هب أننا أخذنا مجموعة من الناس وذهبنا بهم إلى أماكن خلابة ومعالم سياحية جذابة، لأول مرة في حياتهم يشاهدونها، فإنه من المرجح أن نجد الآتي: نسبة كبيرة منهم سيخرجون أجهزتهم «التقنية» الحديثة؛ ليلتقطوا صوراً كثيرة ومتعددة، ليس ذلك فحسب؛ بل ربما يقومون بإرسالها مباشرة عبر الهاتف المحمول أو البريد الإلكتروني، ومنهم من سوف يلهو ببعض الخيارات أو الألعاب المخزنة في تلك الأجهزة، ونحو ذلك من سلوكيات انصرافهم عن المشهد، وزهدهم بالمتعة الحقيقية المباشرة؛ لصالح «المتعة التقنية»؛ التي يستخرجونها من «جوف» أجهزتهم التقنية. إنه مشهد اغتيال «الدهشة التلقائية» لصالح «الرصد الآلي»، ودفن التأمل والتدبر في إحدى «المقابر الإلكترونية».
في هذا العصر يعيش الإنسان ما أسميه بـ «إمبريالية التقنية وخضوع الإنسان»؛ في ظاهرة غير مسبوقة لسيطرة التقنية على تفاصيل حياتنا وملاحقتها لنا في كل مكان، خاصة أن الأجهزة التقنية الحديثة أفلحت في تصغير حجمها وانخفاض تكلفتها. أذكر جيداً أنني رأيت في التلفاز مسلماً خاشعاً في الحرم المكي في صلاة التراويح، وقد كان بحوزته جهازاً إلكترونيا «حاسوباً كفياً»، وقد طغت عليه التقنية، وغلبته في خياراتها المتنوعة الرشيقة؛ فجلس يقلب الصفحات وينظر في الخيارات؛ لعرض المصحف الشريف وتكبيره وتصغيره. كان خاشعاً بحق... ولكن خضوعه كان متوجهاً للتقنية الفاتنة!
سيطرة التقنية سوف تشهد تزايداً كبيراً في الفترة القادمة، وهذا يعني أننا بحاجة ماسة لبناء نماذج (أو نظريات) لتفسير ظاهرة هيمنة التقنية على حياتنا المعاصرة، وتمكيننا من التنبؤ بمستقبل تلك الظاهرة، وربما التحكم بها في وقت لاحق. وبطبيعة الحال، فإن بناء مثل تلك النماذج العلمية يتطلب جهوداً بحثية مكثفة. وقد بدا لي أنه قد يكون مفيداً أن أضع بعض الأفكار المبدئية - أقول المبدئية - لسؤال كبير مفاده: لماذا ينجذب الإنسان المعاصر للتقنية بهذا القدر المتزايد؟ لمقاربة الإجابة على هذا السؤال المعقد الذي صدّع رأسي كثيراً، سأضع الأسباب التي أرى أنها تشكّل تفسيرات محتملة لانجذاب الإنسان المعاصر للتقنية، وقد تكون متوافرة جميعها لدى فئة من الناس، وقد يتوافر بعضها بقدر ما أو لنقل بخلطة ما، وذلك بحسب التركيبة النفسية والعقلية للإنسان ومحيطه الاجتماعي والعملي ومؤهلاته وقدراته.
دعوني أضع تلك التفسيرات المحتملة تحت عناوين محورية؛ اخترت أن تكون «ثلاثة هروبات» للإنسان المعاصر، وذلك كما يلي:
أولاً: الهروب إلى الفضاء المصغّر المبسٌط:
الطبيعة الاختزالية للعقل الإنساني تجعله ميالاً للأشياء التي تقدم له العالم بصورة مصغرة، وهذا ما تفعله التقنية الحديثة، حيث إنها تجمع بصورة مبهرة العالم كله.. تجمع التجارة والأعمال، والسياسة، والثقافة، والاجتماع، والفن، والرياضة... تجمع الماضي والحاضر والمستقبل... تجمع الفردي والجماعي والمؤسسي والوطني والدولي.. تجمع الاختراعات والتجهيزات... تجمع الجدية والترفيه... تجمع المشاكل والحلول... تجمع الواقع والخيال... وكل ذلك يغري الإنسان بالهروب من العالم الحقيقي المعقد المبعثر، إلى العالم المصغر المبسط المجمّع. وهذا يعني أن التقنية التي تَبرعُ أكثر في تجميع العالم بهذه الطريقة؛ فإنها مرشحة لأن تجتذب عدداً أكبر من البشر.. ولساعات أطول. ولذلك فقد لاحظت أن تقنية التصغير والتكبير بطريقة اللمس (أي لمس الشاشة) تحقق إشباعا كبيراً، وتمنح الإنسان شعوراً باذخاً بالسيطرة والتحكم، فهو -مثلاً- يعرض خريطة العالم على «شاشته الملساء»؛ يكبّرها ويصغّرها كيفما يشاء... في مشهد ُيخيل إليه فيه أن «العالم الكبير» في قبضة «يده الصغيرة».
