الحرية والتحرير أمران متلازمان، فالأرض المحتلة المستعبدة للأجنبي لا يُحررها الأذلة المستعبدون لأنظمتهم ومخابراتهم؛ والأرض يُحررها الأحرار وليس العبيد. فالحر الذي تحرر من قيود الخوف، وشعر بمعاني العزة والكرامة، هو من يملك الإرادة، ومن يملك الشعور بالمسؤولية، ومن يملك القدرة على المبادرة، ومن يملك أدوات الإبداع. وليس استعادة الأرض وكرامة الأمة ممكنا لمن فقد كرامته، وليس تحرير الأرض مرتبطاً بعبدٍ يائسٍ من الحياة، وإنما بِحُرٍّ يريد صناعة حياة جديدة له ولأمته.
الأنظمة "الثورية" التي جاءت على ظهور الدبابات، في الربع الثالث من القرن العشرين، لقيت في البداية استجابة واسعة من الجماهير التي كانت قد يئست من الأنظمة الوراثية ومن الأنظمة المرتمية في الحضن الأمريكي، فقد ظنت الجماهير أن خلاصها قد جاء على يد الأنظمة "الثورية" التي بررت استيلاءها على الحكم بمكافحة الفساد وبمحاربة الاستعمار وبتحرير فلسطين واستعادة المقدسات، وبتقديم نموذج حكم يُلبي تطلعاتها في الحرية والتقدم والازدهار.
وإذا كانت الأنظمة "الثورية" قد نجحت في إزالة بعض مظاهر الهيمنة الاستعمارية، إلا أنها قدمت كشف حساب بئيس بعد فشل نماذجها الاشتراكية، وبعد قيامها بإعادة إنتاج الفساد وتدويره لطبقة جديدة فئوية أو عائلية أو طائفية، وبعد هزيمتها بشكل مهين في صراعها مع الكيان الصهيوني خصوصاً في حرب 1967.
غير أن أسـوأ ما قامت بـه، متفوقـة على الأنظمـة "الرجعيـة"، هو أنها أحضرت لبلادنا أسـوأ ما في التجربـة البشـريـة في إذلال الإنسـان، وفي اسـتعباد شـعوبها لأجهزة مخابراتها، وأنها قتلت في الإنسـان إنسـانيتـه، وقتلت فيـه معاني العزة والكرامـة، وأسـسـت أنظمـة شـموليـة تُسـبّح بحمد "الزعيم الفرد الملهم"...!!! فنشـأ جيل ذليل مسـتعبد يسـكنـه الخوف، يصلح أن يتبع أذناب البقر لا أن يصعد قمم الجبال... وبذلك أرجعت حلم التحرير عشـرات السـنوات إلى الوراء.
هذه الأنظمة التي كيَّفت لنفسها "شرعيات" شعبية غير حقيقية أو مزورة، ظلّت تُصرّ على خطابها "الثوري" و"شرعيتها الثورية" وشعارات تحرير الأرض والمقدسات، في الوقت الذي تضخمت ثروات الزعيم، وتجمعت حوله عصابة من الفاسدين والإنتهازيين، وسعى لتحويل دولته "الثورية" إلى جمهورية وراثية، ونخر الفساد أجهزة الدولة وكوادر الحزب الطلائعي، الذي "طلَّع" أرواح الناس؛ وكان مطلوباً من الناس أن يواصلوا "التسبيح" وأن يستمروا بعزف اسطوانات مشروخة حول الثورية والتحرر والتقدمية، بينما لا يرون حولهم سوى مجموعة من مصاصي الدماء، تحميهم سياط الأجهزة الأمنية.
النظام الذي يخاف من شـعبـه لا يسـتطيع أن يقوده في عمليـة تحرير، كما لا يسـتطيع أن يقوده في مشـاريع نهضويـة وحضاريـة. والنظام الذي يُخيف شـعبـه، لكنـه لا يُخيف عدوه، لا يمكن أن يُشـكل أيـة حالـة تحرير جادة، طالما أن سـلاحـه موجـه نحو شـعبـه وليـس نحو عدوه. وطالما بقي النظام خائفاً من شـعبـه فسـيظل أيضاً خائفاً من عدوه؛ لأنـه يفتقد السـند الحقيقي في المواجهـة كما يفتقد الحضن الدافئ الذي يحميـه ويدعمـه ويرعاه.
