إهداء: كتبت هذا المقال استجابة لطلب من الزميلة الدكتورة فريدة الأعرجي
تمر هذه الأيام ذكرى ميلاد الرسول الكريم. هناك من يقول أن الثاني عشر من ربيع الأول ليس يوم ميلاده ولكن تاريخ الميلاد وإثباته لا أهمية له والأهم من ذلك أن هناك يوماً في كل عام يراجع فيه الناس حياة وسيرة رجل عظيم.
في يومنا ترى بعض الغلاة يصف الرسول الكريم بأنه مجرد ساعي بريد اختاره رب العالمين لتبليغ رسالته. إن هذا التفكير المتصلب الخالي من العاطفة والتفكير التجريدي ما هو إلا تهميش لشخص محمد صلى الله عليه وسلم. إذا كان الأمر كذلك فكان من اليسير على رب العالمين أن يبعث كائناً آخر، بشراً كان أم لا، لتبليغ الرسالة. عندها لا يوجد حرج ولا عناء، وتصبح الحجة قائمة على الجميع. إن اختيار الرسول الكريم للرسالة السماوية هو أشبه بمؤسسة تعليمية عالمية راقية تبحث عن طلبة موهوبين للمضي قدماً برسالة علم ومعرفة لا تتوقف. ترى هذه الجامعات تختار البعض من طلبتها من عمر مبكر وتستدرجهم إلى مواقعها في مرحلة معينة. بعدها ينطلقون لتسلم قيادة علمية ومعرفية. من هنا أبدأ الحديث عن الرسول الكريم، فإن اختياره من قبل الجامعة الإلهية كان لسبب واحد لا غير: موهبة وعلم وخلق وفكر لا مثيل له، وحديثي عنه يسكون خالياً من أي إشارة لدين أو معتقد.
تطور محمد (ص) الشخصي:
أول ما يلفت النظر على تكوين الشخصية المحمدية هو طفولته. لم يرَ أباه وترعرع في حضن أمه وجده ومرضعته حليمة السعدية. كانت طبيعة مزاجه الطفولي Temperament مستقرة وتميل إلى الدفء. رحلت أمه من الدنيا وهو في السادسة من عمره وتولاه جده عبد المطلب وبعد ذلك عمه أبو طالب لكن هذا المزاج الطفولي لم يتغير طوال عمره وكان سبباً في حب القريب والبعيد له.
يمكن الجزم بأن فقدان الوالدين عند الطفولة كان سبباً في نجاح محمد (ص) في تجاوز عقد أزلية يمر بها الكثير من الناس وتراها تراودهم بين فترة وأخرى وخاصة في أوقات المحن. هذه العقد الأزلية تتمثل في الموقع الفصامي Schizoid والموقع الاكتئابي Depressive . ترى الإنسان دوماً في حيرة من أمره ويتصور بأن الكثير من حوله أعداء لا أصدقاء مما يدفع به للجلوس على مقعد الاكتئاب. تزداد الحيرة أكثر عندما تدرك بأن من هو عدوك حينا هو صديقك أيضا والعكس صحيح وحينها تجلس على مقعد انفصامي. يبتعد الإنسان عن هذه المقاعد التي يجلس عليها بين الحين والآخر، ولكن حدثا معينا في الحياة قد يهز كيانه وتراه يتراجع ليجلس على أحد المقعدين. هذا الأمر لم يحدث مع محمد (ص) ورغم النضال المرير وعداء الكثير من العرب له فلم يكن الانتقام من طبعه ولم يفقد العزيمة لتبليغ رسالته، ولم يجلس على مقعد اكتئابي أو انفصامي.
إن هذا الارتباط بشخصيات متعددة ولفترات قصيرة في حياة الطفل لم يكن لها تأثيرٌ سلبيٌ عليه كما تصور البعض، بل على العكس كان تأثيرها إيجابياً عليه من زاوية البعد العاطفي Emotional Dimension في شخصيته. أصبح هذا البعد واسعاً في علاقته مع زوجته خديجة (رض) ولا أحد يعرف إن كانت هي التي اختارته أم هو الذي اختارها أم كانت هناك عاطفة حب بين الاثنين. لا شك أن محمداً لم يكن مثل بقية قومه أيامها وكان ذا شخصية متزنة تعرف ما معنى الحب وكيف تحب. على ضوء ذلك يمكن الاستنتاج بأن شَعَر بالحب تجاه خديجة وهي الأخرى شعرت بأمواج الحب تتلاعب بعواطفها تجاه ذلك الرجل الأمين والوسيم.
