وفي بداية ليل جديد.....
فقد بلغني أيها الملك السعيد, صاحب الرأي الرشيد السديد؛
أنه في إحدى البلاد كتب أحد الكتاب كتابا وقد طال وساح بين البلاد والكتب والكتاب فدار كتابه عن عدة شخصيات تنوعت في الصفات والقدرات وكأنها نجمات في السماوات. إذن فقولي لي يا شهرزاد: ما هي رؤيتك ومن بين سطور قراءتك انثري عطر آرائك على مسامع شهريارك.
سيدي لقد أزاح الكاتب الستار عن كثير من الأنوار, وأظهر من الشخصيات أبطالا قل وندر أن سمعنا عنها ويا حسرتا على زمن صار فيه الابطال عدم. وقد سقط عنهم البريق وتوارى عنهم التاريخ. وإن دل ذلك فقد دل على كاتب لا ينحني لذل. ويبقي على صحبته ولا يفارق عشيرته حتى ولو فرقتهم الأحداث من هجر الأحياء والأموات.
وقد تتعجب من مقدمة الكتاب وأن الكاتب قد لف ودار لكن لا تتعجب من كون الكاتب يدخل أي قلب وأي دار وحتى ولو دار على قلوب الكثير أو كان عليها قفل بمفتاح دوار. ولا شك في أن الحياة السياسية قد لعبت دورا واضحا في كتاباته وتعليقاته، فقد عاش سياسيا خالصا يبحث عن الحق في كل حقبة, ويمر على البلاد بخفة, ويلتقي مع العوام بشدة, ويتقبل الجميع برحبة, ويناضل الحكام بحدة.
وقرأت الكتاب وتعجبت من أدباء وفلاسفة وشعراء كانوا سببا في وجود الكثير من غيرهم وما زال أثرهم واضح وانتهوا هم بلا أثر كمثل أنور المعداوي الذي كان مبشر لنجيب محفوظ ونزار قباني أو كالشيخ الحجاوي الذي بقيت طرقه موجوده وباقية بين الناس.
ووجدت الكتاب كبلورة مسحورة تظهر للكاتب صورة, ويسرد فيه سيرته وسيرة أصحابه المأثورة, فكان القط كصاحب الرأي والمشورة, والحجاوي للبساطه المعهودة, وقطامش بالفردية والسخرية الأسطورة, وبين محمود شعبان وكرمه وأصالته المشهودة, وبين الخميسي وشخصيته المسحورة, والسمان وأزجاله المنثورة, ومحمد إبراهيم ونوادره المصقولة, المصوغة؛
وتوقفت كثيرا مع شخصية عبادة بن الناطق, حيث تخيلته كواقع الحياة السياسية في شارعنا المصري تثور وتثور وتسكت في لحظة, وأحيانا يقابلها الحظ بسوء القدر كما قابلت البنادق والضربات أحضان عبادة لجيش الثورة, وأحيانا أجد فيه المصري المهمش الذي كلامه مثل سكوته وقد يكون من كلامه العبر, شخصية لا يجهلها أي مصري موجودة في كل مكان وقد تجد من يجهلها ومن يتجاهلها ولكن تجاهل معه أنت إنسانيته وعروبته ومصريته.
وكان التنوع واضحا في الجنسيات وكان الترابط العربي ظاهرا وموجودا آن ذاك, وكان واضحا في تنقل الأدباء بين البلدان العربية وكأنهم ينتقلون إلى بيوت جيرانهم ووضوح الأمر أكثر وأكثر مع شاعر من بغداد ونتمنى من رجوع العرب ورجوع وحدتهم ووطنيتهم في زمن قد نظلم العجائب إذا وصفناه بها.
