزبون التي قابلتها وأنا أصور في إحدى الفضائيات وكانت تصور برنامجَا غير برنامجي وفاجأني وأنا أسلم عليها ناظرا بشيء من التركيز في وجهها الذي لاحظت فيه نضارة لم أتوقعها في سيدة في مثل هذا السن، ولا أدري بأي شيء أوحت لها نظرتي فقالت لي نعم أيوه أنا فلول!.... كنت قد شرد ذهني في أن هذه إذن واحدة من الخارجات من عمليات شد جلد الوجه... من يا ترى تكون؟ ولماذا تقول فلول!
وسألت المعدة المساعدة من هذه السيدة فقالت يا دكتور هذه أ.د......... عميد... ورئيس المجلس ال........ وهي وجه كان مألوفا في الإعلام الرسمي قبل الثورة... ثم عرفت بعد ذلك أنها كانت من كبار ماسحي الجوخ لحرم الرئيس الخائن السيدة سوزان... ونسيت بعد ذلك الموضوع،..... لكن فقط لتهاجمني فكرة الفلول الباقية من ذلك النظام المخلوع؟ ما هي بحق تلك الفلول؟
هل الفلول مثلما يشيع في الفهم العام هم ببساطة بقايا النظام السابق؟ بقاياه أي بقايا؟ هل الذين مثلوا النظام السابق واستفادوا منه ولم يكونوا من المعارضين بأي شكل من الأشكال؟ هل هم كل من كان من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي؟ أم هم فقط من كانوا خلصاء الحزب الوطني الديمقراطي؟ هل هم من رجال الشرطة السفاحين السابقين من من ما يزالون أحرارا يسعون بيننا؟ هل هم طواغيت مباحث أمن الدولة كبارهم وصغارهم؟ هل هم البلطجية؟.... كل هؤلاء يمكن أن يكونوا فلولا للنظام السابق، لكن هل هم كل الفلول! أشعر أن في ذلك تسطيحا مخلا للأمور!
ثم أعود مرةً أخرى بعد فترة لأتساءل عن بقايا النظام السابق... فأجد سؤالا يكبر داخلي هو: لماذا يتحدث الجميع عن النظام السابق وكأنه الآخر في مقابل الـ "أنا" أو الـ "نحن"... هل هذا صحيح؟ هل كان النظام السابق هو فقط الرئيس وحكومته وزوجته وعصابتها وابنيه وأصحابهما من كبار اللصوص الشرفاء المنسبين وكلهم أو أغلبهم من كبار أعضاء الحزب الوطني المحلول....؟ هل فقط هؤلاء هم الفلول؟؟
يا ترى كم واحد وكم واحدة منا لم يكن يتمنى أيام ما قبل الثورة لو أنه يقبل عضوا بارزا في جماعة جمال مبارك؟ أو علاء مبارك؟ أو جماعة زوجة هذا أو ذاك؟ كم سيدة كانت سترفض أن تختارها سوزان لتكون صديقتها أو وصيفتها أو حتى...... وكم رجلا كان سيرفض نعمة الانتماء بشكل أو بآخر إلى مكتب السياسات التابع للحزب الوطني المحلول؟ من إلا المجانين؟ كلنا والله العظيم أو نكاد نكون من الذين كانوا سيقبلون الانضمام إلى من نسميهم الآن بالفلول!
