لا أعلم أنحتاج دوما للسفر ولليالي السفر كي نتذكر طبيعتنا الساهرة وشجنها وترابطها وتلاحمها أحيانا وتنافرها أحيانا أخرى....
بعدما انتهيت من قراءة صفحاتها ونظرت فيها وفي تقلبات الزمن بأيامه التي لا تدوم صفوتها كثيراً وجدت أن ما بين الغلافين يضم كثيرا من المعاني التي اندثرت تحت أتربة الزمن الرمادية وتحتاج لمن يزيح هذا التراب الثقيل ليعيد بريق أصالة النفس والوجدان والتلاحم... بين زمن البشوات والبكوات وبين الجمهورية والملكية والأفندية ومرور زمن الاشتراكية والوصول إلى الرأسمالية والاحتكارية ومن زمن الوفد إلى زمن الوفود ومن أزمنة الصمود للخضوع لتفضيل النفوس...
رسم لوحة من الحياة المصرية التي لا تميز بين أقباطها سواء أكانوا مسلمين أو نصارى ممن يصلون لله في المسجد أو في الكنيسة كلهم عباد لله والدين لله والوطن للجميع لا يفرق بينهم, تمنيت أن يقرأ الجميع ما كتب في صفحات تتحدث عن الحياة المصرية بعيدا ًعن اللعنات, بعيدا عن الفتن التي تشتعل سريعا بين القلوب ويشعلها من يعتقدون في نفوسهم سيطرتهم على القلوب والأرواح وأحيانا المقادير التي تنال من العبيد والحمد لله أننا عبيد لله وليس لأحد سواه, حياة طبيعية تتناول في طياتها اقتباس من كتاب الصلوات وأدعية لرب وذكر للقديسة والعذارى الأربعين وتلاوات وصلوات وكلها لله وأيضا نجد المسجد والأدعية والصوم ورمضان لله أيضا.... قلوب واحدة لا يفصل بينها غير الجدران, العلاقة التي لا تشوبها شوائب الفتنه المبعثرة الآن والغمامة التي لا تريد أن ترحل عن سمائنا والشعلة التي يزيد اشتعال نيرانها شيوخ وقساوسة منا ومن نسيج هذا البلد الذي لم يعرف قط في صفوفه من هو المسلم ومن هو المسيحي كلنا أقباط من أصل واحد ومن نبت واحد.
ليلة سفر قد تتقوقع الأحداث سريعا داخل قوقعة الزمن الملتفة حول نهاية وبداية واحدة, بداية الميلاد ونهاية الموت, والتي قد يتصادف الاثنان معا, وقد تكون للحياة طعم حلو المذاق لكن صعب البلع, وكان طعمه واضحا في الخوف من هزات الزلزال وتوابعه والخوف من غارات السويس وأنقاضها, لكن كي تبلعه وتعيش من أجله, فمروره صعب من الحلق يا عزيزي.... يتطلب منك الجهاد كثيرا وتفضيل النفس أحيانا والتخلي عنها أحيانا أخرى.
كان الربط واضحا بين أحداث الماضي والحاضر ولا أعلم هل تعمد كاتبنا ذكر المآسي بكثرة, أم أن جو الرواية يتطلب هذا, أم أن فرح المصريين قليلا وشجنهم الذي يغلبهم تثاقل علينا بترنيمة طويلة من نغمات من الشجن الطويل, شجن من الاحتلال واحتلال الأرض والنفس والهيبة الضائعة, والزمن الغادر المتقلب, وشجن من الحرب والغارات والقتلى والعائدين للأرض.... والفارين منها, شجن من المسئولية المثقلة سواء أكانت لطفل ولرعايته أو لمريض ومرضه, شجن من الفقر، ومن الفقر بعد الغناء... ومن الغناء المفقر... ومن الفقر المغني...
كانت التضحية جوهرة تزين الكثير من الأحداث سواء تضحية بالمال, أو الوقت, أو بالعمر, وأيضا ساد الطمع كثيرا (مشتري البيت من الخواجة عدلي, وليم, أبناء صاوي ......) وكان كالغبار يثار على الجوهرة لكن سهلة إزالته.
الحياة العائلية وروابطها المقطعة أو الشبيهة بالمنقطعة, والجميع يسعى لمصالحه ولا يراعي الآخر, سواء أكان أخ لأخته, أو حفيد لجده, أو ابن لأبيه, وهل هي الدنيا أم دنى الدنيا......
استبدال التراث بما هو أقل, والثمين بالرخيص والجمال بغيره, وتختلف المقاييس, ويختلف القياس أيضا اختلفت مقاييس الأخوة والجيرة والتعامل مع العامل أو الأجير ومع الأكبر سنا ومكانه أو مع من جار عليه الزمن, وكانت للأسف تتجه إلى الأسفل كثيرا ولا ترتفع بمرور الزمن وكأنها وجدت في الانحدار مكانا يسموا لأحلامها المنتهية في الصعود.
