السياقات الساخنة التي يعيشها عالمنا العربي في ربيعه الملتهب بحاجة إلى تحليلات وتأملات هادئة، مع ضرورة تلبسها بقدر كاف من العقلانية والشفافية، علها بذلك تسهم في تحقيق مصالحنا العليا، وطنيا وقوميا مع تجنيبنا لأكبر قدر ممكن من التكاليف والخسائر.
وأحسب أن "المدرسة الحضارية" –التي أشرف بانتمائي إليها– قادرة على تقديم تصورات مفيدة في هذا الشأن، عبر نتاجها البحثي والفكري ونزعتها التصالحية التشاركية مع الجميع، باعتبارهم جزءا متأصلا من المشكلة والحل في آن، لا سيما أن المدرسة الحضارية تعلي من شأن الإصلاح، وتعتبر أن التغيير الهادئ هو الأصل، وهو الأكثر جودة والأبقى أثرا، أما ما عداه فهو استثناء، ولا يصح -في نظري- أن نقلب الأمور رأسا على عقب، فنجعل "القوة" هي أساس التغيير والإصلاح، كما يذهب البعض مما يؤيدون النهج الثوري بإطلاق، دون أن يتوفروا على أدلة وبراهين مقنعة، ولا أن يتفحصوا المقومات والاشتراطات، وكأن العمل الثوري بات هدفا بحد ذاته.
الثورات العربية ودروس مستفادة
المد الثوري الذي يشهده العالم العربي في هذه المرحلة منحنا جملة من الدروس المستفادة، ولعلي أسرد بعضها، مع التركيز على تلك التي تفيدنا مباشرة في خضم هذا المقال التحليلي، وذلك كما يلي:
1-"الوعظ الحكومي لا قيمة له حين تتحرك التروس الاجتماعية".
2-"حين يغادر الشعب الفصل إلى باحة المدرسة فلا قيمة لشروحات الأستاذ الحكومي، ولو أطال فيها وأعاد".
3-"باتت الشعوب تدرك بأن الساسة يدركون كل شيء، ولذا فلا داعي للادعاء والزعم بـ(غلطوني)".
4- ليس ذلك فحسب بل إن "الساسة يتناسون حقيقة أن حملة شعبية قد تشكلت في الوعي العربي مفادها (عارفين وشايفين، وغير راضين)، مع بروز ثقافة التوثيق و(جيل التوثيق)، والإيمان بأن الفساد لا ُيجابه إلا بتوثيق دقيق".
5- إذن "ثمة حتمية لبناء دولة (التنموقراطية)، عبر اعتناق عقيدة التنمية الشاملة العادلة، بأبعادها الإنسانية المتكاملة".
تلك الدروس المستفادة -وأمثالها كثير- لا يسوغ إهدارها من قبل الفعاليات كافة، خاصة الحكومات العربية، فهي معنية بالتبصر بها بشكل عقلاني، بعيدا عن "زخرفة المنافقين" و"زركشة الدجالين" من المستشارين والمتنفذين، الذين يقتاتون على "استدامة بنية الفساد" في الأجهزة المختلفة للدولة، وما يصاحبها من مصادرة الحريات العامة وقطع شرايين العدالة الاجتماعية، الأمر الذي يدفعهم إلى التصوير بأن "لا شيء يستدعي التغيير والإصلاح، فكل شيء على ما يرام، والناس بخير وهناء، فقط بعض التطوير".
هل يكمن الحل في الدولة المعدلة ثوريا؟
الفضاء العربي الملتهب دفعني إلى تحليل أوضاع خريطة الدول العربية في مرحلة "الربيع العربي"، وقد توصلت إلى خلاصة مفادها أنه قد تشكّل لدينا الآن ثلاث مجموعات من الدول العربية، ولكي نبقي عقلانية التحليل وهدوءه، فسوف أبتعد عن التحديد والتسمية لدول بعينها في هذه المجموعة أو تلك، عدا ما يتطلبه التحليل. الدول العربية فيما يبدو تقع في واحدة من المجموعات التالية:
(1) دول "الشرعية الثورية"، وهي تلك الدول التي ابتلعتها ثورات شعبية عارمة، وتعيش في هذه المرحلة مخاضا عسيرا لتأسيس "الدولة الجديدة"، المنبثقة من تلك الشرعية الجديدة.
