نتذكر فضيلة الشيخ الغزالي هذه الأيام بوجه خاص حين نرى جحافل المتنطعين والمزايدين على الإسلام والمتاجرين به والمفتئتين عليه سواءً من المنتسبين له أو المناوئين له، فقد وهب الرجل حياته للدفاع عن جوهر الإسلام ضد جهل أبنائه وهجمات أعدائه.
وأود أن أنبه القارئ العزيز أننا في هذه الرؤية لشخصية الشيخ محمد الغزالي سوف نركز على البعد النفسي فيها وانعكاسات ذلك البعد على أطروحات الغزالي وتوجهاته ولسنا بصدد تقييم فقهي لتلك الأطروحات ولا بصدد الحكم له أو عليه فإن لهذه الأمور رجالها والمتخصصين في ذلك.
ويدفعنا إلى هذه الرؤية لشخصية الغزالي أن هذا الرجل يعتبر علماَ من أعلام الفكر الإسلامي الحديث (سواء اتفقنا معه أو اختلفنا)، وله تأثير كبير في هذا الجيل من خلال كتبه وخطبه وآراؤه واجتهاداته. ولقد اعتدنا في البلاد الإسلامية، في سنوات تدهورنا، أن نطمس ذكرى علمائنا ومفكرينا ونغرقهم في بحار النسيان، ونحن نبرر هذا العمل بصدور رأي مخالف من العالم أو اجتهاد نعتقد أنه خالف الصواب أو خلاف شخصي أو فقهي، أو انتماء عرقي أو قبلي أو.. أو.. أو.. وبالطبع فلن نعدم في كل عالم أو مفكر سبباً من كل هذه الأسباب تجعلنا نهمله أو على الأقل نتجنب الحديث عنه، وقد أدى هذا إلى طمس قيمنا العلمية والفكرية وحدث هذا مع كثير من العلماء الأفذاذ (بصرف النظر عن هفواتهم أو زلاتهم) كابن سينا وأبي حامد الغزالي وابن رشد، وغيرهم كثير، بل وحدث هذا أيضاً مع ابن تيميه لسنين طويلة.
ويحدث هذا بشكل أشد خطورة في عصرنا الحديث وقد أدى هذا إلى تغييب النماذج الطيبة في حياتنا، وتوارى أبطالنا الحقيقيون تحت تراب الإهمال والنسيان، وبما أن الإنسان لديه رغبة في رؤية الأبطال والتغني بهم وتقليدهم فقد اتجه الناس في عالمنا الإسلامي إلى صنع أبطال أسطوريين تافهين في ملاحمهم الشعبية يحيون بها لياليهم. في الوقت نفسه نجد أن أصحاب الاتجاهات المناوئة للإسلام كالشيوعيين والصهاينة ومن على شاكلتهم يحيطون رموزهم بهالات إعلامية ضخمة ويسلطون الأضواء على آرائهم واستنباطاتهم وأعمالهم، وهذا ما يسمى بصناعة البطل، وقد أجادوا هم هذا العمل واستغلوه في ترويج أفكارهم ونظرياتهم، فقد فعلوا هذا مع ماركس ودوركايم وفرويد.... وغيرهم، بل وحتى يفعلونه مع أدبائهم وقصاصيهم، وليس ببعيد عنا ما فعلوه مع سلمان رشدي.
ونحن كمسلمين ليس من منهجنا أن نفعل فعلهم ولكن أيضاً ليس من منهجنا أن نطمس علماءنا وأبطالنا وأن نترك الساحة مفتوحة أمام الأجيال الشابة للتشبه بالفنانين والفنانات والراقصين والراقصات والعابثين والعابثات ثم نتحسر بعد ذلك على ضياع القيم والأخلاق. ومن المحزن أننا نجد صفحات الصحف والإذاعات والتلفزيون تهتز لموت شخص سكير عابث أفسد أخلاق الناس، ولا نجد جزءاً من هذا الاهتمام الإعلامي لعالم أنار عقول الناس بنور الإسلام وأيقظهم من سباتهم ودافع عن هويتهم.
