"لماذا لا نحب ونؤازر بعضنا أمام هول الأقدار وحتم المصير..."
يتأملها ويتفاعل معها وكأنها ابنة ثلاث سنوات، تجلس على الكرسي بكامل هيأتها وجسمها الذي يتفاعل معه رأسها فسيولوجيا وحسب. تطلق ضحكاتها، وتبرز أسنانها ولسانها وتحاول أن تتمسك ببقايا خلاياها الدماغية، وتريد أن تعرف ما لا تفهم، فقد ذهبت ذاكرتها وانمحت قدراتها على الوعي والإدراك، لكنها لا زالت تعرف بأنه زوجها، وتبتسم له بلهفة وحب وحنان ورقة وانتماء مطلق
- زوجي... زوجي
- وما اسمه
- ........
- زوجي.....
وتقهقه باضطراب، لكنه يمد يده ويداعب ذقنها ويقول:
- إنها حبيبتي
تبتسم له وتمد يدها إليه وكأنها تريد احتضانه
فيضيف: إنها تشغلني
- كم من الوقت أنتم معا
- ستة وأربعون عاما
- ومنذ متى وهي على هذا الحال
- منذ ثمان سنوات... وعمرها الآن ثمانٌ وستون
وتطلق ضحكاتها...هههههههه
قال الزوج: شكرا لقد ذكّرتني... اليوم عيد زواجنا... لم ينبهني إليه أحد... شكرا لقد ذكرتني
والتفت إليها قائلا: سأشترى لكِ حلوى
- ههههه
- يا سيدتي أريدكِ أن تشغليه، إنه بحاجة إلى أن يكون مشغولا بعد تقاعده.
وتحاول أن تعيد بعض كلماتي فتعجز وتجيب:
- هههههه.... مشغوللللل
- وهل تستطيع العناية بنفسها
- لا... لا بل عليّ أن أفعل كل شيء... كل شيء... أتحسب أنها هي التي ارتدت ملابسها ووضعت زينتها؟... لا... لا أنا فعلت كل شيء... كأخذها للحمام وإطعامها وتنظيفها... و و و وغير ذلك الكثير....
- وكيف تشعر بعد هذا العمر؟
يغرق في صمته ويطلق حسرة مؤلمة
- .....
وصمتّ معه وأنا أراقب حركاتها وتعابير وجهها وهي تنظر إليه وكأنها تريد أن تواسيه، لكنني سألت بهدوء وخوف وأدب محاولا إخراجه من وادي الصمت الثقيل:
- فكيف كانت وكيف هي الآن.
خرج من إستغراقه ولملم مشاعره وأحاسيسه وكتم عواطفه وهو يجيب:
- ........ إنها حبيبتي
وحبس دموعه في عينيه لكن قلبه كان يبكي وأكاد أن أسمع صراخه، ثم انحنى عليها وقبّلها وراح يداعب شعرها ويضمها إليه
- ... إنها حبيبتي....
فلا زال الرجل لا يراها إلا في خياله، برغم تداعياتها وفقدانها لذاكرتها وإمعانها بالخرف وعدم القدرة على فعل شيء مفيد. فهي جسم يتحرك بدون قدرات الوعي والإدراك، وانحدرت إلى هذا المصير بسرعة مخيفة لكنه بقي محافظا على صلابته ورعايته لها، ولولاه لأكلها التراب منذ أعوام.
وأنا أراقبها وأحاول أن أقبض على مشاعري وألجم أفكاري أمام هذه الصورة الإنسانية التي يأباها الخيال ويتحرج منها الفكر وكأنها أشبه بالمحال، عدت إليه لأنه هو لسان حالها والعارف بسلوكها ودوافعها، كمعرفة الأم بحاجات رضيعها وأحاسيسه وما يفرحه ويبكيه.
فقلت: كيف يكون الحال بعد ما يقرب من نصف قرن وعندما تتحول الحبيبة إلى جسد وحسب، ورأس بلا قدرة على الوعي وتجميع بعض أجزاء الزمان؟
قال: إنه الحب.... فلا زلت أعشقها برغم أنني أقوم بكل شيء كأنها الطفل الرضيع....
- ........
ويبدو قوله صحيحا لأنه قد اعتنى بها إلى أبعد الحدود وأظهرها بزينة معقولة، لا يمكن للناظرين إليها أن يحسبونها بلا ذاكرة.
قال: البارحة تركتها في مكان لأجلب سيارتي، وإذا بها تصرخ فتجمّع الناس من حولها، ولم تهدأ إلا حينما رأتني... لكن، يا للعجب، لا تعرف اسمي لكنها تعرفني، أنا خيط ارتباطها بالحياة... أنا كالحبل السري الذي يربطها بمشيمة البقاء.
قلت: أصبت
ورحت أتأملها وأدرك لماذا تموت الأحلام مبكرا، ولماذا تموت أجمل النساء وأكثرهن شهرة مبكرا. ولماذا يموت معظم الأنبياء مبكرا...
أدركت ذلك وغيره الكثير....
لأن في سكة العمر هناك محطات مخيفة، والعشق الذي نتطعم به في شبابنا قد ينقلب علقما في خريف العمر... ولكي تحتفظ البشرية بذاكرة برّاقة عن الجمال والمشاهير، لا بد لهم أن يرحلوا قبل الأوان...
وحدجني بألم وحيرة، وفي أعماقه لجة من المشاعر والأحاسيس المخنوقة التي تعجز عن وصفها الكلمات... لكنني حسبته يقول، إنه وثاق الحب والوفاء والإخلاص، والتعامل مع الحياة على أنها قدر محتوم وامتحان لا بد أن نجتازه بنجاح كبير.
وهو ينظر بعين التوجس إلى قادمات الأيام وكيف سيكون عليه حاله...
تكلمت عيونه وقسمات وجهه فأباحت بأروع العبارات
فودعته...
وأغمضت عيوني...
وأنا أجالس المجهول البعيد....
وناديت... لماذا لا نحب ونؤازر بعضنا أمام هول الأقدار وحتم المصير...
فحدّق الكرسي بوجهي وسفه القول العسير...!
نقلاً عن: الشبكة العربية للعلوم النفسية
واقرأ أيضاً:
تقوى ! / كوفاد / من قصيدة لبغداد / آخر العمى / جوع / أحتاج عينيك / لو مرةً
التعليق: شيء جميل أن نحب ونُحَب ولكن هل كل حب يواجهنا في حياتنا هو الحب الصادق . لقد أثرت في هذه القصة جدا لدرجة أن دموعي انهمرت من غير أن أشعر, الحمد لله أولا وأخيرا علي كل شيء......