عبر تاريخها، اتخذت مواقف ومسالك الكنيسة المصرية طابعا وطنيا، تابعنا تجلياته في أكثر من مرحلة تاريخية، حيث برزت هذه الروح خلال ثورة 1919، كما تجلت في العلاقة الحميمة التي ربطت الرئيس المصري جمال عبد الناصر والبابا كيرلس السادس، وتمثلت كذلك في العلاقة المتوترة بين البابا شنودة الثالث والرئيس محمد أنور السادات حين رفض الأول توريط مسيحيي مصر في التطبيع مع الدولة الصهيونية.
والاحترام القبطي للحضور الإسلامي لا يقل في روعته تاريخيا. وقد كتب المؤرخ المسيحي المعاصر للفتح الإسلامي يوحنا النيقوسي عن احترام عمرو بن العاص لأملاك الكنيسة، وعن إعادة الأقباط إنشاء الكنيسة الوطنية عقب الفتح الإسلامي، وكذا بناء أديرة وادي النطرون ودير الأنبا مقار إلى أن يحكي عن مجئ الرهبان أفواجا ليؤكدوا إخلاصهم لممثل الخليفة العربي. كما سجل وليم سليمان قلادة إعراض أقباط مصر عن النظر إلي المشاركين في حملات الفرنجة (الصليبية) باعتبارهم مسيحيين يدينون معهم بدين واحد. وحين فشل الفرنجة في تغيير موقف الأقباط منعوهم من زيارة القدس، ورموهم بتهمة الإلحاد والكفر بالمسيح عليه السلام. وحديثا، قاومت الكنيسة المصرية بعثات التبشير الأمريكية، ومحاولات وضع الكنيسة المصرية تحت حماية القيصر الروسي، ناهيك عن الفشل الذريع السريع لمحاولات الفاتيكان.
لم يكن هذا الاحترام المتبادل تنازلا من أي من الطرفين. فكلاهما كان يلتزم بأصول دين أكدت على مثل هذا الاحترام. وظلت هكذا العلاقة حتى توترت أثناء النصف الثاني من فترة حكم الرئيس السادات، وتطور الخلاف ليأخذ بعدا أعمق خلال فترة حكم الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك، لم يكن نظام المخلوع وحده مسؤولا عنه؛ بل شاركت الكنيسة المخلوع في هذه المسؤولية؛ التي أفضت إلى إزهاق هذه الأرواح المصرية الطاهرة البريئة أمام مبنى التليفزيون المصري في التاسع من أكتوبر؛ بقدر ما خلفت من ضحايا من قبل. وهو ما يفتح الباب لتساؤل ملح وعميق عن سبيل الخروج إلى رحابة الوطن مرة أخرى وإلى الأبد.
من القانون إلى السياسة
القانون نصوص مدروسة، محددة، قاطعة، دقيقة، ودوما تقيد الطغاة والمفسدين فيعمدوا إلى تجاهلها في غالب الأحيان؛ إلا تلك الأوقات التي يفيدون فيها منها. وعلى النقيض من ذلك نجد السياسة تتسم بحكم القوة، وغياب القواعد، وهيمنة التقديرات، واتساع هوامش الخطأ، ولهذا نجد الطغاة يفرحون بها وإليها يهربون. وربما أخضع الطغاة كثيرا قواعد العدالة لرؤاهم وأهوائهم متى وجدوا لذلك سبيلا. وكان ذلك شأن التحول في علاقة الأقباط ومصر ببعضهم البعض، ولا أقول الأقباط والمسلمين.
عندما أراد السادات استعادة حالة التدين التي كانت موجودة في مصر قبل الثورة، والاستقواء بها على المعارضة اليسارية لتمهيد الطريق أمام تصفية بقايا نظام عبد الناصر، وفي هذا الإطار استمر البعد الثقافي السياسي حاكما للسادات كما كان حاكما لعبد الناصر في تحديد لهوية العدو مع تطور نوعي؛ حيث تحول دور الثقافة من كونه محدد جزئي إلى كونه محدد كلي، وصار العدو الأساسي للنظام من الداخل لا من الخارج، وحتى عندما فكر السادات في حرب أكتوبر؛ كان يفكر بها باعتبارها مصدرا للشرعية وموردا لمكانة إقليمية تيسر له علاقة نوعية مباشرة مع القوى الغربية.
وكان لهذا التحول ثمن. فرفض الإخوان المسلمين للعب هذا الدور جعل رجال السادات يوسعون خياراتهم حيال دائرة التدين، ويحددون ثقافتها ورؤيتها؛ فيما أسماه مساعد السادات محمد عثمان إسماعيل "الجماعة الإسلامية"، حيث أنشأها ومولها ووفر لها كل من الكتيبات والأسلحة البيضاء لتسحق المعارضة اليسارية قاطبة في الجامعات. وكان للثقافة الخاطئة تبعاتها في تعريف العدو؛ مما اتجه نحو المساس بالوحدة الوطنية، واستفاد منه السادات عقب ذلك في إدارة التوتر الذي شاب علاقته بالكنيسة عقب كامب ديفيد؛ إلى أن أفضى الوضع إلى فتنة 1981 التي يرجح الجميع أن السادات استغلها ليوسع من سلطاته الاستثنائية؛ وان هذا الاستغلال هو ما جعل وزير الداخلية المصري آنذاك: النبوي إسماعيل يعالج القضية في إطار سياسي وليس في إطار القانون.