لم تكن لمحمد صلى الله عليه وسلم علاقة جنسية أو عاطفية مع امرأة قبل لقائه بخديجة. لم يكن زواجه منها زواجاً تقليدياً تم ترتيبه بفضل الأهل الذين يتصورون أنهم مؤهلين لاختيار شريكة حياة ولدهم أو ابنتهم. محمد وخديجة في هذا الأمر قدوة للجميع، وإن كان الجميع يتحدثون عن الالتزام بالسنة النبوية فعليهم أن يتركوا جانباً طرق زواج قسرية تمارس اليوم بأبشع صورها شرقاً وغرباً ضمن الطوائف الإسلامية وهي مجحفة بكل معنى الكلمة بحق المرأة. قد يقول البعض أن فقدان الجذور الحضارية لمجموعة بشرية تجربة مريرة تدفع البعض إلى توجه ديني وعنيف يعارض ويكره الجميع في سبيل تحرير الذات المحاصرة. هذه مقولة أهل الإسلام لتبرير الكثير من التصرفات، ولكن في هذا المجال إن كان الحديث عن الالتزام الديني فهذه هي السيرة النبوية: حب وزواج وبداية للمسير في طريق الكفاح وبناء المستقبل سوية، وليس وضع قيود جديدة تزيد النفس المحاصرة حصاراً.
توجه الرسول الكريم ليبدأ حياته الزوجية مع حبيبته وزوجته. هناك توفر له ذلك المكان الخاص به الذي وجد فيه الارتباط العاطفي والوعاء الذي يحمي الإنسان من عواصف الزمن. إن الإنسان ليبدع يحتاج إلى مهلة وقد حدث ذلك للرسول الكريم في هذه المرحلة:
1- مهلة من المجتمع وبدأ يستوعب الفساد والظلم الاجتماعي في المجتمع المكي.
2- مهلة من الحياة للإبداع الفكري والعقلي والعملي أوقات لجوئه لغار حراء.
كان تطوير الذات المحمدية عملية طويلة وشاقة ولم تحدث بين يوم وضحاها. أثناء هذا كله استمر على علاقته الدافئة مع زوجته وأطفاله بل وجميع الناس. هذه العملية نسميها اليوم عملية تنمية شخصية Personal Development ، وبعدها تهيأ الرسول الكريم ليبدأ عملية التغيير الاجتماعي.
الرسالة المحمدية:
ثلاثة وعشرون عاماً، انتهت بوفاته يوم الثامن من حزيران عام 632، قضاها محمدا يبلغ رسالته ويطور مجتمعا لا وجود للعدالة الاجتماعية فيه. كان إطار الرسالة المحمدية هو العدالة الاجتماعية. بالطبع يقول البعض بأن محمدًا قد تم غرس (استدماج Introjection ) الظلم والعطف على المستضعفين في شخصيته نتيجة الحرمان وأن هذا كان السبب في رسالته ذات الإطار الاشتراكي. لكن محمداً لم يكن فقيراً وتجاوز الأزمات النرجسية التي تواجه كل كائن بشري. كان شديد الحب لزوجته وأنجبت منه عدة أطفال، ولا شك بأن مقولة عمرها كان يقارب الأربعين عاماً عند زواجه منها لا صحة فيها ولا يتقبلها العقل من قريب أو بعيد. كذلك الأمر عند الحديث عن أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان مصاباً بعقدة نقص Inferiority Complex كما يتصور البعض. لو كان مصاباً بهذه العقدة لما كان نصيراً للمستضعفين، وكان بمقدرته القضاء على أعدائه من قريش وتصفيتهم متى شاء عندما استقر الأمر له، كما الحال بزعماء العالم الإسلامي في القديم والحديث من العصور.