إن عمليـة التحرير تعني تفجير طاقات الأمـة وقدرتها على الإبداع، وهي عمليـة غير ممكنـة إلا في أجواء الحريـة، وهي غير قابلـة للتنفيذ في أجواء الكبت والإرهاب. والأنظمـة التي تقوم بإغلاق الأدمغـة و"تعليبها"، أو سـجنها، أو تهجيرها هي أنظمـة تمنع أحد أهم وسـائل اسـتنهاض الأمـة وتعبئتها ونهضتها وإعدادها لعمليـة التحرير.
لا يمكن الجمع بين أنظمـة الاسـتبداد وبين مشـاريع المقاومـة والتحرير، لأن مشـاريع التحرير هي بطبيعتها ضدّ القهر والظلم، ولأن أنظمـة الاسـتبداد هي بطبيعتها أدوات للقهر والظلم.
إن من أسـوأ ما قامت بـه الأنظمـة "الثوريـة" أنها قتلت في الإنسـان العربي ذلك الأسـد الموجود في داخلـه، وجعلت مكانـه أرنباً أو ظبياً أو عصفوراً جفولاً؛ وضعت في داخلـه رجل الأمن والمخابرات الذي يسـلبـه عقلـه وإرادتـه، ثم أبقت لـه ألفاظا كبيرة ضخمـة ليتلهى بها: ثورة، تحرير، تقدميـة، سـلطـة شـعب...، لكن الويل لـه إن "صدَّق الكلام" وأخذ الأمور بشـكل جاد، لأنـه عند ذلك سـيُقبض عليه متلبسـاً بالعمالـة والخيانـة والرجعيـة، وسـيُعدّ من أذناب الاسـتعمار!!
الأنظمة "الثورية" التي ظهرت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ورفعت شعارات التحرر والتحرير، انشغلت معظم الوقت بتثبيت نفسها وسحق خصومها، أما كشف حسابها في حرب حزيران 1967 فكان من أسوأ ما شهده العرب في التاريخ المعاصر والحديث والوسيط والقديم؛ كان كارثة بكل المقاييس عندما ضاعت باقي فلسطين والجولان وسيناء، لأن هذه الأنظمة لم تكن تُدرك، أو لا تريد أن تُدرك، أن الإنسان الذي أذلته وأفسدته، هو إنسان لا يمكن أن يحمل مشروع تحرير.
ومع ذلك فقد استمر بعض هذه الأنظمة في التغني أن "إسرائيل" كانت تستهدف إسقاط النظام الثوري، وأنه بالرغم من ضياع الأرض فإن النظام نجح في البقاء ليُتابع منجزاته!!
ربما يُثير التساؤل معرفة أن سقوط قطاع غزة قد استغرق يوماً واحداً أو يومين سنة 1956وسنة 1967، واستغرق سقوط سيناء (وهي ضعفا مساحة فلسطين التاريخية) يومين سنة 1967، واستغرق سقوط الجولان سنة 1967 (وهي أحد أقوى خطوط الدفاع في العالم) يوماً واحداً؛ أما سقوط بغداد سنة 2003 فلم يستغرق سوى "مسافة السكة"، حيث سقطت بشكل مهين ودون مقاومة. لماذا!؟ على الزعماء "الملهمين" الذين كانت تنتظرهم هذه اللحظات التاريخية أن يُجيبوا؟
من حقنا أن نُقارن وأن نتساءل لماذا صمدت بيروت سنة 1982 أكثر من ثمانين يوماً؟ ولماذا صمد مخيم جنين (نحو كيلومتر مربع واحد فقط) في الضفة الغربية 11 يوماً سنة 2002؟ ولماذا صمد جنوب لبنان 33 يوماً في حرب تموز 2006؟ ولماذا صمد قطاع غزة 23 يوماً في حرب 2008-2009؟...، كلها صمدت في وجه هجمات صهيونية شرسة عاتية؟ وكيف صمدت الفلوجة في العراق بشكل بطولي في وجه أقوى جيوش العالم "الأمريكيين" ولنحو شهر في ربيع 2004؟ ما الذي تغيّر؟ إنه "الإنسان"، الإنسان المؤمن الحر العزيز الذي يملك إرادته وقراره، والذي قاتل بإمكانيات أقل، بعيداً عن وصاية الأنظمة الثورية، فضلاً عن وصاية الأنظمة الدائرة في الفلك الأمريكي.
