إن قمة الحرية هو التحرر من الحرية ذاتها، ليس هذا لغزاً بل هو حقيقة عرفها الحكماء على مر العصور وتلخصها مقولة جبران خليل جبران في روايته النبي حين يقول "لن تكونوا أحراراً إلا حين تصبح رغبتكم إلى الحرية غير مهيمنة عليكم, وتكفوا عن التحدث عن الحرية هدفاً ومغنما تنشدونه".
إن سلم الحرية يبدأ بالصعود من أسفل إلى أعلى ويمر الصاعد عليه بمراحل مختلفة متتالية بدءاً بالتحرر من القيود العائلية مروراً بالتحرر من القيود الاجتماعية والفيسيولوجية ثم أخيراً القيود الفكرية والدينية المفروضة أو المتعلمة بالوراثة الفكرية وهذه أعلى نقطة عمودية في هذا السلم ولكنها ليست نهاية السلم، إن البقاء في هذه النقطة يعني حقيقة الانحلال والانحطاط واهدار العقل البشري بداية ثم الفوضى محطة في الطريق ثم الموت الروحي والجمود نتيجة مبدئية ثم الضياع الكامل أو الانتحار والموت الجسدي نهاية وهذا ما عاناه دعاة الحرية المتطرفون على مر العصور كما وصف بول جونسون أحوال بعضهم في كتابه الشهير المثقفون.
إن السلم بعد أن يصل إلى أعلى نقطة في الارتفاع يبدأ في الإنحدار نزولاً مرة أخرة من الجهة المقابلة لينتهي عند نقطة أقل ارتفاعاً من القمة ولكنها حقيقة تمثل منتهى الحرية، إنها التحرر من مفهوم الحرية ذاته وبدء الإنسان في وضع وبناء منظومة القيم التي تمثل منطقة التوازن بين ذاته وبين العالم من حوله، هذه المنظومة التي يقبل أن يلزم بها نفسه لا أن يلزمه بها أحد.
إن نقطة القمة محدبة ومدببة الطرف لذا تعجز نقطة التوازن أن تتموضع وتستقر عندها لذا فإن توقف المسيرة عند هذه النقطة يؤدي إلى سقوط مفهوم التوازن إلى أسفل سافلين بلا قيد أو توجيه. الإنسان الطبيعي الذي ينشأ في بيئة أخلاقية متوازنة يدرك ما أقوله بالفطرة وإن عجز كثير من الناس عن رسم مثل هذا الوصف، ولأن الغالبية من الناس تخشى المجهول الذي لا تراه خلف نقطة القمة تلك, فإنك تراهم عادة يموضعون منطقة توازنهم في منطقة ما قبل الوصول إلى هذه النقطة العالية ويختارون عن قصد أن يقفوا عند هذه النقطة دون إكمال المسيرة، والطريف أنهم قد يقفون عند نقطة مقابلة في إرتفاعها لنقطة نهاية السلم من الجهة الأخرى, فتكون النتائج متشابهة نوعاً ما خصوصاً في أفعالهم قصيرة المدى غير أنهم لا يعرفون عن سبب تواجدهم في هذه النقطة سوى أنهم اختاروا عدم المخاطرة واكتفوا باتباع هذا أو هذاك.
لا تتسرع وتحكم على هؤلاء وتنتقدهم, فجزء من حريتهم وحقهم في الاختيار أن يختاروا بين أن يلمسوا الحقيقة بأنفسهم أو يثقوا في آخرين يرشدونهم إلى مكان التوقف الصحيح وهذا وجه آخر من أوجه الحرية، فليس بالضرورة أن يعبر الجميع إلى الجانب الآخر حتى يكونوا من الصالحين أو الأخيار أو حتى الأحرار، إن المهم في الحرية أن يختار الإنسان بنفسه خياراته دون جبر مادي أو معنوي، فكل فرد له حرية مطلقة في الاختيار بين الاتباع والاستقصاء، بين أن يختار من يتبعهم ويسير على نهجهم ثقة بهم أو يستقصي الحقيقة بنفسه، وواهم من يظن هنا أن الاختلاف في مقدار الحرية، إن الاختلاف هنا يكمن في مقدار العلم الذي يكتسبه كلاهما، وليس كل الناس علماء ولا يفترض أحد أن المطلوب من الجميع أن يكونوا علماء.
إن هذا يقودوني للتطرق للحديث عن موضوع ذي صلة، إن من يتهم أتباع فكر أو مذهب أودين ويدينهم بعدم التحرر مخطيء، ففي غياب الجبر المادي أو المعنوي الشديد فإن كل متبع لمنهج أو دين قد اختاره عن قناعة وبقرار حر واختار أن يقيد نفسه به وإن كان قراره قاصراً حسب كم العلم والمعرفة الذي حصله، وكل مسؤول عن اختياره وسيدفع ثمنه إن عاجلاً أو آجلاً يوم يقوم الناس لرب العالمين، إن هذه الحرية تشمل حق الناس في الإختيار في كل شيء حتى في السياسة والمبدأ القائل بمنع الدين عن السياسة مبدأ فاسد بمنطق الفكر الحر نفسه ومنطق الحرية.
