قد هلل الكثير للثورات الشعبية العربية كما يقال، واعتبروها فتحاً مبيناً وأمَّلوا من ورائها خيراً عميماً، ظانين أن الاستبداد والطغيان ولّى زمنه وحلّ محله سماع صوت الشعب وانتشار الحريات والانفتاح السياسي وعودة الكرامة، وأن زمن التبعية والهوان في طريقه إلى الأفول. ويتوقعون أن تتاح فرصة العمل للعاطلين، وأن يوزع الناتج القومي توزيعاً عادلاً بدل استئثار فئة قليلة بمقدرات الأمة، وأن يكون القرار السياسي نابعاً من مصلحة الشعب بدل الإملاءات الخارجية. أليست هذه المطالب مشروعة؟ ألم يحن وقت تحقيقها بفضل هذه الثورات؟ ألم يعد للأمة إحساسها بكرامتها وثقتها بنفسها وأمل تعافيها؟.
وهل يسع أحداً لم تتلوث يداه بدماء وأموال هذه الأمة إلاّ تأييد هذه الثورات متفائلاً بما سوف يتحقق من ورائها من خير وازدهار وتقدم؟ ألم يتغن بمآثرها جميع الفئات والطبقات حتى رجالات الدول التي أسقطت والمحسوبين علىها؟ ألم يدبج الخطباء والبلغاء عبارات الثناء وقصائد المديح بالكرامات التي تحققت والمعجزات المنتظرة؟ ألم يركب الجميع الموجة معدداً إسهاماته مدعياً أنه مؤسسها وأبو عذرتها؟. وهل يُقبل في هذا الوقت المبكر أن يتجرأ أحد ويبدي بعض الملاحظات مبدياً تخوفاته وخشيته من أن لا تكون الأماني كالواقع الذي أمامنا أو أن يجابه الجماهير بما يعكر صفو الجو الاحتفالي؟ وهل من اللائق قراءة آيات الطلاق في حفل النكاح؟ ومع هذا فالنصيحة للأمة تقتضي أن تكشف الحقائق وأن يصارح المريض بأخذ العلاج ولو كان مراً تعافه النفوس، ومن لم يفعل ذلك خائفاً من قالة السوء ومؤثراً للسلامة الشخصية فقد خالف نص الحديث الصحيح: "ألا لا يمنعنّ أحدكم هيبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو سمعه"، وتنكب سبيل النصيحة، وغش أمته. وإذا كنا نعيب على الأنظمة السابقة بالدكتاتورية وتكميم الأفواه، فهل من اللائق أن تنشأ ديكتاتورية الثورة وطغيان الميديا؟ فمن تكلم أو استفسر أو أبدى ملاحظة حكم على أنه عميل للأنظمة السابقة حتى ولو كان مغموراً لا يدرى أين هو في أرض الله؟.
وأول تلك الأسئلة، هل هذه الثورات عفوية نشأت بحكم القهر والجبروت والاستطالة على الناس، فهب الجميع لرفع الظلم وقاموا بما عجز عنه أهل الرأي والحنكة السياسية وأهل الفكر والتنظير؟ أم أن الثورات مدبرة وأن الأنظمة السابقة سقطت لانتهاء صلاحياتها واستنفاد الغرض منها؟ ولماذا قامت الثورات في الدول العربية فقط ولم تمتد إلى الدول الافريقية والآسيوية المماثلة لها؟ ولماذا نجحت في بعض الدول ولم تنجح في غيرها؟ ولماذا يستعمل الغرب معايير مزدوجة فيبارك بل ويتدخل في بعضها ويسكت عن بعضها؟ وهل يمكن اعتبار ما يجري ديكتاتورية العولمة وتأثير الإعلام المرئي الذي يقيم الدول ويسقطها؟ وهل هذه الثورات دليل على نضج الشعوب وإبداء الرأي على مصيرها بدل الاستسلام والتبعية؟ أم هي مسرحية جديدة مبتكرة لإلهاء الشعوب وإدخال البلاد والعباد في فوضى عارمة؟ وما هذا السلطان والتأثير الهائل لبعض الفضائيات، ولماذا لا يطال النقد لبعض الأنظمة وتبدو هذه الفضائيات في بعض الأحيان وكأنها الناطق باسم الثورة والإذاعة الرسمية لها، ومن العجب تغافلها عن مساوئ الأنظمة التي تعيش في كنفها وعدم تفطنها للمعايب التي عندهم مع تضخيمهم للمساوئ التي عند الآخرين، ولماذا تنبهت لهذه المعايب في هذا الوقت وتجاهلتها في السابق وقد كان موجوداً؟.
