نشرت جريدة الشروق في صفحتها الأولى (عدد 978في 6/10/2011 م) خبرا يفيد فوز العالم الإسرائيلي دانيال شيختمان بجائزة نوبل للكيمياء لعام 2011م لاكتشافه أشباه البلورات، وفي اليوم التالي مباشرة (7/10/2011) نشرت جريدة التحرير (صفحة 14) خبرا بعنوان: الدجال طلّع روح ربة المنزل لطرد العفاريت، وفي ثنايا الخبر أكد زوج الضحية وعمها أن المجني عليها مصابة بمس شيطاني وأنها أخذت تهذي بكلمات غير مفهومة في كثير من الأحيان وترددت على عدد من الدجالين لعلاجها لكن محاولات علاجها لم تفلح، فاستعان الزوج بأحد المعالجين (نشرت له صورة مع الخبر بلحية كبيرة جدا) ويوم الحادثة حضر إلى المنزل وقام بقراءة بعض آيات القرآن على المجني عليها، ثم انهال عليها ضربا بقبضة يده بعد سماعه صوتا جهوريا يتحدث بلسانها، وأخبرهم أنها لن تشعر بهذا الضرب لحضور الجان عليها، لكنها لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه من شدة الضرب. وقد أكد الجاني أنه لم يكن يقصد قتلها وأنه سبق وعالج عدة حالات بنفس الطريقة ولم تتعرض أي منها لأذى.
فتاة في الصعيد ذهبت مع أسرتها لزيارة أقاربهم في إحدى القرى وصعدت وحدها إلى سطح المنزل ليلا فأصابتها رعدة خوف ونزلت تصرخ بشكل هستيري فاستدعوا "شيخا" وعلى الفور قرر أن جنيا قد تلبسها وراح يمسح بيديه على جسدها من أعلى لأسفل بينما يتمتم ببعض الآيات والأدعية حتى هدأت الفتاة ونامت فانصرف الشيخ "المبروك" ورفض تقاضي أي أتعاب فهو كما يقول: "يفعل ذلك لوجه الله". ولكن الحالة ظلت تعاود الفتاة بشكل متكرر، وكانوا يستدعون الشيخ في كل مرة فيقول بأن الجني يعاود ركوبها مرة بعد مرة، فطلبوا منه البقاء قريبا من الفتاة حتى يمنع الجني من معاودة الهجوم عليها، وفعلا أقام "الشيخ" (اللي مش شيخ) بجوار الفتاة في غرفة واحدة لمدة تقترب من الشهر، وكانت الأسرة تنام في الصالة بينما تترك الفتاة بجوار "الشيخ" الذي قام بالواجب وحدثت الألفة والمودة بينه وبين الفتاة فواقعها عدة مرات في تلك الليالي، واكتشف الأهل ذلك واختفت الفتاة، ولا أحد يدري ماذا جرى للشيخ.
منذ عدة سنوات نشرت الصحف عن شاب في الإسماعيلية ظهرت عليه علامات اضطراب في كلامه وتصرفاته فقال لهم أحد الأشخاص العليمين ببواطن الأمور: إن جنيا كافرا قد تلبسه لأنه دخل الحمام ليلا ولم يقرأ دعاء دخول الحمام، فأحضروا له "شيخا" صغير السن مفتول العضلات (هو في الأصل عامل في إحدى الشركات) فظل يضربه ليستنطق الجني الكافر ويخرجه من إصبع قدمه الأيسر -كما تعود في حالات كثيرة سابقة- ولكن روح الشاب المريض سبقت إلى الخروج فصار جثة هامدة بين يدي "الشيخ" (القاتل).