الجندية في شخصيته:
والغزالي بطبيعته جندي ولكنه جندي شديد الانضباط، وقد ظل حياته يحمل سلاحه وينتقل من ميدان إلى ميدان، فلم يترك مكاناً فيه صراع بين الإسلام وخصومه إلا ذهب إليه ولم يترك قضية يهاجم فيها الإسلام إلا وشن سيفه في وسطها وربما يدلل على ذلك موته وهو يقاتل في ندوة "الإسلام والغرب" وسقط من شدة الإعياء وكثرة الجراح فما في جسده مكان ليس فيه طعنة، ولكن الطعنة في هذه المرة أصابت القلب.
إذا فهمنا هذه الطبيعة فيه فإننا نتوقع أن تقاريره التي يكتبها هي تقارير ميدانية عسكرية فيها الشدة وفيها الجدية وفيها الإيجاز وفيها الصراحة المرة (أو الحق المر) وفيها ترتيب خاص للأولويات، يضع في أولوياته إنقاذ حياة الجيش والأمة ثم تأتي بعد ذلك أشياء أخرى مهمة أيضاً ولكنها لا ترقى إلى أهمية الهدف الأول. فقد كان الغزالي صاحب رؤية ميدانية واسعة للعالم الإسلامي لم يبنها من قراءاته أو أخبار وصلت إليه من أحد تلاميذه وإنما بناها من خلال تواجده في كل جبهات القتال أو معظمها، ومقاتل كهذا لا يملك ترف الحديث عن الجزئيات والكماليات أو حتى القضايا المهمة التي لا تصلح معالجتها إلا بعد إنقاذ الجيش الإسلامي المحاصر من كل مكان. أما كثيراً من منتقديه فكانوا يعيشون حياة هادئة وخلفهم أكداس الكتب والمراجع يستنبطون منها ويكتبون لذلك لم يقدرون ضرورات الحالة العسكرية التي يعيشها الغزالي، وثانياً لأن شخصية الغزالي سنراها في السطور القادمة ربما تغري كثيراً من الناس بممارسة الصمت العدواني نحوها.
مفاتيح شخصيته:
ومفتاح شخصيته القوة والاستقامة، فهو قوي في بيانه قوي في وقفاته قوي في معاركه لدرجة أنك تشعر أنك أمام جيش من العلماء والمفكرين. وقد أفادته هذه القوة في مراحل كثيرة حيث تطلبت الظروف أن يواجه – وحده – أعداد هائلة من الشيوعيين والعلمانيين ودعاة التغريب وقد استطاع أن يوقف زحفهم ويكيل لهم ضربات قاتلة وأن يفرض على الجميع احترامه كفارس نبيل لا يلجأ إلى الأساليب الدنيئة في معاركه.
وكانت استقامته سبباً في نفاذ أفكاره، فلا أحد يختلف على أن الغزالي رجل مستقيم لا يعجبه الحال المعوج، وإذا رأى عوجاً ذهب يقيمه من أقرب طريق حتى ولو أدى ذلك إلى غضب الناس. وكانت هاتان الصفتان – القوة والاستقامة – تميزان طريقة الغزالي في التعامل مع الآراء والأفكار والأحداث، فكان لا يناور ولا يلتف من بعيد بل يدخل في الأمر بقوة ومن أقصر طريق وكأنه جراح يعرف مكان العله فيذهب إليها مباشرة بمشرطه.
وكثيراً ما كانت آراؤه تزعج الناس من فرط جرأتها وأصالتها وجدتها وحدتها فيقاومون تلك الآراء أو يجدون صعوبة في تقبلها، ولكن بعد تعقل وأعمال فكر يجدون أن معه الحق في كثير مما يقول. والسبب في ذلك أنه كجندي يعيش المعركة اليومية بين الإسلام والتيارات العالمية الأخرى، لا يملك ترف الجدال أو تغليف الكلمات، فكان يحدث الاختلاف في وجهات النظر والذي كان يصل إلى حد الاتهام والتشابك ومحاولة الإلغاء أحياناً.
تعدد جوانب شخصيته وثراؤها
والغزالي ليس شخصية أحادية الوجهة بحيث يمكنك توقع توجهاته بمجرد معرفتك بمفتاح شخصيته، ولكنه شخصية ثرية متعددة الجوانب كقطعة الماس لذلك فأنت لا ترى منه في النظرة الواحدة أو الوقت الواحد إلى ما يتيحه لك مجال رؤيتك وتبقى جوانب أخرى في الظل تحتاج لزاوية رؤية أخرى حتى تراها.