وهل الاقتصاديات وأنظمة التعلىم التي كانت متواضعة أصلاً تستطيع الصمود في ظل الوضع الحالي؟ ألم تدخل بعض الدول في حرب أهلية كليبيا مثلاً وتكاد تنزلق اليمن إلىه إن لم تدركها العناية الإلهية؟، وهل مجرد التغيير مطلوب أصلاً؟ وهل يكون أفضل من سابقه في كل الأحيان؟ ألم يتغير نظام الحكم في الصومال وحلّ محله الفوضى والحروب الأهلية؟ ألم يتغير نظام الحكم في العراق وذاق أهله الدمار والخراب والاقتتال الطائفي بعده؟ وهل تتحقق الشعارات مهما كانت مقبولة في كل حين؟ ألم يكن الشاعر العربي موفقاً في قوله: رب يوم بكيت فيه وانقضى فصرت في غيره فبكيت علىه؟. قد يقول قائل في نسف هذا التساؤلات المشروعة: إنك تؤمن بنظرية المؤامرة، ويحسب أنه قد هزم خصمه وحجّه بهذا الجواب الجاهز، وأقول: متى كنا في مأمن من المؤامرة، أو ليس ما يجري في عالمنا من أكبر المؤامرات؟. نعم من المعيب أن يكون الاتكاء على المؤامرات نوعاً من الهروب من المسؤوليات وضرباً من الجبرية.
أولاً: لا يستطيع أحد أن يدافع عن الدكتاتورية العربية التي أذلت الجميع وأهانت الكل وأوصلت مجتمعاتها إلى الحضيض في كل شيء، ومع هذا فلا يستطيع أحد أن يجزم بأن الثورات العربية ستؤدي إلى ما يؤمله الناس ويشتاقون إلىه من عز وكرامة وعدالة وتقدم نظراً إلى ما يحيط بهذه الثورات من عقبات وعراقيل. ومع أن التعاطف بهذه الثورات مقبول من الناحية الإنسانية لنشدان الجميع تغييراً أفضل وتحولاً أحسن، وصدق الشاعر العربي في قوله: منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغدا، لكن على النخب المثقفة أن لا تغتر بالشعارات ولا تقنع بالأجواء الاحتفالية ولا الهدير الجارف المهيب، فلا أظن أن تكون لدى الثوار خطط مفصلة ولا أجندات محددة، غير حبها للتغيير ومعارضة الأنظمة السابقة والدليل على محدودية نظر الثوار انشغالهم بالثأر من الأنظمة السابقة وتركيزهم على الماضي بدل الاهتمام بالمستقبل؛
ومما يحدد تأثير الثوار عدم استلامهم مقاليد الأمور بعد، بل إن بقايا النظام البائد هو المتنفذ حالياً وفي المدى المنظور، ولا يُجمع الثوار غير معارضة الأنظمة السابقة، وإن أعطي لهم دور فسيواجهون تركة ثقيلة، وسيتضح للجميع سهولة المعارضة وصعوبة تحقيق الشعارات، ولا ننسى الدور الأجنبي في رسم السياسات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية، كل هذا وأشباهه يضعف الأماني العريضة التي يعلقها البعض على اضطلاع الثوار بدور مفصلي في تحول عريض وتغيير شامل. لا تعني تلك النظرة المتحفظة تقليل ما قام به الثوار في هذه المرحلة من إطلاق سراح سجناء سياسة ورأي، أو عودة كثير ممن اغتربوا عن أوطانهم بغير إرادتهم، أو السماح للبعض بممارسة حقهم السياسي والإعلامي، أو الشعور بالأمل، هذه الأمور وغيرها تحققت بفضل هذا التحول، ويجب أن يحسب للثورات هذا الإنجاز، ومع هذا فلا ينبغي التغاضي عن الأخطار الحقيقية والقدرة المحدودة ونقاط الضعف الظاهرة، لأن تغافل هذا الأشياء في ظل الفرح العارم قد يؤدي إلى إحباط شديد ونكسة خطيرة، فالتفطن لنقاط الضعف في وقت مبكر قد يسهل تفادي بعض الأخطاء أو يقلل من الانتكاسة الارتدادية.