إن جوهر الفكرة الإسـلاميـة يقوم على أسـاس "تحرير الإنسـان"، وذلك "بإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"؛ وهي العبارة التي ذكرها الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنـه لرسـتم قائد جيوش الفرس، عندما سـألـه عن سـبب قدوم جيوش المسـلمين. إنـه تحرير الإنسـان من عبادة الأوثان والزعماء والهوى والمال وأي من المخلوقات، مع إيمان راسـخ أن الرزق والموت والحياة هي بيد الله تعالى وحده، والنتيجـة: صناعـة إنسـان حرّ عزيز كريم، لا يخشـى من بشـر على حياتـه ومالـه...
وهذه نقطة البدء ومنطلق أية عملية بناء حضاري، أو تشكيل نظام سياسي صحي، يمثل بشكل حقيقي هموم الجماهير وآمالها؛ وهي المنطلق لأن يمارس الإنسان كافة حقوقه السياسية والمدنية دونما استجداء، وأن يُحاسب حكامه وزعماءه دونما خوف أو اضطراب؛ وهي أساس الشعور بالحق وواجب حفظه وحمايته.
إن من أعلى المقامات في الإسلام مقام العبودية لله، وهو الوجه الآخر للتحرر مما سواه. وعندما وصف الله سبحانه في فواتح سورة الإسراء الفئة التي ستقوم بهزيمة بني إسرائيل فإنه قال (((عباداً لنا أولي بأس شديد)))؛ فهم لا يركعون إلا لله ولا يذلون إلا إليه، وهم المؤهلون فعلاً للنصر والتحرير.
وعندما مدّ بنو إسرائيل ألسنتهم لموسى عليه السلام قائلين (((اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون)))، كانوا يُعبرون عن حالة العبودية والذل التي أصابتهم تحت حكم الفراعنة، فلم يعودوا صالحين ولا قادرين ولا راغبين في قتال "القوم الجبارين"؛ عند ذلك رفع موسى يده إلى السماء ليشكو إلى الله أنه لا يملك إلا نفسه وأخاه هارون. فكان القرار الرباني أنّ هذا الجيل المطبوع بالذل والجبن يجب أن يُغيَّر ـ بعد تيهٍ لمدة أربعين سنة ـ بجيل جديد ينشأ في الصحراء حراً من المخاوف والقيود، حتى يتمكن من أداء المهمة.
يُحقق المسـتعمر نصراً جزئياً باغتصاب الأرض، ولكنـه يبقى نصراً مؤقتاً، أما نصره الكامل فلا يتحقق إلا إذا اغتصب من الإنسـان إنسـانيتـه وروحـه وكرامتـه وإرادتـه، وعند ذلك يسـتطيع الاطمئنان إلى طول بقائـه. ويقوم المستعمر باحتلال الأرض ويمنع ابن هذه الأرض من حقه فيها، ومن حكمه إياها، ومن حقه في تقرير مصيره، ومن حريته في التصرف بموارده وثرواته. وقد يمنعه من حرية التنقل والعمل، ومن العمل السياسي، ومن التعبير عن الرأي، وغير ذلك.
ألا ترى أن الأنظمة "الثورية"، التي تجمع الثلاثي المشؤوم المكوّن من الظلم والاستبداد والفساد، تلتقي مع المستعمر في جوهر فعلها، في فكرة إذلال الإنسان وحرمانه من حقوقه؟ إن الإنسان يفقد إنسانيته وكرامته في كلتا الحالتين...، والفرق الجوهري أن الجريمة في الحالة الأولى يرتكبها المستعمر الأجنبي، وفي الحالة الثانية تكون صناعة محلية (تستفيد من أسوأ ما لدى الخبرات الأجنبية). وسواءً كان ذلك طربوشاً أم عقالاً أم قبعة أم خوذة أم شعراً منكوشاً، فإن الظلم هو الظلم، والاستبداد هو الاستبداد، والفساد هو الفساد.