لا أنكر أن في مصر شرفاء ربما عرض عليهم أن يكونوا جزءًا من آكلي كعكة مصر لكنهم رفضوا لكنني أعود لأتساءل هل كان هؤلاء الذين عرض عليهم ذلك إلا من الكبراء؟ بمعنى أنهم ليس يلزمهم الانتماء لحزب أو لجماعة تستنكف نفوسهم مبادئها لأنهم يعرفونها على حقيقتها وهؤلاء مثلا هم رموز المعاضة والمطالبين بالتغيير، لكن ليس هؤلاء أغلب المصريين هؤلا قلة قليلة، فما بال بقية المصريين؟ ألم يكونوا معرضين معظمهم لأن يكونوا ضمن الفلول؟ وكانوا سينضمون لها بكل سعادة ورضا
أعود الآن إلى تفصيل ما دار في تفكيري منذ فترة ربما تزيد عن شهرين أو ثلاثة لا أدري... ففي أيامها شاع الكلام عن قسوة المصريين -المستغربة منهم كشعب من الطيبين- على مبارك... وكان أنني فكرت بالشكل التالي: نعاقب بقايا ورموز نظام مبارك لأنهم كانوا فاسدين ورموز فساد وإفساد للناس، ونعاقب مبارك لأنه كان رأس الفساد... نعاقبهم نعم ولكن ليس بكل هذه القسوة ولا بكل هذا التشنج لأننا لا نختلف كثيرا عن من خاطبهم المسيح عليه السلام قائلا "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيئَةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَر"... لا يمكن أن نعتبر أنفسنا أبرياء مُخلصين فنحن كنا جزءٍا من المنظومة الأعظم للفساد في العالم، فهل كنا غير فاسدين؟ كم من بين 80 مليون مصري كم مصريا أستثني؟ أقول مليون مصري مثلا لم يكونوا فاسدين أظنه تقدير متفائل جدا...
كلنا في واقع الأمر كان له نصيبه من الفساد مشاركة وتضررا في نفس الوقت، كلنا شاركنا في الغش مثلا بداية من الفلاحين في كافة قرى مصر الذين يغشون اللبن بإضافة الماء عليه ثم يسلمونه إلى الوكيل الكبير الذي يسلمه لشركات التعليب فيستكمل غشه بإضافة مزيج سحري له لون ورائحة اللبن الفلاحي -بل والعهدة على الرواة الذين أقسموا لي- هو أحلى طعما من اللبن الفلاحي، بدءًا من ذلك وصولا إلى الغش في امتحانات الثانوية العامة ومرورا بفساد الجامعات وقصص أولا الأساتذة وأولاد مأموري المراكز والأقسام، وليس لدي أبلغ من أقول للناس في مصر "وإن تعدوا صور الفساد لا تحصوها"... فهل كان هذا كله فساد النظام المخلوع والحزب المحلول؟ هل كل هذا كانت تقوم به الفلول؟!
بعضنا قد يتعلل بحجة أن هذه كانت الطريقة الوحيدة للحياة كريمة الشكل أو للنجاح في أي شيء في مصر، وهذا صحيح مع الأسف لكنها مقولة لا تختلف كثيرا في رأيي عن مقولة ضابط الشرطة القاتل الذي يتحجج بأنه كان "عبد المأمور" فكأننا كنا جميعا عبد المأمور وكل من خالف القانون لأن هذا هو الجو السائر كان عبد المأمور ما رأيكم أنه حتى مبارك يمكن أن يتحجج بأنه كان عبد المأمور وهو فعلا كان كذلك لكن الفرق الوحيد أنه كان مأمورا لجهات معادية لمصر، ولعل هذا ما يستدعي ألا تأخذنا به رأفة أو رحمة فقد كان متواطئا مباركا مشاركا في الفساد وعرابا تحت الطلب لما يطلب منه آمروه من الصهاينة وخائنا لمصر وللعروبة والإسلام... مبارك كان أعظم من فاسد مفسد بمراحل ولهذا كان ردي قاسيا على الصحفي الذي اتصل بي من جريدة الشروق عندما شاع أن مبارك ينوي الاعتذار للمصريين وطلب السماح! كان ردي قاسيا في ضرورة إنزال العقاب بمبارك... لكن حقيقةً ليس لأجل تهمة الفساد والإفساد -فهو لم يكن الوحيد- وإنما بتهم أخرى كثيرة من أهمها علاقته بالصهاينة وموقفه المخزي المشين من غزة... قلت للصحفي إذا كان سيعتذر فإن الاعتذار يجب أن يكون لكل العرب بل لكل المسلمين ولابد من استفتائهم جميعا في كل بلاد العالم من قبل اعتذاره ومن لم يقبل... وفوجئت رغم كل ما ذكرته في هذا المقال وكان يدور في فكري عن مشاركتانا جميعا في الجريمة، فوجئت من نفسي بهذا الرد الصارم.