بدأ الرسول الكريم بنشر دعوته متجولاً من مكان إلى آخر وتعرض للإهانة الواحدة بعد الأخرى وما أجمل دعائه حين يقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس, يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي..." كلمات لا وجود لعاطفة الغضب فيها وترى إطارها الحب والصبر. كان وعاؤه العاطفي يحتوي على الحب، القلق، الحزن، الرحمة وغيرها من العواطف. كي يستطيع الإنسان الاستمرار في دعوته عليه أن يضمن السيطرة على هذه العواطف أو التحلي بالصبر أو بعبارة علمية أدق تنظيمها وما نسميه اليوم تنسيق أو ضبط العواطف Emotional Regulation رغم المقاطعة الشخصية وبعدها الاقتصادية، لم يفقد الرسول الكريم هذا الانضباط العاطفي واستمر يستعمل وظائفه الإدارية Executive Functions بكل جدارة محاوراً الناس ومستمعاً لهم في كل يوم.
محمد والمجتمع المدني:
استطاع محمد صلى الله عليه وسلم بفضل التوازن العاطفي والقدرة الإدارية العالية أن يبني مجتمعاً مدنياً وسياسياً في يثرب في خلال عقد من الزمن. لم يستسلم للهزيمة العسكرية في أحد ودافع عن عاصمة بلده باستعماله العلم واستشارة غيره ورد الغزاة في الخندق. تهيأ لغزو مكة ونجح بفضل قدراته الإدارية في تحقيق انتصاره سلمياً. ولكن ما يهمنا في هذا الأمر هو سلوكه في مجتمع مدني ليس كقائد ولكن كمواطن. إذ كانت قيادته للمجتمع هي بداية العصر الحديث لعهد المنطق Age of Reasoning كما أشار الكثير من كتاب الغرب منذ عدة قرون.
بعد أن رحلت زوجته وحبيبته وأم أطفاله من الدنيا، تزوج بأكثر من امرأة بعد الهجرة. كانت تلك الزيجات أمراً مألوفا أيامها لأسباب اجتماعية متعددة. كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كأي رجل من رجال المجتمع يتكلم مع الناس، يمازح الأطفال، يتفاعل عاطفياً مع الأحداث باتزان ولم يتردد في الزواج من زينب بنت جحش ولم يخفِ حبه لها. هذه السيرة لا تراها اليوم في أي زعيم عربي وإسلامي أو أجنبي إلا من أجل تصوير تلفزيوني للدعاية لا غير.
أعود هنا للإشارة إلى التوازن العاطفي والقدرة الإدارية في تعامله مع أم المؤمنين عائشة (رض). إذ كان دخولها المدينة بعد ضياعها مع رجل شاب بداية لظهور الشائعات التي ملأت المدينة المنورة أيامها. لم يكن بغفلة عن تلك الشائعات ولكنه في عين الوقت كان في كامل السيطرة على وعائه العاطفي، ولم يستسلم لأوهام الغيرة والشك. انتهى الأمر وثبتت براءتها، ولكن تعامله مع الشك وأفكار الغيرة يكشف عن أجمل صفة من صفات شخصيته الرائعة وهي ارتفاع عتبة سلوك إزالة التثبيط السلوكي (الانفلات السلوكي Behavioural Disinhibition) إذ أعطى مثالاً بالتريث وتحكيم العقل عند ظهور الشك كفكرة قد تتطور من وسواسية إلى ذهانية ويتبعها سلوك لا يتصف إلا بالعدوانية. لم يتكلم في الأمر مع عائشة بعد ذلك ولم يتغير سلوكه معها.
من يكره محمد:
هناك الكثير من الغلاة ممن ينتقدون محمدا صلى الله عليه وسلم ولا ترى في حديثهم إلا الكراهية. ترى هؤلاء على مختلف عقائدهم إن كانت دينية أو علمانية أو إنسانية لا يستطيعون القبول لأن لمحمد نظرة خاصة به تجاه المجتمع والإنسانية. محمد لهؤلاء ما هو إلا مجرد رجل انشق عن التيار العام لمسيرة البشرية. تراهم دوماً في معاناة ولا يستطيعون القبول وهضم حقيقة أن في محمد كل شيء لا تملكه ذاتهم.
هذه المجموعات تراها دوماً تتحدث عن الحب والإيثار، ولكن كراهيتهم لمحمد تكشف عن الحقد والكراهية التي هي عواطف مصدرها حركة دفاع ذهانية يكثرون من استعمالها يومياً وتتعارض مع إطار ومحتوى ما ينطقون ويعظون بقية الناس به. الأمثلة كثيرة وسأذكر ثلاثة منها فقط:
1- أولهم السيد دانتي في الكوميديا الإلهية حيث لم يجد دائرة يضع فيها الرسول الكريم إلا الثامنة وكانت في الجحيم. كان دانتي رجلاً يعاني من عدة اضطرابات نفسية ولم يستطع تجاوزها طوال عمره تتعلق بعلاقاته الجنسية وصراعه مع التوجه الجنسي المثلي. لم يجد يومها غير محمد صلى الله عليه وسلم ليصب غضبه على شخصية تجاوزت عقدها النفسية بدون صراعات عاطفية مع غيره من البشر. لم يستطيع القبول بأن هناك رجلاً لا يعرف غير الحب.