إننا لا ننكر أن عهوداً مرت كان الاستبداد فيها باسم الدين حقيقة ولكن عقوداً أخرى مرت وكان الاستبداد باسم إبعاده أيضاً واقعاً، بل إن الاستبداد باسم الحرية كان هو الآخر طرفاً من أطراف المشهد، فالقضية ليست في الدين أو في المفاهيم بقدر ما هي في استعداد الناس أنفسهم للحفاظ على حريتهم والدفاع عن حقهم في الاختيار، إن الاتجاه التحرري الذي نشأ كردة فعل على الإضطهاد باسم الدين تطرف في فكره هو الآخر, وأوجد فكراً مشوهاً جعل الأداة المسماة الحرية هدفاً فأصبح الأمر أشبه بدعوة إلى فوضى يظنونها خلاقة وويحكي واقع دول الغرب عكسه لانعدام البديل الفكري والروحي الواضح الذي يقدمه هذا التيار.
فرغم التفوق المادي فإن الخواء الروحي لديهم جعلهم فريسة سهلة لكل أنواع الانحرافات الفكرية والأخلاقية دون قيد، لذا فإن المقاومة التي نراها في الشارع العربي اليوم لهذا التيار تبدو منطقية فالناس تستشعر ضمنياً خطورة هذا الفراغ الروحي الذي لم يجدوا ما يملؤه في الأطروحات التحررية الموجودة على الساحة، وإن لم يمنع ذلك كثيرين منهم حتى بسطاؤهم في أن ينتقوا منه من حين لآخر بعض المخارج لاتباع شهوات أنفسهم والتحلل من قيم سبق أن اختاروها بأنفسهم ويبرروه باسم اتجاه العالم نحو الحرية ومع ذلك فلا أنكر أيضاً أنهم أحرار حتى في قرارهم هذا والله وحده يحاسبهم.
وعودة إلى صلب الموضوع فإن غالبية الناس بطبيعة الحال تختار الاتباع على الاستقصاء وإن كان هذا حق مكفول لهم فوجب أن نبين مقومات هذا الاختيار التي تجعله الأنسب لأصحابه وما يحمله في طياته من واجبات أيضاً.. إن هذا الاختيار يناسب عامة الناس مِن مَن لم ينعم الله عليهم بطول البال للبحث عن الحقيقة وطلب العلم وفتح عليهم رزقهم في هذه الدنيا وما يخدمون به المجتمع من أبواب أخرى كصناعة وتجارة وطب إلى آخره من ما لا يندرج تحت مفهوم الريادة الفكرية والقيادة الاجتماعية الواسعة النطاق، وواجب هؤلاء هو التحري عن من يتبعونه وبذل الجهد في اختيار الأصدق حديثاً والأصلح فكراً (لا أقصد أحداً أو تياراً بعينه في هذه العبارة الأخيرة) وأن لا يستسهلوا الاختيار كسلاً أو تشاغلاً أو ميلاً إلى شهوة أو فساد ومصلحة دون مراعاة للضمير، كل ذلك دون تشدد أو تعصب, إذ يفترض بهم دائماً البحث عن القدوة الأصلح وكلما وجدوا من هو أصلح مالوا إليه دون تعصب لشخص أو لمنهج لمجرد التعصب، وإلا ضلوا وكانوا كما قال الله فيهم {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}(الزخرف : 22 ).
أما النخبة الذين أنعم الله عليهم بنعمة علو المدارك الفكرية أو من قرروا أن تكون أدوارهم الإجتماعية تصدراً للمشهد قيادة وتوجيهاً له من مفكرين وكتاب وخطباء ودعاة وسياسيين فهم ملزمون بالبحث عن الحقيقة الكاملة أولاً, ولا يكفيهم الخيار الأول... فأخطر من في المجتمع هم أنصاف العلماء الذين يقودون الناس عن غير هدى ولا بينة إلاما لقنوه وحفظوه، ويجرم هؤلاء حين يندفعون للتصدي لهذه الأدوار قبل أن تطمئن قلوبهم إلى أنهم ملكوا مفاتيح الحقيقة وأقول مفاتيح ولا أقول كل الحقيقة، لأن من يملك مفتاح الحقيقة يعرف أن لا أحد يعرف الحقيقة كلها وأن جل جهده حين يقود الناس سينصرف إلى ترسيخ فضيلة الخير في قلوب الناس لتقودهم ضمائرهم في كل مجال نحو الأفضل وتتنافس اجتهاداتهم تنافساً شريفاً من أجل رفعة المجتمع وسموه وصلاح حاله في كل مجال.
اقرأ أيضاً:
نقطة التوازن