(2) دول "الشرعية المتقادمة"، وهي تلك التي تسعى لأن تقاوم حراك الشعوب والمد الثوري مع بقائها على البنية الأصلية لشكل الدولة، وهي مدججة بترسانة من "الدعائية الإعلامية"، والاكتفاء بإصلاحات هشة ضمن شرعيتها المتقادمة أو حتى المتآكلة، ومن ثم فهي دول مرشحة لأي حراك شعبي أو ثوري، متى ما توافرت مقوماته واشتراطاته المعهودة.
(3) دول "الشرعية المتجددة"، ويمكن تسميتها بـ"الدول المعدلة ثوريا"، وهي تلك التي تنجح كثيرا في إجراء تعديل جوهري في بنيتها الرئيسة واستلهام مطالب شعوبها، فعمدت إلى استيعابها في سياقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي، بطريقة تؤمن لها سبيلا قاصدا لتجنب الحراك الشعبي أو الطوفان الثوري، ونجاحها في ذلك يتوقف على مستويات الإصلاح والتطوير.
في رأيي أن "الدولة المعدلة ثوريا" مخرج إصلاحي ذكي، يعبر بنا تخوم الثورة وتكاليفها المرتفعة وسيناريوهاتها الخطرة المحتملة، كما يتجاوز بنا في الوقت نفسه أوهام "الاستقرار المصطنع" الذي قد يجر هذا البلد أو ذاك إلى حراك ثوري بطريقة أو بأخرى.
و"الدولة المعدلة ثوريا" خيار إصلاحي إستراتيجي، فهو يحقق حزمة كبيرة من تطلعات الشعوب وحقوقها، أي أنه ينظر إلى غائية العمل الثوري وليس دوافعه النفسية وتراكماته السياسية والثقافية. كما أنه خيار تصالحي تشاركي، يبتعد بنا عن الصدام والعنف، ويسعى لتجنب احتمالات التشظي والحروب الأهلية والانقسام التي قد يفرضها السياق الثوري الجديد في بعض الدول العربية.
ولهذا فإنني أدعو إلى تبني ذلك الخيار من كل الدول العربية التي لما يلحقها الحراك الثوري بعد، مع وجوب دفع تكلفة ذلك الخيار كاملة غير منقوصة، و"الدولة المعدلة ثوريا" لا تقبل التعديلات الطفيفة أو الإصلاحات الشكلانية، بل تتطلب تغييرات جوهرية تمس كل الجوانب التي تحركت تجاهها "التروس الاجتماعية"، وعلى رأسها وقف "مكنة الفساد"، والسعي للخروج من نفق الفساد المقنن، الذي يولد ذاته تلقائيا ويحمي نفسه بنفسه.
ما سبق أبان بعض المعالم، غير أننا بحاجة ماسة لبلورة مفهوم محدد لما نقصده بـ"الدولة المعدلة ثوريا"، وذلك لوضع النقاط الاصلاحية على حروف التغيير والإصلاح، فالدولة المعدلة ثوريا هي تلك "الدولة التي استوعبت بعمق تطلعات شعبها نحو العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والحريات العامة، وأدركت بدقة حجم الفجوة الكبيرة بين الواقع والمفترض، ومن ثم تسعى بصدق إلى إحداث تغييرات حقيقية في بنية الدولة وكيانها السياسي والتنموي والثقافي".
أرجو ألا تغيب عن أذهاننا مفردات: عمق، دقة، صدق، وحقيقية، فهي شديدة الأهمية.
محاربة الإقطاعيين وصفة للتعديل الثوري!
لا يمكن تصور نجاح أي دولة في تهيئة نفسها لأن تكون "معدلة ثوريا" كما ينبغي دون أن تجابه "المد الإقطاعي" بكل صوره وأساليبه وأدواته، فسجلات التاريخ تؤكد أنه يصعب رصد أي "حراك شعبي ثوري" دون أن يسبقه "حراك إقطاعي شجع" لفترات زمنية ممتدة، وقد يكون إقطاعا شموليا أو جزئيا، والتاريخ القديم والحديث يمنحنا شواهد عديدة.