وكانت قهوة عبد الله بمثابة مجتمع كامل متكامل نجد فيه مختلف الوظائف والدرجات والمناصب, وقد أصاب التنوع العقل والقلب فكل واحد منا يبحث عن نفسه في نجمات صفحات الكتاب. وكانت تضم نهايات صعبة ولكن من أصعبها نهاية الشيخ الطبيب, والموت والوحدة, فقد يكون التصور صعبا للموت وحيدا بلا رفيق أو حبيب, واكتشاف الموت بالصدفة. وقد اتضحت من سطور المهندس عبد الحميد شخصية تحب العمل وتتفانى فيه وتحب الأدب وتلجأ إليه, وتضحك وتسخر وتكتب وتعزف دون أن تضيع في التيه، وكنت أتمنى وضع أسماء الأشخاص بوضوح دون وضع إشارات أو اختصارات وذلك لكثرة جهلي وقلة حيلتي.
وزاد الغموض غموض والحيرة حيرة مع شاعر لكل العصور وتظن أنها مقدمة قد تنتهي وتوضح شخصيته وأشرقت الشمس وغابت دون أن يغيب الغموض وأيضا في الطبيب الشيخ فكان يسود السرد غموضا وإخفاء، وكانوا كالجسد الواحد إذا مرض منه عضو أشتكى بقيته بالسهر والحمى, وكان واضح مع كمال منصور وتأثره الشديد بما حل لمعداوي.
وبالرغم من اختفاء الكثيرين عنا وبعدهم عن الظهور كالآخرين, لكن قد كان في كل فصل سبب الظهور وسبب الاختفاء فأصبحت الفصول مكتملة بسرد قصص كاملة مكتملة عن حياة أبطالها وعلى الرغم من وجود الكثير من المآسي في السرد، لكني تعلمت أن الدنيا حقا دار البلاء وكل يوم فيها بشكل وحال، وكما أبلغ في الكتابة عن الفحول والعظماء, فلم يتخلى أيضا على ذكر النقيد من الموهومين والمهمشين والمنبوذين ممن أرادوا أن يشتروا آراء الناس فيهم بالمال والهدايا وكثره العطايا.
أعجبني ذكر المقهى العادي ووصفه, وكثير من أمور حياتنا تكون قيمتها للبعض قليلة ولكنها تكون سببا في إنجازات أو أعمال عظيمة وكما ورد ذكر بدايته فقد ورد نهايته, وكما هو حال الدنيا, فقد حال الحال إلى المحال، وأعجبتني فصول الكتاب فقد تقرأ الفصول منفردة, كأنك تقرأ موسوعات مكتملة, عن حياة أدباء مضطربة, بين حياتهم الشخصية والأدبية مرتبطة, وصور من الحياة مشتقة.
وستجد في كل فصل فصولا وكأنه شجرة تفرعت لفروع, وتضم الفروع أوراقا وأزهارًا وتضىء بأنوار أقمار من مبدعين على حق وشخصيات قد ندرت، وعلى الرغم من لمحات الفكاهة والسخرية في بعض العبارات ولكنك قد تتأثر وتدمع عينك عبرات, وقد تصير في نهاية الكتاب سقراط.
وصور الكتاب فترة عصيبة في مصرنا الحبيبة بين زمن البشوات والبكوات وزمن الثورة والكبوات وكان أوضح شاهد على أحوال البلاد بين مختلف الطبقات بين الغني والفقر والعلم والجهل وبين السيادة والعبودية وبين النفي والسجن والحرية وبين من أظهره الحكام والساسة كالنجم وبين ما كان في منفاه من غم وهم.
وحزنت كثيرا على حالي وأنا أقرأ كتابي, على قلة علمي بأجدادي وآبائي وأحبائي والجهل الذي سيصيب أبنائي وأحفادي إذا صار الزمن كما صار يواري العلماء والأصحاب ويقفل صدفة أيامه على بريق كتابه وأدبائه.
كوكوكو ..........
مولاي
كتابة نقدية لكتاب (مسافر على الرصيف)
للكاتب والصحفي الراحل أ/ محمود السعدني
بقلم: إباء إبراهيم ميره
والفائز بجائزة مكتبة الأسكندرية لمسابقة عصير الكتب
واقرأ أيضا :
فـي عيـد ميـلادك / عــــن الحلـــم والفـــرح / لوركا.. شهيد الكلمة (5)