التفكير السحري (الخرافي) في الموسوسين: مقدمة
التفكير السحري Magical Thinking أو التفكير الخرافي Superstitious Thinking هو مصطلح طبي يستخدم لوصف طائفة واسعة من المعتقدات غير العلمية وغير المنطقية في بعض الأحيان. وهي تتركز عموما على الربط بين الأحداث، فعلى سبيل المثال، يمكن اعتبار الاعتقاد في قوة التعاويذ أو في مصداقية الأبراج والتنجيم تفكيرا سحريا، كثير من الناس يهتمون بقراءة الطالع والكف والفنجان ويصدقون حكاياتٍ لا حصر لها عن قوى خفية، والتَفْكيرُ اللا عقلاني منتشرٌ جداً وفي كل مستويات الناس الفكرية والثقافية، وحتى عندما يَعْرفُ الناس أن تَفْكيرهم لاعقلاني فإنهم يَجِدونَه أكثر إلحاحاً في أغلب الأحيان مِنْ تفكّيرهم العقلانيِ، وربما يكونُ الاستعداد لتصديق الخرافة -ضمن حدود معينة- جزءًا من الطبيعة البشرية، ذلك أن كل الناس تقريبا مستعدون في ظروف معينة لأن يصدقوا ما لا يقوم عليه أي دليل مادي؛
كذلك فإننا نرث حكايات وأقوال ومعتقدات كثيرة تجمع بينها صفة أنها لا عقلانية أو خرافية ونادرا ما يفكر أحدنا في معقوليتها أو يحاول التحقق منها، كذلك فإن الإنسان تحت الضغط النفسي ومع الأحداث ذات الأهمية الشخصية كثيرا ما يندفع بقوة نحو التفسيرات السحرية أو الخرافية، ولعل هذا القدر اليسير الشائع من التفكير الخرافي أو السحري بقدر ما يتداخل في حياة الناس إلا أنه لا يتسبب في شلل نشاط أي من أنشطتهم، ولا أحد تقريبا إلا ويجد في حياته مواقف أو أحداث لا يستطيع التفكير المنطقي أو العقلاني تفسيرها، أي أن التفكير الخرافي يقدم لنا ما لا يستطيع التفكير العقلاني تقديمه في كثير من الأحيان، ومن المهم أن نلاحظ أنه يجب تقييم التفكير الخرافي في سياق ثقافة وخلفية الشخص، فمثلا، يمكن أن ينظر إلى الاعتقاد في الظواهر الخارقة والمعجزات تفكيرا خرافيا. لكن العديد من المعتقدات الدينية والثقافية نؤمن بوجود الشياطين والأرواح وغيرها من الكيانات، وبالتالي فإنه لا ينبغي أن نشخص وجود التفكير السحري / الخرافي في شخص متدين استنادا فقط إلى الاعتقاد في هذه الكيانات.
لكن التفكير الخرافي أو السحري يمكن كذلك أن يكون علامة على وجود مرض نفسي أو عقلي فهو موجود في مرضى الوسواس القهري وفي مرضى الاكتئاب، وفي مرضى الاضطرابات الذهانية Psychosis بشكل عام وأيضًا في الشخصية فصامية النوع Schizotypal Personality Disorder إلا أنه أكثر وضوحا في مرضى الوسواس القهري، فالتفكير الخرافي طريقة تفكير يتسم بها كثير من الموسوسين، ودائما ما تراهم يستخدمونها بإسراف وإلى حد التأثير السلبي على حياتهم حتى يصبح من الممكن جدا أن تصاب حياتهم بالشلل، فتراهم يبالغون في توجسهم من عواقب أفكارهم، كما يضفون قوة سحرية على الأفكار وعلى الكلمات وكأنها تقوم بالفعل، إضافة إلى نزوعهم لربط الأشياء والأحداث والمعاني ربطا غير منطقي كما يظهر واضحا في ظاهرة التشاؤم المتمكنة من كثيرين من مرضى الوسواس،فالشخص الموسوس من خلال نزوعه للتفكير السحري يقع فريسة في حياته لمجموعة من الأفكار غير ذات المعنى ولكنه يعجز عن التصرف على غير أساسها، ومن ذلك التشاؤم، وسأضربُ بعض الأمثلةِ على ذلك:
1- أذكرُ واحدًا من مرضايَ الموسوسين كانَ يصرُّ على عدم الخروج من منزله يوم الأربعاء حتى أنه كان يتغيب عن امتحانه في نهائي الجامعة لأنه انزلق مرة على الأرض في أحد أيام الأربعاء، وانكسرت نظارته الطبية يوم أربعاء، ومات صديقه الأثير أيضًا يوم أربعاء.