مراهقة في الخامسة عشر من عمرها كانت تصيبها نوبات إغماء وبكاء وتقوم بتقطيع شعرها، أخذتها الأم من شيخ لشيخ والجميع يقرون بأن جنيا يهوديا قد عشقها (فقد كانت رائعة الجمال)، فكان أحدهم (أي المشايخ اللي مش مشايخ) يطلب من الفتاة أن تنظر في عينيه لفترات طويلة حتى يخرج الجني العاشق اليهودي من عينيها، فتحولت عيناها إلى ساحة صراع مقدس بين "الشيخ" وبين الجني اليهودي، وشيخ آخر كان يقوم بقراءة آيات الجن بينما يتلمس أماكن حساسة في جسد الفتاة حيث يدّعي أن الجني اليهودي العاشق يختبئ في تلك الأماكن، ثم أمر بأن توضع سماعات في أذن الفتاة يبث منها القرآن ليل نهار بصوت مرتفع فظلت الفتاة تصرخ تحت تأثير الأصوات المرتفعة ولا تنام عدة أيام حتى أصابها الإعياء وأصبحت بعد ذلك لا تطيق سماع القرآن، فأكد لهم الشيخ أن الجني بداخلها هو الذي يرفض سماع القرآن فراح يضربها بعنف حتى كادت تفارق الحياة. واستمرت الأم تأخذ ابنتها من شيخ إلى شيخ وعاشت الفتاة في عالم ملئ بأفكار وتخيلات العفاريت والسحر وأصبح عقلها وجسدها ساحة لمعارك دينية.
معذرة للإطالة في عرض الحالات الواقعية لأن الأمر في تزايد مستمر ويكفي أن نعلم أن المصريين ينفقون ما يزيد على عشرة مليارات من الجنيهات على الدجالين والمشعوذين (لو أنفقنا هذا المبلغ على الصحة لتغير الحال تماما في مصر)، ولكن الأخطر هو أن يقترن الدجل والشعوذة ببعض الممارسات الدينية ويحتمي الجميع بعباءة دينية كاذبة تتيح استمرار ذلك العدوان الهمجي على المرضى النفسيين دون توقف ودون رادع، ولم يعد الأمر يحتمل إضاعة الوقت في التنبيه والتحذير والتوعية، فقد غرق المجتمع في بحر من أوهام تلبس الجن والشياطين، وراح من يدّعون بأنهم "مشايخ" (والمشيخة منهم براء) يبثون الرعب في قلوب الناس بالمزيد من الحديث عن جحافل الجن الكافر التي تهاجم أبناء وبنات المسلمين بلا رحمة فيقع الناس (بما فيهم متعلمين ومثقفين وسياسيين) في دائرة الخوف الجهنمي فلا يجدون مخرجا إلا اللجوء لهؤلاء المشايخ المزيفين ليخلصونهم من هجمات الجن المتكررة، وهكذا يضمن "الشيخ" لنفسه مصدرا للدخل، أو مجالا للسمعة والشهرة، أو يكتفي بكونه المنقذ للمسلمين من أعداء الله من الجن.
وقد صدر قانون الصحة النفسية منذ عامين بهدف حماية حقوق المريض النفسي في المستشفيات ودور الرعاية النفسية، ولكن القانون لم يتطرق إلى حماية المريض النفسي بين أهله حيث يحضرون له من يضربه حتى الموت أو يحضرون لها من يعبث بعقلها ووعيها وجسدها وعفتها حتى النهاية ثم ربما يقتلونها درءا للفضيحة. وتدخلات هؤلاء الدجالين تؤخر اكتشاف وعلاج كثير من الأمراض النفسية وتجعل مآلها سيئا حيث تصل الحالات إلى الطبيب وقد تحولت إلى حالات مزمنة أو متدهورة. ولا يجب أن تؤخذ هذه الممارسات المجتمعية على أنها جهل وبغير قصد بل هي عمليات إساءة واستباحة إجرامية للمريض النفسي تعاقب عليها كل قوانين الدنيا ليس فقط هؤلاء المعالجين المدّعين بل أيضا تعاقب أسرة المريض أو المريضة التي سمحت بتعريضهما لهذا المصير. ولا مانع بعد ذلك من استمرار التوعية بالأمراض النفسية والعصبية التي يجهلها الناس (وخاصة حالات الصرع والهستيريا والفصام) والتي يعزونها دائما لعوامل متصلة بالجن (كما كان الناس يفعلون في القرون الوسطى).