ثانياً: هل هي ضربة لازب أن يكون تعافي المجتمعات العربية والإسلامية وفق أطر مستوردة ونماذج غربية؟، وهل الديمقراطية الغربية هي الكلمة السحرية والبلسم الشافي لكل أدوائنا وعللنا؟ أليست قيمنا وظروفنا تختلف عن تلك الموجودة في الغرب؟ إن اختزال جميع أدوائنا بترديد هذا المصطلح والتغني بهذا الشعار دون النظر إلى أمور كثيرة استخفاف بالعقول وتقليد أعمى يؤدي إلى تخدير الشعوب وإلهائها عن البحث عن مواطن ضعفها الحقيقي، وفقدان أكبر مفجر للطاقات وملهم لنهضة حقيقية، أعني تفرد هذه الأمة بقيم وتميزها بخصائص دون أن يؤدي ذلك إلى عزلتها وعدم الإفادة من تجارب غيرها. والظاهر من صنيع الغرب أنهم جعلوا الديمقراطية الإنجيل الجديد فالقبول والرضا منوط بأن تحذو حذوهم وتسلك سبيلهم وتحاكيهم في أمهات المسائل، فهل هذه طريقة ديمقراطية أصلاً (على طريق الإلزام)؟ فلماذا لا يقبلون قيم غيرهم إن لم تكن الديمقراطية نمطية أو مسيسة؟ ولماذا يرفضون بعض الأحزاب التي فازت وفق هذه اللعبة كحماس والإنقاذ الجزائرية؟ ولماذا أيدوا بعض الديكتاتوريات وأمدوهم بأسباب البقاء ثم انقلبوا علىهم بعد استنفاد الغرض منها؟ وما هذا التباكي الآن على الحريات المفقودة والأموال المنهوبة في عصر فلان وعلان وكأنهم اكتشفوها الآن؟ ألم يأخذوا النصيب الأوفى والسهم الأعظم في كل ما حدث من انتهاك للحريات والتستر على كل الجرائم ونهب الأموال وإيداعها في بنوكهم؟ ما هذا النفاق وما هذا الاستخفاف بعقول الشعوب؟ وكيف يستنجد بهم البعض وقد اتضح دورهم المشين لكل ذي عينين؟.
ثالثاً: إن المدح المفرط للثورات من قبل بعض الدعاة والعلماء وتصويرها كأنها فتح جديد وخالد آخر تسرع غير مناسب لحملة الشرع، فقد ظن البعض أنها فتوى شرعية وليست رأياً شخصياً، وتكلَف البعض فحاول تكييف هذا الحدث واجتهد في سوق الأدلة على مشروعيته وأطلق على المنتحر اسم الشهيد، وقد كان من الحكمة التأني في إصدار الأحكام في أمر حادث لم تكتمل صورته بعد وتشوبه بعض الشوائب في ميزان الشرع، لأن من الثابت شرعاً حرمة الفوضى أو ما يؤدي إلىها، وما اكتنف تلك المظاهرات من ازهاق للأرواح وإتلاف للمال وتعطيل للمصالح، وكذلك إطلاق بعض المصطلحات المجملة التي لا تقبل بإجمال. ولم تكن هنالك ضرورة شرعية ملحة في التعجل في إصدار الأحكام مدحاً أو ذماً، وقد تعجل بعض الدعاة سابقاً في دبج المدائح للثورة الإيرانية إبان نشأتها، وقبل ذلك مدحوا أتاتورك، بل بارك البعض إسقاط الخلافة العثمانية غير معتبر لقاعدة اعتبار المآلات، أو إبداء التحفظ على الأقل.
وقد يقول قائل: هل السلبية موقف؟ وهل من الحكمة السكوت في ظل هيجان الشعوب على الظلمة ومصاصي الدماء؟ ألا يبدو الدعاة في لامبالاتهم تلك وكأنهم أعوان للظلمة وسند للطغاة؟
والجواب: من الحصافة أن يتصف الدعاة بالأناة والاتزان في أقوالهم وأفعالهم، لأن العامة تخلط كثيراً بين الاجتهاد الشخصي الصادر من الداعية القابل للصواب والخطأ وبين الموقف الذي يعبر عن الشرع المعصوم، وعلىه فلا يتسامحون مع الدعاة إذا ارتكبوا خطأً كما يتسامحون مع الساسة، فكان من الخير لهم انتقاء ألفاظهم ووزن عباراتهم، والكلام على ما ينبغي فعله في هذا الظرف العصيب، وتوجيه الشعوب إلى ما يصلحهم، والابتعاد عن إبداء ضغينة شخصية أو تصفية حسابات مع نظام أو تيار حتى ولو لقوا منه الظلم والعنت. والحل الأنجع في خروج الأمة من أزمتها هو التحاور والتصالح وعدم إقصاء طرف، لأن مسلك الإقصاء أدى في السابق إلى الاحتقان الحالي، ولن يؤدي إلى حل دائم وإلى نهضة معتبرة في اللاحق. والمطلوب من الأمة أيضاً: النظر إلى الأمام في الخروج من أزمتها بتحديد الألويات ووضع الاستراتيجيات القريبة والبعيدة والتعامل مع الواقع بحنكة ودراية والتفريق بين المأمول والمتاح، والتفطن للعقبات والعراقيل الموجودة، والاستفادة من جميع طاقات الأمة، وتغليب مبدأ المصالحة على مبدأ الانتقام وتصفية الحسابات.
وفق الله الأمة لما يصلحها ويسددها.
واقرأ أيضًا:
ثورة مصر.. تحرير.. ورسالة تدعو للتحرير / ثورة الغضب العراقي من الشمال إلى الجنوب / هل الثورات العربية خطة أمريكية؟ / الأزمة السورية بين الواقع والمأمول؟