2- وموسوسة تعبر عن نفسها بقولها "اعتدت أن أرتدي أجلكم الله حذائي مبتدئة بالجزء الشمال من الحذاء ثم اليمين وإذا حدث وأخطأت فلبست الأيمن قبل الأيسر أعيش بدوامة طوال النهار أن هناك ما سيحدث بسبب هذا الفأل السيِّء"
3- وامرأة كانت في يوم الجمعة تمنع أولادها من الخروج من باب البيت أو إمساك السكين أو فتح شبابيك البيت... إلخ، لأن "فيه ساعة نحس" والخوفُ من يوم الجمعة مرتبط بالخوف من الرقم13 أو ما يسمونهُ رهبة العدد 13 Triskaidekaphobia أو Paraskevidekatriaphobia، وهذا الأخير شائع في الغرب والشرق على حد سواء وإن كانت ظاهرة رهبة الرقم 13 أكثر وضوحا في الغرب (وائل أبو هندي، 2003).
ويمكننا دزاسة أهم الخصائص المعرفية للتفكير الخرافي أو السحري تحت ثلاثة أشكال من أشكال التفكير، أولها هو تقييم مريض الوسواس القهري لأفكاره وكأنها أفعال بحيثُ يصبحُ تفكيرُهُ في فعل الفعل أو تخيلهُ لفعلٍ ما، مساويًا في رأيه لقيامه بذلك الفعل أو لإمكانية حدوثه فما دام فكر في شيء فإنه ممكن، وهذا هو ما تمكنُ تسميتهُ بدمج الفكرة بالفعلة ( Thought Action Fusion ( TAF ؛
وثانيها هو القناعة بأن الصلة بين شيئين أو فردين أو فرد وشيء تستمر حتى بعد انفصالهما ماديا وإلى الأبد ما دام قد حدث بينهما التصاق أو اتصال ولو لمرة واحدة وهذا هو ما نسميه بقانون الانتشار السحري أو اللا محدود Law of Infinite Contagion ، وثالها يتمثل في الوصول إلى القناعة بوجود ارتباط بين فعل أو قول ما وحدثٍ ما أو بين حدثين منفصلين دون وصلة سببية ظاهرة، وهذا النوع من التفكير نسميه التفكير الترابطي Associative Thinking وهو خلفية لازمة للتشاؤم.
1- دمج الفكرة/الفعلة:
يشير دمج الفكرة/الفعلة إلى مجموعة من التحيزات المعرفية التي يعتقد أنها تلعب دورا رئيسيا في آلية حدوث الوسواس القهري، كما تبدو ذات أهمية خاصة في فهمنا للعوامل المسببة للأعراض، ويشمل دمج الفكرة/الفعلة اثنين من التحيزات المعرفية:
- دمج الفكرة/الفعلة الاحتمالي: وهو الاعتقاد بأن مجرد التفكيرَ في حالة افتراضية (على سبيل المثال، حادث سيارة) يعزز احتمال حدوثها في الواقع، أي أن التَفكير في حدث 'سيئ' سَيَجْعلُه على الأرجح يحدث!، ولهذا النوع من دمج الفكرة/الفعلة علاقة بوساوس التشاؤم وبوساوس الحسد.