تبين في تحول محل الفضة ومشغولات الجواهر إلى محل فاكهة وكسر زجاجه لا يهم, المهم ما هو جديد وما يأتي بالمال, تحول شارع الهادئ النظيف إلى سوق للباعة ولمخلفاتهم, تحول السيادة لصغار الذين يمتلكون المال لا الخلق, استغلال الأمور مهما كانت صعوبتها, استغلال الزلزال وشقوق وشروخ الجدران في الاستيلاء على البيت بل على أرض البيت وتملك من كان لا يملك.... والملك لله.
الوحدة الشبح الحاضر المخيف والودود, أخاف منه أحيانا وأتمناه أحيانا وأفضله كثيرا، خاف منها الجد فربى ولده وهجره وتركه وحيدا ورجع ثانية لتربية الحفيد ثم للخوف من ترك الحبيب له سريعا, وهكذا كوكب فضلت الوحدة والتمسك بأخلاق القديسة عن مشاركتها لأحد سواء كان من قريب في الشقة أو غريب في المخيم.
التمسك بتعاليم المعلم مهما غيرت الدنيا مجاريها, فقد تمسك الجد بتعاليم صهره طيلة حياته, دون انحراف منه عن المسار المرسوم والمدروس من صهره الوفدي القديم, تمسك كوكب بالخوف من صنارة وارتباطها بتعاليم ماما أنجيل، احترام الصاوي بائع الفاكهة لكوكب..... لكن حدوث التضاد مع الجيل الجديد, جيل أحب التغيير والنفور من قيم الماضي وتعاليمه والتمسك بتقاليده التي قد تكون خانقة ومكبله لحرياته, لحركاته وسكناته, من الخروج من التعلق بالعمل الحكومي للحر ومن الحر الأنيق للحر المربح, ومن العمل داخل البلاد لخارجها ومن الحب الصادق لحب المصالح والجري وراء المال مهما أن كان الثمن المدفوع له ومهما كان غموضه.
تناول كاتبنا تداخل الأجيال المختلفة والمتلاحقة والصراع بينهم, صراع قد يكون في حرب, لكن حرب صماء تتناثر الأقوال والأفعال التي تندفع إما لصالح هذا أو تلك، لكنها الأجيال التي لا تنصهر ولا تتقابل إلا عند طريق مغلق أمام أفكارها.
جنة الخليج, وجنة السفر, التي يحيط بها بوابات العبور والمطارات وتحلق عليها أجنحة الطائرات, وتتنافس عليها المطامع وتتناوب عليها النفوس, هي الفانوس السحري ومارده وهي خاتم سليمان وخادمه, هي البلورة التي بين يد العراف التي تلبي الطلبات وتحقق الأحلام.... أو الأوهام... ولكنها تسلب الحياة.
الحب المحرم المحاط بالشوك والعقبات, عقبات الكبر والتعالي على القلب, عقبة الزمن ونظراته, عقبات الحياة الاجتماعية وحدودها الشائكة, عقبة الدين.... لا أعلم لكن لا أظن فالزواج من الكتابيات جائز في شريعتنا أم لفعل الزمن زاد قسوة وصلابة.
كان حب كوكب من الزميل قائما لكنه صمت, وحب غالية بقي رغم السنوات, هل هو تذكار الأحباب أم تجديد جراحهم النافذة، وحب عن حب, ود وبقاء وذكره قائمة سواء في القلب أو في عمل باليد أو في تربية طفل، وبين ما أستجد على زمن الهرج والمرج.
تعددت الشخصيات كثيرا, بين الظالم والمظلوم وبين كاتم الهموم, وبين سارد الظنون, بين الباقي على الحال والنافر منه, بين حاملي الأخلاق في القلوب والنفوس, وبين فاقديها في كل الظروف.
شخصية صنارة الشخصية التائه, الكبيرة سننا والصغيرة تفكيرا, الباقية على ظلم الزمن والأبية النفس, شديدة الحكمة أحيانا أخرى الشخصية الموجودة في ذاكرتنا جميعا, وغير الموجودة أيضا, الموجودة أمام الأعين والغائبة عنها, المظلوم من الناس ومن أفعالهم ومن أقوالهم ونظراتهم, الحساسة لهم والطالبة لعطفهم, المنسي في كل حي, والموجود في كل حي, الذي تتوجه حكمة المجنون, الفاقد لذاكرة أو الفائز بخسرانها.
ليست كل الليالي سفرا..., ولكن ستظل ليالينا تشبه ليلة سفر.....
كتابة نقدية لرواية ليلة سفر (أ. محمد ناجى)
أرجوا أن تتقبلوها منى ولكم جزيل الشكر
واقرأ أيضاً:
مسافر على الرصيف - كتابة نقدية