فعلى سبيل المثال لو أجلنا النظر في الثورة الفرنسية لوجدنا أن من أكبر دواعيها ما تجذر في الفضاء الاجتماعي الفرنسي من "الإقطاعية"، فإبان تلك الثورة ُقدر عدد من يسمون بـ"النبلاء" بنحو 350 ألف نسمة، وكانوا يمتلكون خمس أراضي فرنسا آنذاك في نظام إقطاعي لا إنساني، كما قدر عدد رجال الدين بنحو 120 ألفا، وقد تمتعوا بمخصصات وضرائب كي "يباركوا" إقطاعيات "النبلاء" مع امتلاكهم لنحو 10% من الأراضي، أما عدد الراهبات فبلغ نحو 40 ألفا مع ما يخصهن من أراض وامتيازات.
إذن ثمة من كان يتحكم بالبلد وثرواته ومقدراته، وقد ابتلي الفضاء السياسي والاجتماعي الفرنسي آنذاك بفئات "تخدر" البلد وتنافق الحاكم وتقلل من حجم الانتهاك لـ"العدالة الاجتماعية". كل ما سبق قاد المجتمع إلى سحق الطبقات المتوسطة. وهنا يمكن لنا أن نستدعي أن الأب "سبيز" الذي هجر دندنة رجال الدين واتبع فلسفة التنوير كتب رسالة بعنوان "ما هي الطبقة الثالثة؟"، وقد أصدرها قبيل الثورة الفرنسية (يناير 1789) وبيع منها نحو 30 ألف نسخة في 3 أسابيع فقط، وقد جاء فيها:
- ما هي الطبقة الثالثة في سياق المجتمع الفرنسي؟ الجواب: كل شيء!
- ما وضعها فعليا في النظام السياسي؟ الجواب: لا شيء!
- ماذا تريد الطبقة الثالثة؟ الجواب: أن تصبح شيئاً!
ونعلم جميعا أن تلك الثورة قد توصلت إلى ترسيخ أن الناس يولدون ويظلون أحرارا، وهم متساوون في الحقوق، وأن التنظيمات السياسية هي للحفاظ على الحقوق الأصلية: الحرية والملكية والأمن ومقاومة الطغيان (للمزيد، انظر: لويس عوض: الثورة الفرنسية).
الإقطاعية تختلف في أشكالها وتمظهراتها بين وقت وآخر ومكان وآخر. هذا صحيح ومشاهد، ولكن جوهرها واحد، وهي سبب رئيس في تفجر الأوضاع في الدول العربية مؤخرا، ففي مصر وتونس وليبيا -بحكم أنها دول اجتاحتها الثورات- نجد ألوانا متعددة من الإقطاعية مع طبقية حادة، فمن كان يتحكم في البلد عدد قليل من الأفراد والعوائل، وقد قادوا البلد إلى مرحلة انعدام للعدالة الاجتماعية، بطريقة رفعت منسوب الشعور بالظلم والاستعباد، مما دفع البعض إلى شكل أو آخر من "العطالة الاجتماعية" الممزوج باليأس والكآبة.
وفي الختام لو عدنا إلى تغليبنا لخيار "الدولة المعدلة ثوريا"، فإنه يتوجب القول بأن على كل دولة عربية -لم تشهد حراكا ثوريا بعد- أن تستعيد رشدها وأن تجهز العدة للاندماج الحقيقي في مطالب شعوبها وتحقيقها بشكل ملموس، ولتعد كل دولة تقارير خاصة لها بحجم الفساد وحجم الإقطاعية والطبقية، لكي تقتنع بأن ثمة فجوة كبيرة، لا تطيق الإصلاحات الشكلانية ولا الدعائية الفجة ردمها.
مع التذكير بدرس آخر مستفاد من أدبيات الثورات يقول لنا "إن كان ثمة أعراض لحمل الثورة فلنتوقع ولادتها، ولو بعملية قيصرية"، ومن ثم فقد لا يكون هنالك خيار آخر غير "الدولة المعدلة ثوريا"، ولنعلم أن الكل فيها رابح، مع قدر من التنازل والعقلانية من كل الأطراف.
المصدر: الجزيرة
واقرأ أيضاً:
حول مكاشفات فضل الله/ الممارسات الرديئة وفصل الدين عن العلم!/ هل حقاً يمكننا فصل الدين عن العلم؟/ البنوك الإسلامية... هل باتت طفلاً مدللاً؟