- دمج الفكرة/الفعلة الأخلاقي: وهو الاعتقاد بأن الأفكار أو التخيلات تعادل السلوكيات العلنية أخلاقيا (على سبيل المثال، الجنس أو العنف)، فيقول الموسوس: معنى أن لديَّ الأفكار 'السيئةَ‘ هو أنني شخص سيئ، أو معنى أن لديّ الأفكار 'السيئةَ' سيئىٌ كما لو كنتُ أفعلها... أو معنى أن لديّ الأفكار 'السيئةَ' أنني سأفعلها أو يمكن أن أفعلها... ولهذا النوع من دمج الفكرة/الفعلة علاقة بالشعور المفرط بالذنب!
ويؤدي أي من هذين النوعين من التحيز المعرفي إلى زيادة الأهمية التي يعطيها الموسوس لأفكاره أو تخيلاته وبالتالي زيادة الضيق والخوف والتوتر لدى الموسوس ويفاقم الرغبة في اللجوء إلى الفعل المعادل أو الفعل القهري مثلا طلب الطمأنة Reassurance Seeking ، ومما يزيد المعاناة في مثل هذه الحالات أن توجد أيضًا مفاهيم مثل القناعة بالقدرة على أو بضرورة السيطرة على الأفكار Controllability of Thoughts .
إلا أن مزيدا من تأمل الفارق بين هذين النوعين من دمج الفكرة/الفعلة يبين لنا أن دمج الفكرة/الفعلة الاحتمالي يرتبط مباشرة بإحداث العرض الثاني من أعراض الوسواس القهري وهو الفعل القهري Compulsion أو الفعل المعادل Neutralizing Action مقارنة بدمج الفكرة/الفعلة الأخلاقي (Rassin, et al., 2000)، ولنأخذ المثال التالي لبيان ذلك: إذا اقتحمت وعي أحد الموسوسين المبتلين بالدمج الاحتمالي فكرة أن زوجته ستتعرض لحادث طريق وهي تقود سيارتها فإن محاولاته لقمع هذه الفكرة حتى لو كانت ناجحة لن تكون كافية لطمأنته وسيجد نفسه مضطرا للقيام بما يمنع أو يقلل من احتمالية تعرض زوجته فعلا لذلك الحادث فيتصل بها ويطلب منها ألا تقود سيارتها أو يسرف في الدعاء ألا يحدث ذلك، ومعنى هذا أن دمج الفكرة/الفعلة الاحتمالي يغذي أعراض الوسواس القهري مباشرة، وفي المقابل نجد أن المبتلى بدمج الفكرة/الفعلة الأخلاقي حين تقتحم وعيه فكرة ممارسة الجنس مع أحد الرموز الدينية لا يستطيع ممارسة فعل ما لمعادلة أو التخفيف من أثر تلك الفكرة ولا يجد أمامه إلا محاولة قمع الفكرة والتي تؤدي إلى زيادة تسلطها على الوعي ومعنى ذلك هو أن دمج الفكرة/الفعلة الأخلاقي أكثر ارتباطا بالعرض الأول للوسواس القهري وهو الحدث العقلي التسلطي Obsession سواءً كان فكرة أو صورة أو نزوة...إلخ.
ولعل هذا سبب ما نراه من أن الشعورَ بالذنب يعذبُ مريض اضطراب الوسواس القهري على المستوى المعرفي ربما أكثرَ مما يعذبُ مريض اضطراب الاكتئاب الجسيم فمريضُ الوسواس القهري يضخمُ من عواقب أفكاره السيئة إلى حد بعيد كما أنهُ يرى أن عليه معادلةَ هذه الأفكار بأفكار أخرى طيبة (Shafran et al.,1996) وهكذا نجد مفهوم التفكير الخرافي أو السحري متداخلاً مع مفهوم دمج الفكرة بالفعلة.