إذن فالحقيقة التي لا ينكرها عاقل والسبب الرئيس في أن الثورة يجب أن تستمر هو هذا هو أننا كلنا كنا جزْءًا من الفساد وفي حياتنا منه ما يزال كثير، والثورة يجب أن تكون لا ضد ما نعتبره خارجنا من فلول النظام السابق وكأنه فقط! ويحدث ذلك دون كثير وعي وانتباه منا عبر عدة حيل نفسية دفاعية من أهمها الإسقاط (حيث نرى عيوبنا جلية في آخر خارجنا) وإنما يجب أن تستمر الثورة ضد الفلول الباقية في نفوس كل منا.. والتي مهما صغر شأنها كانت تدعم وتقوي المنظومة الأعظم للفساد.
بعضنا وربما أغلبنا أخذته الحماسة بعد نجاح الثورة وغير بعضا أو كثيرا من فساده وبعضنا قاوم بعضا من الفساد من حوله، بعضنا رفض أن يدفع رشوة وبعضنا رفض أن يأخذ مكان غيره في الطابور، ثم أن حملات عديدة انطلقت على الفيسبوك وعلى غيره وفي كثير من الأحياء تجمع الشباب وقرروا مشاريع مثل تنظيف البلد ومثل تزيينها وغير ذلك كثير... لكن من الأمانة أن نعترف أن هذا لم يدم طويلا ولم يكن التغيير الذي أحدثه كبيرا....
ولابد أن نتذكر أيضًا أن فئات عديدة من الناس استغلت فرصة الفراغ الأمني والمروري فعاثوا في الأرض فسادا... وبعضهم حتى برر ذلك بأن الكبت يولد الانفجار! وكأننا شعب من الأطفال أو المراهقين كانوا مكبوتين وفاجأهم أن حبلهم ترك على الغارب؟ وللتدليل على ذلك أسأل كل واحد منكم كم مرة شاهدت طوابير من السيارات تسير في الاتجاه المعاكس وبمنتهى التهور والبرود!
أفهم من منطلق نفسي أننا (كل المصريين) اليوم نتكلمُ عن النظام السابق والمخلوع لكننا -وكأن فعل الثورة رفع عنا عار المشاركة في ذاك النظام السابق- ننسى تماما أو ننكر بغير وعي أننا كنا جزءًا منه... وهذه ربما تكون آلية نفسية مفيدة ومنعشة لنفوسنا وأرواحنا وأنا لست أرفضها لكنني أرفض أن تعمينا عن حقيقة لابد منها وهي أن فلول النظام السابق ممتدة الجذور في نفوسنا بقدر ما هي فيما حولنا وعلينا أن نطهر أنفسنا مثلما نطهر مصر من تلك الفلول.
واقرأ أيضًا:
رأس السنة الميلادية 2011 سامحوني / التي تسُرُّه إذا نظر! مَن وبمَ؟
التعليق: حياك الله يا دكتور، ولا فُضَّ فوك...
المسؤولية أولًا وأخيرًا فردية، والحساب الدنيوي والأخروي فردي، والإصلاح في أي مجال إنما هو إصلاح النفس التي بين جنبي كل فرد منا...
لو قلنا إصلاح اقتصادي..، ألا يستلزم ذلك إصلاح الأفراد ليقتنعوا بخطة إصلاحية عادلة وليس بخطة تضمن مصالحهم فحسب؟ وقل ذلك في الإصلاح السياسي، والاجتماعي...
قبل الثورة...، ومع الثورة...، وبعد الثورة...،
الأصل هو إصلاح الفساد بداخلنا، ثم الانتقال إلى الآخرين من باب النصيحة وإحقاق الحق لا التشفي...
في الواقع: لم يتغير شيء!!!
أليست نتيجة غريبة؟!!