وبما أن حاضرنا بائس وملتبس ومستقبلنا غامض فلنعد إلى لقطة مضيئة في تاريخنا حين بدأ الشيخ الرئيس ابن سينا في بحث ودراسة ما كان يسمى وقتها بالجنون السوداوي (الميلانخوليا، وهو أحد أنواع الاكتئاب النفسي) فقال: قد زعم البعض أن هذا المرض يقع عن الجن، ونحن من حيث نتعلم الطب، لا يعنينا إن كان ذلك عن جن أو غير جن، بل نبحث في سببه القريب.
وجاء من بعده ابن النفيس صاحب كتاب "الشامل في صناعة الطب" وهو أكبر إنجاز علمي منفرد في تاريخ الإنسانية حيث وصل إلى مائتي جزء، وفي هذا الكتاب رفض ابن النفيس أن يعزو الأمراض إلى تأثير الجن، كما رفض أن ينسب إلى لحم الخنزير أضرارا طبية لأنه لم يكن قد توفر لديه أدلة على ذلك على الرغم من اعتقاده الديني بوجود الجن وبتحريم لحم الخنزير.
ومن قبلهما كان الناس يعتبرون الصرع مرضا مقدسا (لارتباطه في وعيهم بالجن والأرواح العلوية أو السفلية) فجاء أبقراط واستهل بحثه في المرض بقوله: "سأبحث الآن في المرض المسمى بالمقدس، ولست أرى فيه أي قداسة تميزه عن غيره من الأمراض".
هؤلاء العلماء الأفذاذ كانوا يتبعون ما نسميه الآن بالطب القائم على الدليل، فلا يدّعون شيئا في الطب لا يقوم عليه دليل، ولا يستخدمون دواء قبل خضوعه للتجريب المستفيض. والجن والسحر والحسد من الأشياء المعلومة من الدين بالضرورة فقد وردت في الكتاب والسنة، وهي قوى غيبية خلقها الله لحكمة يعلمها، فليس الخطأ إذن في الاعتقاد بوجودها ولكن الخطأ في أن نعزو إليها كل أمراضنا ومشاكلنا، وأن نهدر عقولنا في ممارسات خرافية سحرية تستخدم الدجل والشعوذة تحت ستار ديني، وأن نوقف البحث العلمي الجاد في ظواهر الكون.
وقد ظل الناس آلاف السنين يعتقدون أن شلل الأطفال ينتج عن مس الجن للطفل أثناء ولادته، وكان ملايين البشر يعانون الإعاقة بسبب هذا المرض حتى رفض العالمان سالك وسابين (وهما يهوديان) هذا التفسير الشيطاني للمرض وقاما بالبحث المضني الذي انتهى باكتشاف لقاح شلل الأطفال فاختفى هذا المرض من العالم تقريبا. والعجيب أن بعض علماء الدين في أفغانستان وباكستان قد أفتوا في السنوات الأخيرة بعدم جواز تناول لقاح شلل الأطفال بحجة أن من اكتشفوه هم يهود ويريدون أن يقطعوا به نسل المسلمين حيث يعتقد هؤلاء المفتين أن اللقاح يسبب العقم، وقد استجاب لهم عدد كبير من الناس فزادت نسبة الإصابة بشلل الأطفال في تلك المناطق.
وأخيرا فإن مدّعي المشيخة الممارسين للدجل والشعوذة والمتسترين بالدين يجب كشفهم ومحاسبتهم بكل شدة وحزم بقوانين رادعة، فهم يشوهون عقول الناس ووعيهم ويلوثون البناء المعرفي بما يبثونه في النفوس من خرافات ومخاوف وأساطير تجعل الناس يدورون في فلكهم ويفرون إليهم باحثين عن الأمان والخلاص الكاذب، والأمم لا ترتقي بالخرافات والأكاذيب والمخاوف بل ترتقي بالعلم الحقيقي القائم على الدليل.
واقرأ أيضا:
نجح العقل القطري وفشلت الفهلوة المصرية / ضبط إيقاع العلاقات الإنسانية / فتنة الجامعة... لا إقالة ولا استقالة / شخصية الغزالي