وهناك عدة أشكال أخرى لهذا النوع من التفكير السحري ويمكن جمع تلك الأشكال تحت اسم دمج الفكرة الواقع Thought Reality Fusion وجوهر الخلل فيها هو التداخل وعدم وضوح الخط الفاصل بين الظواهر الداخلية (الأفكار أو الذكريات أو التخيلات...إلخ) والخارجية (الأشياء أو الأحداث...إلخ) ومن هذه الأشكال دمج الفكرة الشيء Thought Object Fusion أو TOF حيث يعتقد المريض أن الأشياء يمكن أن تتنجس أو تتلوث تأثرا بفكرة أو خبرة عقلية كالتذكر أو التخيل سواء كانت الخبرة للمريض أو لآخرين (Gwilliam et al, 2004) وفي بعض المرضى يتحدث ما يعتبر تصعيدا لهذه القناعة بأن يعتقد المريض أن هذا الشيء يصبح أيضًا ناقلا للتلوث أو النجاسة إلى الأشياء الأخرى إذا لامسها أي بتطبيق قانون الانتقال السحري والذي سنوضحه بعد قليل، ومنها أيضًا دمج الفكرة الحدث Thought Event Fusion أو TEF فالتفكير في حدث ما أو النطق بفكرة حدث ما يعني إما أن الحدث وقع أو سيقع، وتظهر نتائج بعض الدراسات أن لهذا النوع من التفكير الخرافي أو السحري دورا مهما في الآلية المعرفية لحدوث الوساوس.
2- قانون الانتقال/الانتشار السحري اللا محدود:
ويظهر هذا الشكل من أشكال التفكير الخرافي في القناعة بأن الصلة بين شيئين أو فردين أو فرد وشيء تستمر حتى بعد انفصالهما ماديا وإلى الأبد ما دام قد حدث بينهما التصاق أو اتصال ولو لمرة واحدة، وبالتالي فإن أي كيانين حدث تلامس بينهما تبقى بينهما رابطة ما -أبدية ولا مادية- وقد تكون تلك الرابطة قوية وقد تكون ضعيفة حسب مدة وشدة التلامس إلا أنها تستمر وتبقى مؤثرة،.... ومن أمثلة هذا النوع من التفكير الخرافي مرضى الوسواس القهري الذين تتمحور أعراضهم حول تحاشي كل ما يتعلق بالموت والموتى حتى من داخل الأسرة برغم الصعوبة الاجتماعية الشديدة لذلك مثلا عندما تتحاشى الأرملة كل متعلقات زوجها وكل ما لامس متعلقاته! خوفا من الموت، رغم حبها الشديد المعروف لزوجها رحمه الله !
كذلك يظهر هذا الشكل من أشكال التفكير الخرافي في إصرار مريض الوسواس على حدوث تلوّثِ أو تنجيس أو عدوى لشيء أو لفرد من شيء أو فرد وانتقال ذلك التلوث أو التنجيس إلى ما لا نهاية أو على الأقل إلى ما يفوق حدود المعقول فقد تصل سلسلة الأشياء أو الأفراد التي تصيبها القذارة أو النجاسة إلى أكثر من عشرين هدف متتالٍ وكلها بدأت من مصدر واحد فقط وانتقلت عبر سلسلة تفترض استمرار الانتقال بلا انتهاء أو حتى دون أن تكون هناك وصلة مقبولة أو معقولة بين أصلِ القذارة أو النجاسة أو العدوى والشيء أو الشخص الذي يراه المريض وقد أصابته القذارة أو النجاسة أو العدوى....؛
وللتوضيح أذكر حالة المراهق الذي كان معذبا بالنجاسة التي أصابت القرية كلها بسببه! وحين سألته كيف حدث ذلك: كان رده أن قطرة من منيه كانت في أرضية الحمام ولم ينتبه لها ودخل أخوه الحمام بعده وربما داس بنعله عليها فأصابته النجاسة ثم خرج من الحمام فجلس على أريكة في صالة المنزل فلوثها ثم خرج فلوث سلم البيت ثم دخل المسجد لصلاة العصر فتوضأ فنجس الميضأة ثم صلي في مكان قريب من باب المسجد الرئيسي فنجسه ولما كان موضع صلاته قريبا من باب المسجد فإن كل من يدخل المسجد غالبا يدوس عليه فتصيبه النجاسة وهكذا أصابت النجاسة القرية كلها بسببه!، ولعل عدم منطقية التفكير تتضح ليس فقط في ذلك الانتقال اللامحدود للنجاسة، وإنما أيضًا في أن ربما داس عليها تتساوى تماما مع داس عليها، وأن الميضأة والمسجد قد أصابتهما النجاسة رغم أن أخاه لم يدخلهما بنعله وهو ما يعني أن أخاه إذا كان قد داس على قطرة المني تلك بنعله فقد أصابته النجاسة كله ولم تبق مقصورة على النعل.