ولاقى الأمر هوى لدى خليفة السادات، فبرغم أن الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك قام برفع الإقامة الجبرية عن الأنبا شنودة، ورافقه من محتجزه لكاتدرائية العباسية؛ إلا أن ولعه بتغييب القانون وادخاره قضية الأقباط ليعالج بها السخط المحتمل على نظامه؛ والذي طالما نبهته إليه الولايات المتحدة، كل هذا دفعه لأن يؤثر إدارة ملف الأقباط من باب السياسة لا من باب القانون. وكان لهذا المنهج طامة كبرى.
تغليب السياسي واستجابات الكنيسة
عندما يرغب طاغية في ادخار علاقة وطنية ما لتكون أداة السلاح المسمى: فرق تسد، فإنه إما ـن يبقيها خارج دائرة القانون، أو يضع لها قانونا تمييزيا صارخا. ولم يكن الرئيس المخلوع: مبارك على استعداد لتحمل تكلفة قانون تمييزي، لهذا أبقى الأمر قيد التعامل السياسي واحتفظ بقضية الوحدة الوطنية خارج دائرة القانون.
ولكي تكون قضية أقباط مصر جاهزة دوما لأن يتم تفجيرها، حرص المخلوع مبارك على توفير أداتين:
الأداة الأولى: توفير فزاعة مستدامة ليبرر للأقباط عدم وجود إطار قانوني لصالحهم، ويوفر لديهم قناعة بإبقاء الأمر داخل دائرة السياسية. وكانت الأطياف المختلفة للإسلاميين بمثابة الفزاعة المثالية للأقباط؛ على أرضية تطبيق الشريعة التي ألقي في روع الأقباط أنها ستجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية.
الأداة الثانية: تتمثل في جعل الأقباط مصدر توتر دائم في مصر، من خلال التمييز لصالحهم وليس التمييز ضدهم. فمن الناحية العملية، لم يكن لدى نظام المخلوع مبارك أية حساسية في منح الأقباط حقوقهم السياسية أو الدينية، ولعل وجودهم في مناصب حساسة أبرزها وزارة المالية أكبر الدلائل على انعدام تلك الحساسية. لكنه، لكي تظل القضية مثارة لصالحه دوما؛ كان يعطي الأقباط محرمات، وكان يمنع عنهم حقوقهم.
كان نظام مبارك يعطي الأقباط محرمات لا ينبغي حصولهم عليها من قبيل إعادة المسيحيات اللائي يسلمن للمسيحية، أو تسليمهن للكنيسة، أو عدم معاقبتهم في حالة إثارتهم لقلاقل تتعلق بالتحول بين الأديان. وكان يمنع عنهم ممارستهم لحقوقهم السياسية والدينية بموجب قانون واضح؛ بل كانت ممارستهم لحقوقهم الدينية والسياسية دوما رهن إرادته. وكان نظام المخلوع مبارك يتبع هذا دوما بإثارة الفزاعة في وجوههم، مما يدفعهم لإثارة بعض الضغط المهجري، وهو ما كان يستخدمه لمزيد من قمع الإسلاميين عبر توفير غطاء دولي رافض لهذه الفزاعة. وكان النتاج الطبيعي لهذا الأمر هو إثارة وتراكم الاحتقان في الشارع المسلم غير الواعي؛ لأن الشارع الواعي يعلم حقيقة هذه الدائرة المغلقة للاستبداد.
خطأ الكنيسة الأكبر كان قبولها هذا الوضع، بل وتماديها في توظيفه. فلم تقبل الكنيسة فقط بالحصول على المحرمات الدينية، والقائمة فيها تطول بغير طائل من جراء سردها أو حتى الإشارة إليها. لكنها تجاوزت ذلك بمراحل لتبلغ حد الفساد والابتزاز. ولعل نموذج دير أبو فانا بالمنيا من أبرز علامات هذا السلوك الابتزازي.
فالذي تابع أحداث دير أبو فانا بمحافظة المنيا في صعيد مصر، يجد أن رهبان الدير قد قاموا بمنازعة أعراب المنطقة على أرض قاموا بضمها للدير، وذلك على نفس قواعد الفساد التي أشاعها المخلوع مبارك في المجال الاقتصادي، والتي تسمح للصوص والبلطجية وذوي النفوذ بالاستيلاء علي الممتلكات العامة. وبدلا من أن تقوم القيادة الدينية بتحري الرشد، ورد الأرض، والترفع عن مثل هذا السلوك؛ إذ بالأنبا شنودة يؤيد موقف الرهبان في مسلكهم واعتكف كعادته، وهو ما فاقم من الأزمة، واشترط لكي يرضى أن يتم حل المشكلة ببيع الأراضي للرهبان.