2- أما الأبشع من دانتي والذي كان مبدعاً وعبر عن عقدته بصب بعض غضبه على محمد صلى الله عليه وسلم، ترى سلمان رشدي ووفاء سلطان وهما أكثر من يكره محمدا صلى الله عليه وسلم في الألفية الثالثة. سلمان رشدي رغم فوزه بجائزة كتاب عن قصته أطفال منتصف الليل، الذي لا يصلح للقراءة، لم يجد بداً من كتابة الآيات الشيطانية ويتعرض للشخصية المحمدية بصورة جنسية لم يسمع بها أحد من قبل. لم يكن الكتاب يستحق القراءة يومها ولكنه أثار الكثير من الجدل. تكمن أيضاً معضلة رشدي في عقد نفسية وميله إلى جنسنة ما حوله رغم ادعائه بأن غير الحب لا يعرف من عواطف. على ضوء ذلك تراه فاشلاً في علاقاته النسائية ويميل إلى استعمال التعابير الجنسية وأفضل دليل على ذلك هو تصريحه الأخير بعد إلغاء الشرطة الهندية لكلمة كان ينوي إلقائها على حشد من الغلاة . حينها صرح بأن رجال السياسة ورجال الإرهاب في فراش واحد. تعبير جنسي بحت يصور لك عقدًا جنسية لم يستطع هذا اللا إنسان تجاوزها. ربما سيأتي يوم ويتجاوز رشدي عقدته الجنسية التي ليس من الصعب الكشف عنها أو التخمين ما هي.
3- بالطبع تفضلت قناة الجزيرة العربية وقدمت بوصاية غربية قبل عدة سنوات الاستماع إلى امرأة سورية (وفاء سلطان) لم تجد أفضل من سب وشتم محمد صلى الله عليه وسلم واتهامه بأنه مغتصب أطفال. بالطبع لم يكن لها مجال للحصول على المال إلا عن هذا الطريق ونادت بتصفية كل من يعتنق الدين الإسلامي. وقد تحدثت يوماً عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام في محفل يهودي وكانت تظن بأن الجمهور معجب بكلامها حتى قرأت مقالة حاخام فاضل عن انتهازيتها في اليوم التالي. تعاني هذه المرأة من عقد نفسية متعددة تتعلق بهويتها العرقية، الدينية، الثقافية والعلمية وغيرها حتى أصبح تنظيم شخصيتها تنظيماً حدياً. تزيد هذه المرأة من الإشارة إلى الألفاظ الجنسية وقد كتبت مقالاً في عام 2010 نشرته في نفس الموقع الذي انتقدته فيها .حاولت تبرير أسلوب تفكيرها بما شاهدته من سوء تصرف بعض الأطباء السوريين ولم تجد أمثلة توردها إلا وكانت ذات إطار جنسي. بالطبع لا يصعب على أي قارئ الاستنتاج بأن شخصيتها شخصية حدية تعاني من عقد متعددة.
ولكن إطار من يكره محمد قد تم توضيحه وهو واحد ابتداءً من دانتي مروراً برشدي وانتهاءً بسلطان.
الخلاصة:
إن الحديث عن شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لا نهاية له. ولا يمكن لأحد أن ينكر قدراته الإدارية ولكن الغلاة حاولوا انتقاص شخصيته في الحديث عن سيرته الشخصية في العهد المدني بعد هجرته من مكة إلى المدينة. متى ما نجح هؤلاء في اجتياز العقد العصابية Neurotic Complexes والكف عن التظاهر بأنهم رسل الحب فسيكتشفون بأن شخصية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم كان إطارها ومحتواها الحب والحب فقط.
واقرأ أيضًا:
كيف نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف؟ / التنظيم اليومي في حياة النبي / دعوة النبي صحابته للحياء من الله / مقالات عن رسول الله "ص"