والمتأمل في معنى مفهوم الانتقال/الانتشار السحري يجد أنه في حقيقته يعني وجود قناعة بأن جوهر الشيء/الشخص يمكن أن ينتقل لشيء أو شخص آخر بمجرد حدوث التلامس بينهما، والحقيقة أن الفكرة ليست بهذا القدر من الشذوذ الذي تبدو به فأي إنسان مثلا سيتجنب ما استطاع لمس أشياء الشخص الذي يكرهه، وكأن أذى ما –ولو معنويا- سيصيبه من ذلك، وعلى العكس فإن أيا منا سيلجأ للمس الدمية التي أهداها له شخص محبوب من أجل الشعور بالراحة، وبالتالي فإن القناعة بحدوث انتقال لجوهر الشخص إلى جوهر الشيء وبالعكس ليست مقصورة على المرضى وإنما هي قناعة يشترك فيها البشر وإن بدرجات متفاوتة.
3- التفكير الترابطي:
التَفْكير الترابُطي هو شكل مميز مِنْ اللا عقلانيةِ، وهو عملية شمولية تَبْحثُ عن العِلاقاتِ وتعطي قناعة بوجود ارتباط بين فعل ما أو قول ما وحدث ما دون وصلة سببية ظاهرة، ويمكن أن يحتوي قدرا كبيرا مِنْ الغموضِ والتناقض، وهو كالمثالين السابقين من أشكال التفكير الخرافي ليس مقصورا على مرضى الوسواس القهري، فمثلا اشتهر في الطب التقليدي وما يزال لدى عامة الناس قناعة مؤداها أن التشابهِ بين أجزاءِ أو أعضاء الجسد البشري وأعضاءِ جسم الحيوان أو أجزاء النباتِ يشير إلى كفاءة تلك الأجزاء أو الأعضاء في مُعَالَجَة أمراضِ الأعضاءِ البشرية المشابهة.
ولكن الأمر يكون مستطيرا في مرضى الوسواس حيث يستطيع التفكير الترابطي خلق ارتباطاتٍ بين الأشياءِ لا طبقاً للمنطقِ وقوانينِ العِلْمِ، ولا حتى قوانين العادة ضمن العالم الحقيقي. فالأعداد، والكلمات التي تخطر على ذهن المريض، والأفعالُ الشخصية التي يفعلها تستطيع السَيْطَرَة على الأحداثِ الحالية والمستقبليةِ. والحظّ السيئ أَو الحظّ السعيد يُمْكِنُ أَنْ يُتسبب فيهما المريض بالفكرِ، بالبصرِ، باللمسِ، أَو ببساطة بمجرد أنه ربط بينهما. ومريض الوسواس حين تدور معاناته حول هذا النوعِ من التفكير يُكون مدركا بأنّ تفكيرهُ مجنون أو غير واقعي وليس صحيحا بالنسبة للآخرين، لَكنَّه يَستعمله على أية حال للتَخفيف من قلقِه (أي ينفذ فعلا قهريا ما لدرء فكرةٍ تسلطية ما ولا شيء يربط الفعل بالفكرة لكنه يفعله)، ومن بين تلك الوساوس ما يُمْكِنُ أَنْ يَبْدوَ لا عقلانيا جداً، ولعل هذا سبب تعرض بعض مرضى الوسواس القهري لتشخيص فصامٍ متسرع.