ثانياً: الهروب إلى الفضاء المُسيطر عليه:
الإنسان كائن تواق للسيطرة على الأشياء والتحكم بها، وأحسب أن تلك النزعة قد ازدادت في الحياة المعاصرة، حيث يتولع الإنسان المعاصر بكل ما يجعله مسيطراً على ما تحت يده. والتعقيد الذي يلف تلك الحياة يرسخ سلوكيات انجذاب الإنسان إلى التقنية الحديثة؛ التي تمكّنه من العالم «المصغر»، وتكسبه أدوات السيطرة والتحكم، ولو بشكل رمزي؛ فيما يخص الأشياء الكبيرة كعالم السياسة والمال والأعمال والاختراعات المعقدة، وقد تتجسد تلك السيطرة بلعبة ُتوهِم الإنسانَ بالهيمنة، كما أن الكبت والاستبداد يقودان إلى تجذر الانجذاب للتقنية، حيث يبتعد الإنسان من «دكتاتورية واقعه الحقيقي» إلى «ديموقراطية واقعه الافتراضي». ومن الواضح أن التقنية الحديثة تجعل الإنسان مسيطراً على ذلك الواقع الافتراضي، بالإضافة إلى التحكم بأشيائه «الصغيرة الخاصة» بطريقة أفضل؛ فهو الذي يختار الأصدقاء، كما أنه هم من يحدد المواضيع التي «يروق» له مناقشتها و«الثرثرة» حولها ونحو ذلك. ولو عدنا للمثال السابق المتعلق بالعالم المصغّر في «الشاشة الملساء»، وتخيلنا أن الإنسان يروم تنظيم رحلة لبلد ما، فإننا سنجد أن تلك التقنية تجعله قادراً على الذهاب إلى المكان الذي ينوي زيارته، ومعرفة تفاصيل كثيرة حوله، بل هو قادر على تحديد مسار رحلته، والفنادق والخدمات التي يود الحصول عليها أثناء الرحلة ونحو ذلك، في سياق يبرهنُ الإنسانُ لذاته أنه «هو» من «يسيطر» على هذا العالم الذي صيٌره -هو- «صغيراً» «طيّعاً» عبر استخدامه للتقنية الحديثة.
ثالثاً: الهروب إلى الفضاء المحقق لذاته:
أومأت إلى أن الإنسان يندفع - تلقائياً - باتجاه ما يجنبه الاصطدام بالواقع الاستبدادي أو لنقل الواقع الذي تقل فيه خياراته إلى كل ما يوسّع دائرة تلك الخيارات، وفي اتجاه معزز لذلك، نستذكر حقيقة بحث الإنسان الدائم عن كل ما «يحقق ذاته»، ويكسبه «احتراماً كافياً» لذاته، وهذه غريزة أساسية في بني البشر. إذن يمكننا أن نقرر دون عناء يذكر بأن التقنية الحديثة تعين الإنسان بطريقة أفضل على تحقيق ذاته، لا سيما للفئات التي لا تتوفر على مهارات أو نتاج يمكن أن يقبل أو ُيعترف به ضمن الأطر والآليات والمؤسسات الرسمية - النظامية - المشهورة؛ مما يدفعهم إلى «تجريب» طرائق جديدة للاعتراف بنتاجهم والظفر بالتقدير اللازم، وفق رؤيتهم لأنفسهم. فمثلاً الشاب الذي لا يتمكن من نشر نتاجه الفكري أو الإبداعي أو الفني في مجلة أو صحيفة أو معرض، فإنه سيلجأ قطعاً إلى «المجلة الافتراضية» و«الصحيفة الافتراضية» و«المعرض الافتراضي»، بغض النظر عن مسمياتها الفعلية في الواقع الافتراضي - أي فضاء الانترنت - فقد ُتعرف بـ(المنتديات أو المدونات أو الصحف أو المجلات الإلكترونية) وما إلى ذلك.
الاحتمالات «التفسيرية» السابقة يمكن أن تؤسس -في رأيي- بدايات معقولة لبناء النماذج التي اقترحها لتفسير وتحديد أسرار الانجذاب المتزايد للتقنية الحديثة ومساراته المستقبلية؛ وما يمكن أن يخلفه ذلك من آثار مختلفة في المشهد الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والعلمي.
وطبيعي أن النجاح في ذلك مرهون بتطبيق منهجية علمية صارمة في عملية البناء لتلك النماذج. وإني آمل أن نغذي الجهود البحثية والفكرية التي قد توصلنا إلى بناء تلك النماذج؛ عل ذلك يعيننا على رفع فعالية هندسة مجتمعاتنا العربية، ورفع منسوب ذكائها الجمعي في مستقبل الأيام، التي يبدو أنها لن تكون يسيرة، بل عسيرة معقدة.
واقرأ أيضاً:
حملات إلكترونية لمناصرة (العربية) وحمايتها / مداخل مبسطة لاستكشاف الهُوية