إن تكرار ظاهرة التحرش الجماعي في أيام الأعياد وفي مناسبات أخرى في السنوات القليلة الماضية مؤشر خطير يحتاج منا وقفة جادة وتأمل، إذ يخطيء من يظن أن الدافع الرئيسي وراء هذه الظواهر المتكررة هو الحرمان الجنسي الذي يعانيه الشباب نتيجة الفقر والبطالة وصعوبة الزواج، قد يكون هذا صحيحاً فيما يتعلق بحالات الاغتصاب الفردية التي تكتمل فيها أركان عملية الاغتصاب الجنائية وتظل محصورة في نطاق عدد قليل من الأفراد ضمن ظروف ومناسبات تكون واضحة بشكل ما، أما ظاهرة التحرش الجماعي فهي تتم أولاً من قبل عدد كبير من الأفراد أغلبهم من صغار السن الذين لم يتجاوزوا العشرين أو بمعنى آخر من المراهقين الذين لم يعانوا بعد بشكل مباشر من مشكلات البطالة والفقر وصعوبة الزواج.
وثانياً هي تتم علناً وعلى الملأ بل وأحياناً أمام أهالي الضحايا وتعجز قوات الأمن عن حماية الضحايا نتيجة لصغر سن الفاعلين مما يضع أمامها حدوداً وقيود شديدة فيما يتعلق بمستوى القوة الممكن استخدامها خصوصاً مع الكثافة العددية للمتحرشين، وثالثاً فإن هذه التحرشات لا تكتمل أبداً لدرجة الممارسة الكاملة بل تتوقف عن حد اللمسات والمسكات وهو مؤشر مهم على الدافع الحقيقي من وراء هذه التصرفات...
لن أجادل في أن انتشار الخلاعة والانحلال الذي تعرضه الفضائيات على مدار الساعة ومواقع الإنترنت الإباحية بل وأحياناً كثيرة ملابس الضحايا أنفسهن (وإن كانت الأخيرة ليست قاعدة في ظل تسجيل حالات كثيرة لمحجبات بل وحتى منقبات تعرضن لنفس الحوادث)، لن أجادل في أن هذا يعتبر أحد العوامل المهمة ولكن يبقى عامل آخر أساسي مغفل ومختفي في تلك البقعة العمياء التي تعجز العين عن رؤيتها من زاوية معينة وتحتاج إلى تغيير زاوية الرؤية حتى نتمكن من إدراك وجود شيء ما فيها.
إنها فكرة البلطجة بمفهومها الأوسع من مجرد استخدام السلاح للتعدي على الحرمات والممتلكات، هي فكرة أنني قوي وأستطيع أن أفعل فلماذا لا أفعل دون أن أتساءل عن صحة ما أفعل، إننا أمام جيل جديد تربى على هذا المبدأ حتى غدت هذه الفكرة عنده أقرب إلى العقيدة والمنهج أكثر من مجرد تفكير طائش عابر، إن الدافع الرئيسي وراء كل هذه الحالات هي فكرة السيطرة والقوة الغاشمة التي لا يقوى أحد على الوقوف بوجهها.
إنها نفس الفكرة التي كانت تحكم الفكر السياسي للنظام المخلوع وزبانيته ومن قبلهم أيضاً شرطية العالم أمريكا التي غدا أبناؤنا يرضعون ثقافتها مع حليب أمهاتهم، هذه الفكرة التي لا تتردد فقط في الأوساط السياسية والأمنية بل غدت حتى تتسرب من خلال دعايات المأكولات والمشروبات الموجهة للصغار والمراهقين وأغلبنا رأى على سبيل المثال إعلانات المشروبات الغازية والشيبسي التي تدعو صراحة لهذه الفكرة وتستغلها لترويج منتجاتها.
وفي نفس الوقت لم يعد هناك تلك الموانع الأخلاقية التي يقف عندها الشباب ويقيس عليها قبل الإقدام على الأفعال، ولا أقول أن ذلك الجدار الأخلاقي لديهم انهار بل أقول أنه لم يكن موجوداً من الأساس، فالأهل مشغولون بلقمة العيش أحياناً تحت ضغط الحاجة وأحيانا أخرى كثيرة لمجرد الجري وراء المظاهر وتلبية المزيد من الرغبات الاستهلاكية الكمالية التي يمكن الاستغناء عنها...
هذا عن البيت وأما الإعلام فحدث ولا حرج, فهو منبر لم يعد يتوانى عن نشر الرذيلة والدياثة تحت مسميات الحرية والـ Be Cool، أما التعليم فهو القاعدة الثالثة التي سقطت منذ زمن طويل ولا أعتقد أنك تنتظر وصفي لحالته كي تصدق مدى الانحطاط الذي وصل إليه، وأما القاعدة الأخيرة وهي دور العبادة فقد حُجِّم دورها على مدى السنوات الطويلة في نشر الأخلاق تحت وطأة القمع الأمني والسياسي والثقافي العلماني التحرري أيضاً حتى انحصرت أدوارها في أن تكون محل الشعائر وكفى وانفصلت تماماً عن أدوراها الاجتماعية التي كانت تمارسها لعقود طويلة.
بعد كل هذا لا أعتقد أنك ما تزال تنتظر مني مزيداً من الإيضاح كي تقتنع أننا أمام جيل جديد جاهل بلا أخلاق ولا قيم ولا ضمير، وأننا إن لم نتدارك خلال السنوات الخمس القادمة أمرنا ونبدأ بجدية في معالجة الكارثة جذرياً فإننا سنصل إلى جيل كامل تكاد أمور البلاد والعباد تصبح رهن يديه وهو على هذه الحال وساعتها فلا الديموقراطية ولا عشر ثورات جديدة ستنجح في إنقاذنا من براثنهم لأننا ببساطة سنكون الأقلية الفاضلة (أو على الأقل هكذا نحب أن ندعي) في مواجهة الأغلبية التي صنعناها بأيدينا... وساعتها إن كنت قادراً على تتخيل معي حجم هذه الكارثة وما ستؤول إليه الأمور فإنك بالتأكيد تدرك أننا سنجني الشوك الذي زرعناه ولو عن غير قصد، فيستحيل أن تزرع شوكاً أو تتركه ينمو وتجد كروم العنب تتفتح منه.
واقرأ أيضاً:
سعار جنسي علني....وأخشى ....! / عن السعار الجنسي في وسط البلد / التزنيق في المواصلات هل أصبح ظاهرة؟ / إدمان الجنس أم إدمان التزنيق مشاركة (3)