تلك الأنظمة التي تتحدث باسم الجماهير وغصبا عنهاً، وتقول إنها تُعبر عن تطلعاتها في التحرير والاستقلال، يجب أن تكون صادقة مع نفسها ومتوافقة مع ذاتها في التعبير عن تطلعات الجماهير أيضاً في توفير العدالة والحرية والكرامة في بلدانها، فالأمران صنوان متلازمان. ولذلك فإن عقلية الوصاية التي تُمارسها الأنظمة "الثورية" الشمولية يجب أن تذهب وتزول.
إن أولئك الذين جاؤوا على ظهر دبابة ليتحدثوا باسم الجماهير، عليهم أن يُقدموا كشف حسابهم لهذه الجماهير، وعليهم أن يرضخوا للإرادة الحرة لهذه الجماهير التي لها الحق في محاسبتهم ومعاقبتهم وإزاحتهم، إذا ما كشفت فشلهم وفسادهم وتزويرهم لإرادتها. ولا خيار لهذه الأنظمة إلا المسارعة في عملية إصلاحية حقيقية، أو أن تتوقع ثورة شعبية تطوي صفحة هذه الأنظمة.
أما ما يُثير السخرية والرثاء فهو ما يُنادي به بعض منظري الأنظمة "الثورية" من أن الجماهير لم تنضج بعد لممارسة العملية الديموقراطية، وهو ما يعني أنهم يرغبون في البقاء جاثمين على صدور الناس إلى ما لا نهاية، دون الاستناد إلى أية شرعية معتبرة سوى شرعية القهر والقوة.
وبالرغم من أن الإنسان في بلداننا العربية يعود في عمقه وإبداعه الحضاري إلى أكثر من خمسة آلاف عام، فإنه ما زال برأيهم غير مؤهل لممارسة عملية شورية ديموقراطية، مع أن الناس في مجاهل الغابات الاستوائية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، الذين تحضروا منذ سنوات قليلة، يُمارسون هذه العملية بحرية كاملة في بلدانهم.
إن أكثر من أربعين أو خمسين عاماً من الحكم "الثوري" والشمولي لم تزد فيها الممارسات الديموقراطية إلا تخلفاً، ولم تزد الحياة السياسية فيها إلا فساداً، وبالتالي فلا بيئة صحية ممكنة لإنضاج عملية ديموقراطية في أجواء شمولية قمعية فاسدة؛ لأن هذه الأنظمة هي سبب المشكلة وليست أداة حلها.
إن حديث هذه الأنظمة عن عدم نضج الجماهير لممارسة اللعبة الديموقراطية هو تعبير عن فشل الأنظمة الدكتاتورية والشمولية في أداء مهامها في التوعية وفي إعداد الناس، وهو محاولة لإخفاء الفشل والهرب من المحاسبة والسعي للاستمرار على الكراسي بعكس إرادة الناس.
وبالطبع فإن هذا المقال يُركز فقط على الأنظمة "الثورية"، أما الأنظمة الأخرى الموجودة أصلاً في الحضن الأمريكي، فربما تمّ تسليط الضوء على دورها في مقال آخر، لكنها في كل الأحوال لا تدَّعي الثورية ولا تتأبط مشاريع التحرير، ولا تضع نفسها في موضع المقاربة التي نناقشها.
وباختصار، فإنه لا يحق للأنظمة التي ترفع شعارات تحرير الأرض أن تقوم باستعباد شعوبها، لأن ذلك هو النقيض الجوهري لمشروع التحرير. وقد تصبر بعض الشعوب على مرارة المعاناة والحرمان، وعلى الصلاحيات الواسعة للقيادة لإعطاء فرصة لتنفيذ برامج فعَّالة جادة، لكن من الطبيعي أن تنفجر هذه الشعوب في وجه أنظمتها "الثورية"، عندما تفقد هذه الأنظمة مبرر وجودها، وتنكشف عن أنظمة قمعية عائلية أو طائفية أو فئوية فاسدة، تحاول التخفي تحت غلالة رقيقة من الشعارات المهترئة.
نقلاً عن موقع الجزيرة.نت، 15/9/2011
واقرأ أيضاً:
الدم الفلسطيني المنسي/ الربيع لا يتسع للصهاينة/ رائحة العداء للفلسطينيين!!!/ تاريخ اليهود في أرض فلسطين/ الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين؟/ قذائف الحق: عباس باع أرضه