ويتفق الذين راقبوا هذه الواقعة – ضمن وقائع متعددة – على أنه إذا كان نظام الحكم بما يعتوره من فساد وتغييب للقانون فضلا عن الترهل والرخاوة، فإن هذا لا يعفي الكنيسة من مسؤوليتها الأخلاقية والوطنية في هذا الصدد. فالكنيسة تبني كنيسة متى شاءت بلي الذراع، وتمارس فيها أنشطتها الاجتماعية والثقافية، وتتمتع بأوقافها في هذا الصدد؛ بينما المسلمون لا يمكنهم بناء مسجد إلا برخصة، ولا يحصلون عليها إلا بعد معاناة، وإذا بني المسجد فلا أوقاف تنفق عليه، وإذا ضمته الدولة فلا أنشطة يتم ممارستها فيه، وطبيعي أن يثير ذلك حفيظة المسلم غير الواعي بحقيقة دور الدولة في هذه المسرحية الهزلية.
ولعل هذا يفسر المسلك الوسطي - لكل من يفهم الظرف السياسي - حيال الأزمات ذات البعد الطائفي، بينما يلحظ انجرار العوام والتيارات السلفية الفقيرة سياسيا في خضم مثل هذه الأزمات. فكل مسلم واع يعرف أنه لا علاقة لقبطي بأي أمر ذي بعد طائفي. إنما هي علاقة ثنائية بين الدولة والكنيسة.
وبعيدا عن الأقباط العلمانيين الواعين، فإن الكنيسة حرصت على تغذية وعي طائفي/ أقلياتي لدى المسيحيين أعانها على تسويغ مسالكها النفعية الابتزازية مع الحكومة المصرية، ووفر لها البنية التحتية لجماعة ضغط دينية داخلية هائلة، والأهم من ذلك أنها وفرت على الكنيسة إمكانية حدوث أية معارضة لمسالكها الابتزازية للدولة. ولا شك في أن بلاهة التشدد الإسلامي قد أعانت على تكريس هذا الوضع الخاطئ.
في تداعيات تغييب القانوني وتغليب السياسي
المشكلة في تأسيس قانون ينظم علاقة المكونات الطائفية في مصر المعاصرة لم تكن أبدا غياب مفهوم قوي يتسم بالوضوح والتوازن. فمصر في مطلع القرن العشرين تراوح – في مجال الفكر السياسي - بين نموذجين كلاهما يمثل إطارا حميدا لصياغة مثل هذا القانون؛ وهما مفهوما "أهل الذمة" و"المواطنة". وقد أفضت النقاشات الفكرية والمراجعات الفقهية إلى تغليب مفهوم المواطنة. ويمثل مفهوم المواطنة أرضية قويمة لضبط العلاقة قانونيا بين طوائف الأمة. لم تكن المشكلة في مفهوم يتم تأسيس القانون عليه، بل كانت المشكلة في نظام استبدادي كان يرفض ضبط هذه العلاقة ضمن إطار قانوني. كان يرغب في استمرار ارتهانها بإرادته ومناراته.
القانون محل التوافق يجعل العلاقات واضحة تماما بين مكونات المجتمع، بينما الوضع السياسي الذي لا يحكمه قانون هو وضع يترك للتقديرات البرجماتية/ النفعية. في العلاقة المنضبطة بموجب القانون محل التوافق يدرك الجميع ما له وما عليه، ويسعى للالتزام بالقانون باعتباره صمام الأمان؛ ما لم يكن مدفوعا وفق مشروع ما لتجاوز الدولة والقانون. أما العلاقة السياسية الفضفاضة الخلو من قانون يؤطرها وينظمها؛ فإنها تغري أطرافها بالمناورة لتوسيع هامش المنفعة بقدر ما تدفع البعض لوضع حدود قاسية في مواجهة المناورات التي تجاوزت كل الحدود.
لهذا، كان الجميع يدعون لوقف المواءمات فيما يتعلق بإدارة الملف الطائفي، وكانوا يرون أن هذه المواءمات هي من بقايا النظام الذي سقط، وكانوا يرون – مع توفر حسن النية - أن استمرار استخدامها تعبير عن غياب رؤية قويمة للأمور؛ بينما كان البعض يرى أن استمرار نهج المواءمات ربما يكون بابا خلفيا لإثارة القلاقل وفتح الباب لإعادة إنتاج النظام القديم أو إعداد العدة لاستنساخه.
لقد أصبح القانون ضرورة. لكن بنظري أن الضرورة الأشد في حالنا تتمثل في ضرورة مناقشة أقباط مصر لمنهج الكنيسة المصرية نفسه وتقييمه. والأحداث الكثيرة التي وقعت خلال العقد المنصرم تدفعني لدعوة الأقباط لمناقشة مسالك الكنيسة المصرية؛ ليس فقط في ضوء الجامعة الوطنية ولكن في ضوء القيم الروحية والأخلاقية الدينية المسيحية أيضا.
وقبل هذا وبعده، أقدم خالص عزائي لأسر ضحايا فتنة ماسبيرو؛ ضحايا المواءمات السياسية وغياب القانون.
واقرأ أيضاً:
هل معقول كلنا فلول/ سيمفونية في حب الوطن