تشخيصات محملة عبر الانترنت Download Diagnoses
الجزء الأول
ملاحظات عامة
انتشرت في السنوات العشر الماضية ظاهرة تحميل تشخيصات مرضية نفسية متعددة عبر الانترنت، يلجأ إليها الكثير من الناس لتفسير محنة عاطفية، أو اجتماعية أو سلوكية. هنالك العديد من هذه التشخيصات التي يمكن الاطلاع عليها إن كنت تقضي بعض ساعات أمام شاشة الكمبيوتر، بعضها نادر جداً وبعضها شائع للغاية مثل:
1- اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة عند البالغين ADHD
2- اضطراب الأسبرجر Asperger في البالغين
3- اضطراب الثناقطبي Bipolar Disorder
4- اضطراب سلامة الهيئة والهوية الجسدية Body Integrity & Identity Disorder
كذلك إن كنت من المولعين بـ آي تيونز I Tunes فهناك الكثير من البرامج التي تشخص حالتك النفسية وتنصحك بمراجعة أخصائي في الأمراض النفسية.
الخطوة الثانية التي تتبع تحميل التشخيص هي مراجعة طبيب عام، أخصائي في علم النفس، أو طبيب نفسي، وهنا تبدأ التفاعلات الناتجة عن صراع شخصي للمريض وصراع مهني للأخصائي.
تحوم شكوك العاملين في الصحة النفسية عن جدوى تحميل التشخيص عبر الانترنت لعدة أسباب مدونة أدناه. أما الإنسان الذي وصل إلى إجابة عن أسئلة أرهقته لفترة طويلة فتراه قلما يرضى بغير تأكيد ما اكتشفه هو بنفسه، وترى تفاعله دوماً لا يخلو من العداء إن كان رأي الأخصائي متناقضاً مع رأيه.
هنالك الكثير من الآراء التهكمية لأخصائيِّ النفس حول هذه الظاهرة يمكن تلخيصها بما يلي:
1- أن تشخيص نقص الانتباه وفرط الحركة ADHD في البالغين ما هو إلا وسيلة للحصول على العقاقير المنشطة نفسياً من قبل طلبة الجامعات. لا شك أن هذا التهكم لا يخلو من الصحة إن كان مكان عملك قريب من مركز جامعي حيث ترى كثرة الاستشارات الطبية لتشخيص هذا المرض مع قرب الامتحانات النهائية في شهر أيار. أما الأغرب من ذلك فترى الكثير من الطلبة الموفدين من جامعات أمريكية لدراسة الشهادات العليا أو عمل بحوث، فقد تصيبك الدهشة من كثرة تعاطي العقاقير المنشطة وبجرعات بعضها غير منطقية، يصاحبها وصفات طبية أخرى لتفادي أعراض جانبية والتخلص من الأرق.
2- اضطراب الأسبرجر ما هو إلا ملصق بديل لاضطرابات الشخصية عند البالغين الفاشلين في تكامل التطابق والتكيف الاجتماعي، أو قد يلجأ إليه البعض لتفسير سلوك اجتماعي غير لائق مثل علاقات خارج أطار الزوجية. كذلك ترى البعض من الآباء والأمهات يبحثون عن تشخيص بديل للشيزوفرانيا لأبنائهم من جراء الصدمة النفسية لتشخيص هذه الحالة.
3- أن الانفجار الذي حصل في تشخيص اضطراب الثناقطبي ما هو إلا ألعوبة من ألاعيب شركات الأدوية العالمية لتسويق العقاقير الضد ذهانية من الجيل الثاني. يتطرق الكثير أن مفهوم اضطراب الكآبة ألكبير Major Depressive Disorder قد تم عبوره من خلال الجمعية الأمريكية لأطباء النفس لتسويق العقاقير الحديثة لعلاج الكآبة قبل عقدين من الزمن، وتبعتها بعد ذلك بدراسات غيرت إحصائيات المصابين باضطراب الثناقطبي في السكان من نسبة أقل من 1% إلى ما يقارب ال20% في بعض الدراسات التي لا يمكن أن توصف إلا بالهزيلة. كذلك يرى البعض أن هذا الملصق الجديد مناسب أكثر لتشخيص الشخصية الحيادية غير أن أصابع الاتهام كذلك تم توجيهها إلى شركات العقاقير في هذا المجال حيث أن الجميع يدرك أن ما لا يقل عن ثلث المراجعات الطبية النفسية هي لمصابين باضطراب الشخصية الحيادية. لا شك أن بعض هذه الآراء لا تخلو من الغلو في الوصف والمحتوى غير أنها ليست عارية تماماً من الصحة.
4- أما اضطراب الـ BIID فهو جزأ لا يتجزأ من اضطرابات الشخصية الفصامية ويجب حذفه تماما من معجم المصطلحات النفسية. لا يخلو بالطبع هذا التهكم من الصحة حيث لا معنى لاضطراب علاجه بتر جزأ من الجسد.