وهذا التعدد والثراء في جوانب شخصيته كان السبب في كثرة محبيه وأيضاً كثرة ناقديه، فلا يعدم أحد أن يجد في شخصية الغزالي شيئاً يحبه، ولا يعدم أحد أيضاً أن يجد فيه شيئاً ينتقده، وخاصة أن هذه الشخصية لم تكن في الظل وإنما كانت نشطة ومتأججة في ميدان الفقه والإعلام والسياسة والاجتماع.... إلخ.
سعة أفقه وشموليته
وساعده سعة أفقه وشمولية علمه بالقديم والحديث وعلوم الدين وعلوم الدنيا، ساعده ذلك على الوصول إلى عقول مساحات واسعة من البشر على اختلاف انتماءاتهم ومستوياتهم العقلية فأصبح له محبون حتى ممن لا ينتمون إلى التيار الإسلامي. فقد كان منطقه وطريقه عرضه للقضايا تجعل حتى خصومه يحترمونه ويقدرونه، بل ويستشهدون بكلامه، وقد أفادته هذه الميزة في اختراق مجموعات المثقفين ذوي الانتماءات المختلفة، بل وفئات الفنانين والفنانات وغيرهم . فقد وجد فيه هؤلاء شيئاً جديداً كانوا يبحثون عنه، وكأنه عرض الإسلام لهم بشكل تستريح له الفطرة ولا تصطدم معه، وكثير منه كان يعاني من مشاكل فكرية ومنهجية كانت تبعده عن الإسلام.
مزاجه الغالب
وكان المزاج الغالب على الشيخ الغزالي – رحمه الله – هو الحزن والغضب يظهر ذلك في قسمات وجهه وتفصح عنه كتاباته وآراؤه، فهو حزين لما يراه من أحوال المسلمين المتردية ولما يراه من ظلم واقع عليهم وهو غضبان لما يجده منهم من غفلة وتراخ فهو يراهم فريقين: فريق المنهمكين في الدنيا وشهواتها ولا يعنيهم الإسلام في شيء وفريق المتدينين، أو أنصاف المتدينين الذين يتصارعون فيما بينهم حول جزئيات وهامشيات لا ترقى إلى أولوية حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ الهوية وتلك الأشياء التي أصبحت تهدد بالضياع. وقد كان الشيخ رحمه الله يعيش هذه الهموم (فعلاً) كداعية ويحاول أن ينادي في هؤلاء وفي هؤلاء ويشعر أنهم لا يسمعون وإذا سمعوا فهم لا يفهمون وإذا فهموا فهم لا يعملون، لذلك كان يمسك أحياناً بعصا الشيخ المربي ليوجع بها هؤلاء وهؤلاء، وقد صرخ في أحد أحاديثه أن هموم المسلمين لم تعد تدع له فرصة يشعر فيها بالسعادة.
وكان من مظاهر غضبه إرسال قذائف الحق لتواجه وتصد موجات الغزو الفكري التي كادت (وما زالت) تعصف بالمسلمين وتهدد هويتهم ووجودهم كله. وقد وقف الرجل سداً منيعاً أمام الشيوعيين والاشتراكيين في وقت لم يكن أحد يجرؤ على ذلك، وقد نالوا منه الكثير ولكنه ثبت مكانه، وكان ثباته مشجعاً لآخرين أن يحذو حذوه، وأن يكونوا سياجاً يحمي الإسلام من الهجمات المتتالية.
ولم يكن غضبه يتحول أبداً إلى دعوة إلى العنف أو التغيير بالقوة داخل المجتمعات الإسلامية بل كان يميل دائماً إلى الحل الهادئ العميق الذي يغير الناس من الداخل ويوقظ فيهم الشعور بالمسئولية نحو دينهم، وكان يقاوم التصرفات غير المسئولة من بعض الشباب المتحمس ويرى أن ضررها على الدعوة كبير . ومع هذا يدعو إلى الجهاد المشروع – بكل وسائله – لأعداء الإسلام.