كثيرا ما تبدأ الفكرة السحرية عند مريض الوسواس القهري كطريقة لضبط القلق المصاحب للفكرة التسلطية، أو معادلته بفعلٍ قهري عقلي أو حركي يحمل الطابع السحري، ثم بالتدريج تخرج الأمور من سيطرة المسكين فيسقط في دوامة الوسوسة بأصنافها وأشكالها المرة المتعددة، فهناك من مرضاي مثلا:
-1- من كانت تواتيه فكرة اقتحامية (أي تقتحم عليه وعيه دون رغبة منه)، مفادها أنه سيطلق زوجته أو سيقول لها "روحي وأنت طالق"، ورغم أنه لم يلفظ الكلمة مطلقا إلا أنه كان يطلب الفتوى من الفقهاء؛ لأنه كان يفكر هكذا: ما دمت قد فكرت في أنها طالق فقد تكون أصبحت طالقا بالفعل! وكان يطلب من الفقيه أن يسمع سؤاله ثلاث مرات، وأن يكرر الإجابة عليه بأن زوجته غير طالق وما تزال زوجته وحلاله ثلاث مرات أيضا، فهنا نراه يضفي قوة سحرية على أفكاره، كما نرى الأفعال القهرية المتمثلة في السؤال، وتكراره، وطلب تكرار الرد أكثر من مرة.
-2- تلك الأم المسكينة التي كانت تقتحم وعيها فكرة أن أحد أولادها قد أصابه مكروه وهو نائم في سريره، وتتسلط عليها هذه الفكرة؛ فترميها في حالة من التوتر الشديد الذي لا تجد الخلاص منه إلا بأن تقوم للاطمئنان على الولد في سريره، وهذا هو الفعل القهري لتتحقق من أن مكروها لم يصب ولدها، فإذا ما قامت بالتحقق، وعادت إلى فراشها داهمتها فكرة أنها قد تكون تسببت في خنق ابنها وهي تقبله أو وهي تغطي وجهه! فتقوم من فراشها للتحقق مرة أخرى من أنه يتنفس، ثم تطعنها الفكرة السوداء التالية: ما دمت فكرت في أنني قد خنقت ابني إذن.. فمن الممكن أن يحدث ذلك وهذا مثال واضح على دمج الفكرة/الفعلة!
-3- ذلك الأب المسكين الذي بعد زواج ابنته الوحيدة، وبعد أول مكالمة تليفونية بينها وبينه التي اطمأن فيها عليها، داهمته فكرة أنه قد يمارس الجنس مع ابنته! ولم يستطع التخلص من هذه الفكرة رغم إيلامها الشديد له؛ فهذه فكرة اقتحامية تسلطية، ولكن أشد ما كان يعذبه عندما جاء لطلب العلاج كان هو "أنه ما دام تخيل نفسه يمارس الجنس مع ابنته؛ إذن فمن الممكن أن يحدث ذلك".... ورغم أنه لم يكن لديه أي تصور لكيفية حدوث ذلك غير ما حكاه لي من المذكور في التوراة افتراءً على نبي الله لوط -عليه السلام- من أن ابنتيه سقتاه خمرا واضطجعتا معه على ليلتين متتاليتين، وأنجبتا منه مؤابا وبني عمي (سفر التكوين، الإصحاح التاسع عشر) فمن الممكن إذن أن يفعل ذلك وهو مخمور، المهم هو أنه ما دام فكر؛ فإن ذلك قد يحدث أو كأنه حدث!... وهذا مثال على دمج الفكرة/الفعلة الأخلاقي.
4- كثيرون وكثيرات كانوا يتجنبون النظر إلى أعلى أي بناية ينتظر أن يكون فيها أطباء لأنهم يخافون أن تؤدي رؤيتهم للوحات إعلان الأطباء عن أسمائهم إلى أن يمرضوا حسب التخصصات! ورغم أن اسم المرض أي مرض هو كلمة تقال قوتها كلها أن توصل المعنى وليس أكثر، فإن ما يحدث للموسوس عند سماع اسم مرضٍ من الأمراض هو فكرة اقتحامية تسلطية أنه قد يصاب أو أحدٌ من ذوي الدلالة عنده بذاك المرض، تتبعها أفكار اجترارية، تتوالد وتتكاثر في رأسه، وتدور غالبا حول الوصمة أو العذاب المتعلق بذاك المرض، وكلها تحوم حول التقييم المبالغ فيه للخطر أو للتهديد المتمثل في اسم المرض، والنزوع إلى أداء أفعال قهرية استباقية تتمثل في التجنب أو التحاشي، كذلك ففيه إضفاء قوة غير موجودة أصلا على الكلمات!.. وغني عن البيان أن هذا مثال على دمج الفكرة/الفعلة الاحتمالي.