لا بد من الإشارة أن الـ ADHD والأسبرجر هي حالات مرضية يتم تشخيصها تقليدياً في مراحل الطفولة وفي بعض الأحيان في مرحلة المراهقة. كذلك فان الـ ADHD في البالغين غير معترف به رسمياً من قبل المؤسسات الرسمية العلمية حتى وقتنا هذا. أن هذا العامل بحد ذاته يشكل معضلة للعاملين في مجال علم النفس والطب النفسي، كذلك ترى بان العاملين في مجال العجز التعليمي يتجنبون الخوض في هذا المجال لكثرة الأمراض النفسية الجانبية في هؤلاء الأفراد أولاً، ولأن معظمهم غير مصابين بأي عجز تعليمي حسب المقاييس الطبية.
أما مرض الأسبرجر فهو مفهوم غربي حديث وصفه هانز أسبرجر في الأربعينات متطرقاً إلى اضطراب شخصية ثابت يتميز بالعزلة الاجتماعية، وبالطبع أي من العاملين في هذا المجال، لا يمكن أن يخطأ في تشخيص الحالة متى ما رأى أحد منهم حاملا أكثر من أطروحة علمية لم يقرئها أحد. غير أن مفهوم الأسبرجر دخل إلى الغرب عن طريق لورنا ونغ Lorna Wing التي درست الكثير من الحالات ومن ضمنها فتيات مما أدى تخفيف المفهوم الأصلي تدريجياً، وبالتالي إلى إثارة الشكوك في تشخيص هذه الحالات.
إن مثل هذه التهكمات، دوما تؤدي إلى استشارة غير ودية إن تمسك بها أخصائي الأمراض النفسية الذي يجد نفسه في كثير من الأحيان أمام خيارين:
1- إنكار وجود الحالة تماماً وإرشاد المريض لاستشارة غيره.
2- القبول برأي المريض و التخلص منه بأسرع وقت ممكن.
بالطبع كلا الخيارين السابقين غير صحي بل تصرف مهني مريض، وإن وجد الأخصائي نفسه غير قادر على التخلص من هذه المشاعر فمن الأفضل أن يطلب من المريض استشارة غيره مدعياً بصراحة وبدون حرج، أن مثل هذه الأمور النفسية من خارج اختصاصه، بدلاً من إضاعة وقته ووقت المريض في آن الوقت.
على ضوء ما تم ذكره أعلاه ترى أن هناك عددا قليلا من الأخصائيين الذي يقوم بمهمة دراسة الحالات نقص الانتباه وفرط الحركة ADHD عند البالغين وحالات الأسبرجر عند البالغين من غير الذين تم تشخصيهم في وقت دون البلوغ.
إن من الضروري أن الأخصائي الذي يأخذ على عاتقه دراسة هذه الحالة وتشخيصها في البالغين أن يكون حذراً في دراسة الأعراض بدقة والتأكد من الأعراض التي يشكو منه المريض تصل إلى العتبة المطلوبة لتصنيفها غير طبيعية. كذلك لا بد من مراجعة تاريخ المرض عن طريق إنسان على اتصال بالمريض نفسه ودراسة تطوره العصبي في الطفولة. بعد ذلك لا بد من الاستعانة بفحوص نفسية تركز على الأعراض نفسها، شخصية المريض والوظائف الإدارية للفص الأمامي من المخ.
دون ذلك سيجد الأخصائي نفسه في موقف لا يحسد عليه إن أخطأ في التشخيص حارماً المريض من علاج قد يغير حياته أو البدء يوصف عقار تنشيط نفسي الواحد بعد الآخر وكتابة توصية بعد أخرى للإدارة التعليمية لإعطاء المصاب وقتاً إضافياً أثناء الاختبارات.
بالطبع الجميع يدرك بأن عقاقير التنشيط النفسي خطرة نسبياً وقد تسبب اضطرابات قلبية ونوبات ذهانية، وأن الجرعات التي يتم استعمالها في البالغين أكبر بالمقارنة مع الجرعات المستعلمة في الأطفال.
بعد أن تم ما ورد أعلاه من آراء قد تبدو متناقضة حيناً، وتثير الريبة والشك في المفاهيم التي تم التطرق إليها غير أن هناك الكثير من الحالات اضطراب الثناقطبي واضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة ADHD إن تم تشخيصها بدقة قد تغير من حياة المريض تماماً لذلك لابد أحياناً من سرد بعض الحالات لتوضيح ذلك:
حالة مرضية: امرأة في بداية العشرين من العمر، مطلقة وأم لطفلين، تعمل في مجال التنظيف لإعالة طفليها. تراجع العيادة الخارجية لعلاج الكآبة المزمنة واستعمال عقارٍ بعد آخر لثلاثة سنوات. فشلت في تحصيلها الدراسي وكانت توصف دوماً بالغباء وعدم الاعتناء بمظهرها. استشارت طبيبها في شكوكها بأنها مصابة بنقص الانتباه وفرط الحركة ADHD ولكن طلبها تم رفضه المرة بعد الأخرى. في نهاية المطاف تم دراسة حالتها وخضعت للعديد من الفحوص النفسية. بعد وصف عقار منشط استطاعت تكميل تعليمها وتخرجت بشهادة جامعية بعد أربعة أعوام.
إن التشخيصات المحملة عبر الإنترنت تحديا في عالم الطب النفسي ولا جدوى في معاملتها عدائياً.
وعسى أن أتطرق بالتفصيل إلى الحالات أعلاه مستقبلاً.
واقرأ أيضًا:
وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا! / اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين / الطب النفسي الكيميائي