أتابع جيداً على مدى سنوات طويلة السلوك الاستهلاكي في الأرض المحتلة/67، وشاركت مع العديد من الناس في حملات تشجيع المُنتج المحلي، ومقاطعة المُنتج الصهيوني بخاصة في انتفاضة عام 1987. وقد كان رأيي، وما زال، بأن الشـعوب التي لا تعتمد على نفسـها لن تشـبع إلا ذُلاً وقهراً، وأن الشـعب الذي يدعم اقتصاد عدوه لا يبحث عن الحريـة والتحرر. وإذا كان الحِرص على المُنتج الوطني هام جداً في ظل الاستقلال والاستقرار، فإنه بأهمية مضاعفة عندما يقع الناس تحت الاحتلال لما فيه من إصرارٍ على الاكتفاء الذاتي ما أمكن، ومن الإفلات من العقوبات التي يفرضها الاحتلال على الناس بسبب مقاومتهم له أو بسبب عدم تجاوبهم مع إجراءاته.
بطيخ جنين هو أحد الأمثلـة على الخيبـة التي أصابت شـعب فلسـطين، ليـس بالضرورة بسـبب مواقف شـعبيـة واعيـة ومعلنـة، وإنما بسـبب قيادات سـياسـيـة واقتصاديـة فشـلت في ترسـيخ ثقافـة وطنيـة، وبسـبب مصالح ماليـة واقتصاديـة ووجهيـة لهذه القيادات. فمن المعروف أن سهول جنين تُشكل سلة غذاء هامة جداً لفلسطين بخاصة من الخضروات، وهي ركيزة أساسية في سياسة الاكتفاء الذاتي فيما إذا تم تبنيها من قِبل فصائل أو منظمة التحرير أو سلطة. وكانت هذه السهول مصدراً أساسياً لإنتاج البطيخ الذي كان يملأ أسواق الأرض المحتلة/67 وأسواق الأردن.
أتابع الوضع الزراعي في هذه السهول على مدى سنوات، ورأيت زراعة البطيخ تختفي تدريجياً رويداً رويداً، إلى أن عجزت عام 2010 عن رؤية دونم واحد مزروعاً بطيخاً. في هذا العام 2011، أرشدني أحدهم إلى مزرعة بطيخ في مرج ابن عامر، فقمت بزيارتها. وقد تعرفت على المزارع "عبد الناصر أسعد سمار"، وهو معتقل سابق، وعامل سابق في المنشآت الصهيونية. ذكر لي السيد "عبد الناصر" أن وزارة الزراعة الفلسطينية قررت تشجيع زراعة البطيخ، وقدمت لمن يرغب بالزراعة أشتالاً جديدة مركبة على جذور اليقطين، وذلك بنصف التكاليف. وطبعاً هذا شيء جيد، وضروري ومن المفروض أن يستمر. وقد رأيت الإنتاج، وهو إنتاج جيد اشتريت منه، وأعجب كل الذين تذوقوه. وقد وزنت إحدى الثمار فكانت واحداً وعشرين كغم، وهي تفوق في جودتها بطيخ الصهاينـة، ويكفي أنك تشـتمّ في جنباتها عبق جبين فلاح فلسـطيني مكافح...
تذمر "عبد الناصر" من موت نسبة عالية من الأشتال، لكنه أبدى ارتياحه من حيث أنه من الممكن تحسين الأشتال مستقبلاً. لكن المشكلة الكبيرة التي يواجهها هي منافسة البطيخ الصهيوني..! السـوق الفلسـطينيـة مليئـة بالبطيخ الصهيوني ومن نوعيـة غير ممتازة لأن التجار لا يأتون بالبطيخ من النخب الأول..! وهذا معروف، إذ قضى البطيخ الصهيوني عبر السنوات على البطيخ الفلسطيني، وبالتالي قضى على المزارع الذي يُحافظ على الأرض التي هي الوطن. السـبب ليـس في الصهاينـة وليـس في الاحتلال البغيض، وإنما المسـتهلك الفلسـطيني الذي يشـتري البضاعـة الصهيونيـة، وضارباً القيم الوطنيـة بعرض الحائط لصالح القيم الاسـتهلاكيـة...
قال لي "عبد الناصر" إنه باع صندوق البطيخ الذي يزن حوالي 350 كغم بـ 120 شيقلاً، وهذا بالكاد يُغطي التكاليف. وأضاف بأن مزارعاً مجاوراً له قد خسر لأن سعر البطيخ هابط جداً، وتوقع أن يتكبد خسائر هو الآخر. وشرح لي بأن المزارعين توجهوا إلى السلطة لمساعدتهم في الحد من الاستيراد من الصهاينة، واجتمعوا بتجار البطيخ. وعدهم رجال السلطة بأن يعملوا على منع دخول البطيخ، لكنني أوضحت "لعبد الناصر" بأن هذا الوعد لن يُنفذ لأن صاحب القرار لا يسـتطيع أن يتخذ قراراً من هذا القبيل بسـبب الاتفاقيات مع الصهاينـة..! قد يكون هناك وطنيون من بين الذين وعدوهم، لكن مشـاعر الوطنيـة وحدها لا تكفي لاتخاذ قرار، وإنما يجب أن تتوافر الإرادة السـياسـيـة الحرة...