وهناك من المرضى كذلك، من يبالغون في عواقب عدم استجابتهم لأفعالهم القهرية، أو تراهم يفسرون الرابطة بين ما يفعلون من طقوس وما هي مفعولة لأجله بطريقة مخالفة للمنطق، وإذا ضربت هنا بعض الأمثلة فإن الأمر سيتضح:
1- أذكر واحدا من مرضاي الموسوسين كان يصر على تحاشي المقعد الذي داهمته صورة جنسية وهو جالس عليه أو فالوضوء سينقض وتلزم إعادته!!
2- وطفل في العاشرة من عمره كان يقوم برمي كل أقلامه من الشباك ليلة الجمعة؛ لأنه بذلك يكون قد تخلص من كل الأخطاء التي ارتكبها طوال الأسبوع، ومحا أثر كل المواقف التي تصرف فيها بغباء!!.. إلخ.
3- تلك المريضة بالوسواس القهري والنهام العصابي والتي كانت تصر على أن تفكيرها في وجبة دسمة أو اشتهاءها لها يتسبب في زيادة وزنها! ودون أن تأكل
المراجع:
1. وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293.
2- Rassin E., Muris P., Schmidt H. & Merckelbach H. (2000): Relationship between thought-action fusion, thought suppression and obsessive- compulsive symptoms: a structural equation modelling approach. Behavior Research and Therapy 38: 889-897.
3- Gwilliam, P., Wells, A. & Cartwright-Hatton, S. (2004): Does meta-cognition or responsibility predict obsessive–compulsive symptoms: a test of the metacognitive model. Clinical Psychology & Psychotherapy 11, 137–144.
4- Shafran, R.,Thordarson, D.S. & Rachman, S.(1996): Thought-action fusion in OCD. J. Anxiety Disor.,710,379-391.
5- Rhéaume J, Ladouceur R, Freeston M.H & Letarte H (1995): Inflated responsibility in obsessive compulsive disorder: validation of an operational definition.Behaviour Research & Therapy. Vol:33, Issue:2, P: 159-169
6- Salkovskisa P, Shafrana R, Rachman S & Freeston M.H (1999): Multiple pathways to in¯ated responsibility beliefs in obsessional problems: possible origins and implications for therapy and research.Behaviour Research and Therapy 37 (1999) 1055±1072
7- Tallis, F. (1994): Obsessions, responsibility and guilt: two case reports suggesting a common and specific aetiology. Behaviour Research and Therapy, 32, 143±145.
8- Foa, E., Wilson, R. (2001). Stop Obsessing: How to Overcome Your Obsessions and Compulsions. Bantam Books: New York.
9- Hewitt, P.L., & Flett, G.L. (1991). Perfectionism in the self and social contexts: Conceptualization, assessment and association with psychopathology. Journal of Personality and Social Psychology, 60. 456-470.
واقرأ أيضًا:
الانتشار السحري اللامحدود للكفر والحرام / دوامة انتشار النجاسة / لعبٌ جنسي وتفكير سحري: والبقية لا ندري
التعليق: للأسف الجديد أنا بيجيني هيك أفكار ... اشتغلت بواسطة وكنت موظف غير رسمي ...
بعدين اشتركت بنادي صحي براتبي وصرت أخاف يوقع على رأسي أي شيء معدن بالمعهد الصحي بما أن مالي حرام،
يعني عقابا من ربي لي سيقع شيء على رأسي ويقتلني بالمعهد