طبيعة نظرته الفقهية
كان الغزالي كثير الترحال (في الأرض وداخل النفس) لذلك كانت آراؤه واجتهاداته الفقهية أقرب إلى فقه السفر حيث تبيح ضرورات السفر المسح على الخفين وقصر الصلاة والإفطار في نهار رمضان، والسفر يعيد ترتيب بعض الأولويات ويعيد ترتيب الجدول الزمني فيختصر بعض العبادات أو يؤجلها لأن على المسافر مواجهة شدائد السفر أولاً، وإلا سيموت أو يمرض وينقطع كل شيء. ولكن خصوم الغزالي ومنتقديه كانوا ينطلقون من فقه المقيم المستقر الناعم بكل وسائل الراحة والأمان والحماية والداعي إلى التعلق بكل الجزئيات مهما تكن صغيرة.
استقلاله:
وكان الرجل يتمتع بقدر كبير من الاستقلال فلم يتملكه أحد، رغم المحاولات الكثيرة لذلك، ولم ينضم تحت لواء حزب سياسي، وأنى لحزب سياسي أن يستوعب هذا الجبل الأشم، ولم ينضو تحت راية جماعة، وأنى لجماعة أن تتحمل صراحته وصرامته وجرأته واستقلاليته، ولم ينضو تحت جناح سلطان أو حكومة، على الرغم من حرص الجميع على ذلك تزيناً أو تيمناً. وبقى الرجل كالجواد الذي لم يستطع أحد أن يمتطيه. وقد أعطاه هذا الاستقلال ميزة الموضوعية والحياد فلم يكن أحداً يتهمه بأنه يعمل لمصلحة أحد. وأعطاه أيضاً هذا الاستقلال قدراً كبيراً من الحرية في أن يعبر عما يراه حقاً فهو لا يخشى ضياع مصالح حزب أو جماعة أو حكومة. وأعطاه هذا الاستقلال ميزة في علاقاته فأصبح يتعامل مع الجميع على أساس واحد وهو خدمة الإسلام دون حساسيات مسبقة يسببها الانتماء الحزبي أو الطائفي أو المذهبي. لذلك كان الغزالي مثل الطبيب الماهر الذي استطاع أن يقنع المريض بتناول الدواء.
احترامه للوقت:
وكان يحترم الوقت جداً ويلتزم نظاماً حياتياً صارماً ويكره أن يضيع له أحد وقته فيما لا يفيد. وربما اتضحت هذه الصفة في حديثه التلفزيوني الأخير والذي عرضه مركز تلفزيون الشرق الأوسط، وقد كان هذا الحديث قبل وفاته بوقت قصير، فكان في حديثه هذا ميالاً إلى الاختصار وإلى حسم القضايا الشائكة بكلمات بسيطة وعميقة، وكأنه كان يشعر بأن اللحظات المتبقية من عمره قليلة وأنه لم يعد هناك وقتاً يضيعه وكان هذا الموقف يضع المذيع الذي كان يحاوره في مأزق، فهو يعرض عليه قضايا شائكة ويطمع منه في سرد وتفصيل وتحليل وتعليل، ولكن الشيخ كان يقطع هذا الطريق بكلمات حاسمة مثل حد السيف، وكأنه يقول لمحاوره ولمستمعيه: لم يعد لدي وقت كاف أضيعه!..
وعندما أطال المحاور في أسئلته رد عليه بأدب جم (بعد أن بدا عليه الإرهاق) قائلاً: يكفيني هذا!! وفعلاً يكفيه هذا فقد أدى كل ما يستطيع وحاول إيقاظ النائمين والغافلين، وخاض معارك ضارية وأثخنته الجراح وسقط وهو يقاتل بالكلمة الصادقة الشريفة، فجزاه الله عنا خير الجزاء وجعل كل ذلك في موازين حسناته وأعاننا على اليقظة التي كان يدعونا إليها، وغفر له زلاته وبارك له في حسناته.
واقرأ أيضا:
ضبط إيقاع العلاقات الإنسانية / فتنة الجامعة... لا إقالة ولا استقالة / ليسوا مشايخ بل مجرمين / مراحيض الفضاء الإلكتروني