أما التجار فغضبوا عندما سمعوا مطالب المزارعين بوقف غزو البطيخ الصهيوني، وقالوا للمزارعين حرفياً: "إنتو بدكم اتخربوا بيتنا". وهنا المأساة الحقيقية: أين خراب البيت؟ هل هو بوقف الاسـتيراد من الصهاينـة، أم دعم المزارع الفلسـطيني؟ هل هي مصلحـة التاجر، أم مصلحـة الوطن التي تتطلب تقليص الاسـتيراد من الصهاينـة بقدر الإمكان؟ وهل بإمكان التاجر أن يُتاجر بالبطيخ الفلسـطيني بدل الاتجار بالبطيخ الصهيوني..!!؟؟
هذه أسئلة عمرها أكثرها من خمسة وثلاثين عاماً. على مدى عشرات السنين وهناك محاولات لوقف شراء البضائع الصهيونية وتشجيع المنتوج الوطني، ولم تحصل إلا استجابة جزئية خلال انتفاضة عام 1987، وانتهت بالفشل. لقد شرح العديد من الناس بوسائل مختلفة للجمهور الفلسطيني مخاطر شراء البضائع الصهيونية وما في ذلك من دعم لاقتصاد العدو وتدمير لفكرة الاعتماد على الذات. لقد استمع الناس إلى محاضرات تثقيفية كثيرة، وندوات ودعوات، واستلموا بيانات وكُتيبات، وبحّت حناجر كثيرة وهي تدعو المواطنين إلى تغليب القيم الوطنية على القيم الاستهلاكية. وللأسف خابت الآمال. ببساطة يرد عديد من الناس بأن البضاعة الصهيونية أفضل من المنتج الفلسطيني، وإن كانت للأكل يقولون إنها "أزكى".
يبدو أن أغلب الناس غير معنيين بالقيم الوطنيـة، وما زالوا يظنون أن خلاصهم سـيأتي على يد غيرهم، وما عليهم إلا أن يتمتعوا تحت الاحتلال لأن "الفرج قريب"، ويختمون هلوسـاتهم بالاسـتنجاد بالذات الإلهيـة ويقولون "إن شـاء الله". ولا يبدو أن الناس مقتنعون بأن ما يقومون به عبارة عن خيانـة وطنيـة واضحـة! إنهم يدعمون اقتصاد الصهاينـة، وبالتالي جيـش الصهاينـة الذي يُصادر الأرض ويقتل الناس ويسـتبيح الحُرمات. الخيانـة ليسـت فقط أن تعترف بـ (إسـرائيل) أو تُنسـق أمنياً معها، وإنما من الخيانة أيضاً أن تُدمر صاحب المصنع الفلسـطيني، وصاحب المعمل، وصاحب المزرعـة، وتُنعـش الصناعـة الصهيونيـة، وتدعم زراعتهم...
قد يثور أحدهم ويقول إن هذه مبالغة. لا... هذه ليست مبالغة لأن كل هذه السنين الطويلة من الاحتلال والقمع والتدمير كان يجب أن تكون كفيلة بتنشيط التحدي لدينا، وترفع من درجة إصرارنا لنكون جميعاً في خندق المواجهة، وكل حسب موقعه في المجتمع وعجلة العطاء. هل من المعقول أننا ما زلنا نشتري الحليب والعصير والبوظة والشوكولاتة والمنظفات من الصهاينة..!!؟؟ (لو) كنا وطنيين لما قضينا على معامل الأحذية في الخليل، ولا على معامل الخياطة في طولكرم، ولا على الصناعات النباتية في نابلس،... إلخ. وتقديري أن علينا أن نواجه الحقيقة العارية كما هي إذا أردنا أن ندحر الاحتلال ونستعيد ولو جزءً من حقوقنا الوطنية الثابتة.
كان الصهيوني قبل عام 1948 يرفض شـراء أي بضاعـة من الحانوت الفلسـطيني الذي يقع بالقرب منـه، وكان يُفضل السـير مسـافـة طويلـة لشـراء علبـة كبريت من حانوت يهودي...!!! هكذا يفعل من يُريد إقامـة دولـة...
30/حزيران/2011
واقرأ أيضاً:
لا سيادة لمصر / الماسونية تغزو فلسطين / الحذاء العظيم / إلى القيادة السورية سوريا أمام مهمة تاريخية