الفصل الأول: فتاة تعاني من ألم
كانت فتاة في التاسعة عشر من العمر، تركت البيت وبدأت تعمل في ورشة للسيارات، وتعيش في شقة صغيرة قريبة من بيت أمها. بعد ستة أشهر عادت إلى البيت تشكي لأمها من آلام شديدة في الكفين والقدمين لا ينفع معها أي عقار للألم. تم عرضها على أخصائي للجملة العصبية وتم تشخيص التهاب الأعصاب المحيطي Peripheral Neuropathy من جراء تعاطي عقار مضاد للصرع وهو الفينيتون Phenytoin تتعاطاه منذ عمر الحادية عشر عاماً.
تزايد الألم وازدادت حيرة الطبيب، وغير الماء البارد القارس لا شيء يخفف الأوجاع. لم تثبت الفحوصات المختبرية أي تفسير لهذا الألم وانتهى أمر الفتاة في ردهة للأمراض العصيبة قاضية معظم وقتها في وضع الكفين واليدين في ماء بارد نصفه مكون من قطع ثلجية، ومحاطة بأكثر من ممرضة.
لم يتغير الحال بعد تبديل الفينيتوين بالكلونازيبام Clonazepam ولا علاج غير الماء البارد. طلب الطبيب استشارة الطب النفسي لتفسير وعلاج الحالة.
لابد من الانتباه في هذه المرحلة إلى نقطتين:
1- أن السلوك المتعلق باستعمال الماء البارد أصبح سلوكاً غير طبيعي وفي صميم المشكلة. بعبارة أخرى لابد من استعمال النموذج السلوكي لتجاوز السلوك بحد ذاته.
2- لابد من التمعن في معنى هذا السلوك. بعبارة أخرى لابد للطبيب النفساني من تفسير نفسي حركي أو نفسي ديناميكي عن ما يشاهده. يتم توصيل هذا التفسير باستعمال تعبير لا يحتوي على مصطلحات نفسية يصعب استيعابها من قبل الآخرين. أصبحت الفتاة محط عناية الفريق الطبي التمريضي في ردهة الأمراض العصبية وكان أقرب تفسير يستعمله الطبيب النفساني هو أن ما نلاحظه فتاة تعمد أو تطهر نفسها.
وافقت الفتاة وطبيبها على الانتقال إلى ردهة الطب النفسي في المستشفى، للعلاج على الرغم من شكوك بعض أعضاء الفريق الطبي في جدوى هذه الخطوة.
الفصل الثاني: معالجة السلوك والصرع
تم الاتفاق مع الفتاة أن وضع الأطراف في ماء بارد طوال الوقت له أضراره الصحية القريبة والبعيدة المدى. وافقت على التخفيض التدريجي لوقت استعمال الماء البارد واستعمال عقار الديازيبام Diazepam بجرعة 2 – 5 مغم مرتين في اليوم لتخفيض حدة القلق. صاحب هذه العملية التي استغرقت أربعة أسابيع، الحديث عن تاريخها الشخصي منذ أيام الطفولة.
غادر الأب بيت الزوجية وهي في عمر الستة أعوام، وتزوج امرأة أخرى. لها أخ يصغرها بعدة سنوات بعد أن تزوجت أمها بعد سنتين من الطلاق. تزوج الأب وأصبح له عائلة من ثلاثة أبناء واستمر الاتصال بينه وبين الفتاة. أما زوج الأم فلم تخفي الفتاة كراهيتها له رغم أنه كان رجلا يعمل ستة أيام في الأسبوع متنقلاً بين مدينة وأخرى قاضياً ما لا يقل عن ثلاثة ليالي أسبوعياً خارج البيت. أنجبت الأم الابن بعد سنة واحدة من الزواج وتحسن وضع العائلة مادياً.
بعد ثلاثة سنوات من زواج الأم أصيبت الفتاة بمرض الصرع ولم تستجب لعقار الكاربامازبين (التكرتول)(Carbamazepine (Tegretol وتم استبداله بعقار الفنيتوين Phenytoin وتمت السيطرة على النوبات الصرعية. رغم شكواها من كثرة نمو الشعر في جسدها من جراء العقار الثاني إلا أنها استمرت في العلاج لضمان حصولها على إجازة سوق وولعها بالعمل الميكانيكي للسيارات. تركت البيت في عمر 17 عاماً واستقرت في ورشة صغيرة لتصليح السيارات.
نعود الآن إلى الفتاة في المستشفى. تحسنت حالتها تدريجياً وكان لابد أولاً من مراجعة تشخيص الصرع. تم عمل رسم مخ كهربائي كشف عن وجود موجات نموذجية لحالة من الصرع أكثر شيوعاً من غيرها في عمر المراهقة تدعى بالصرع الرمعي الحميد في اليافعين Benign Juvenile Myoclonic Epilepsy يدعى هذا النوع من الصرع أحياناً بالـ JME ويتميز بما يلي:
1- حدوث ارتجاجات رمعية في الصباح.
2- نوبات صرع عامة بين الحين والآخر.
3- عدم استجابته للعلاج بعقار الكارباميزابين.
4- وجود مخطط مثالي لرسم المخ كما هو موضح أدناه، يحتوي على أمواج حادة وبطيئة في جميع أقطاب الرسم.
لابد من اختيار الدواء المفضل لهذه الحالة. يعتبر الصوديوم فالبرويت Sodium Valproate) Depakin) أفضل العقاقير لعلاج هذا النوع من الصرع ولكن استعماله غير مرغوب في النساء حيث قد يؤدي أحيانا إلى السمنة مع تكيس المبايض Polycystic Ovary، ويضاف إلى ذلك تأثيره على الجنين في الرحم مع ازدياد احتمال ظهور السنسنة المشقوقة Spina Bifida.
يعتبر عقار اللامتروجين Lamotrigine الدواء المفضل الثاني ولكنه يستوجب زيادة الجرعة تدريجياً لتفادي تفاعلات جلدية، وبمقدار 25 مغم كل أسبوعين إلى 200 – 400 مغم يومياً. تأثيره على الجنين نادر بعض الشيء، ولا تأثير له على الهورمونات. وقع الاختيار على هذا العقار.
في القليل من الحالات يتم جمع العقارين أعلاه ولكن لا يجوز في أي حال من الأحوال زيادة جرعة اللامتروجين اليومية عن 200 مغم حيث أن العقار الأول يزيد من تركيز العقار الثاني في الدم.
الفصل الثالث:
1- العودة إلى الألم
لم يكن خافياً على الفريق النفسي الذي تولى العلاج بأن الألم في الكفين والقدمين كان ألماً نفسياً Psychogenic Pain لم يكن هناك مكان للنموذج الطبي بعد السيطرة على الصرع ولم يكن هناك مفر من الانتباه إلى النموذج النفسي الديناميكي. يرتبط الشعور بالألم بآليتين دفاعيتين حركيتين وهما:
1- التحول Conversion
2- الجسمانية أو الجسدنة Somatization
يلجأ الفرد إلى استعمال الآليتين للتخلص من قلق وعدم توازن نفسي داخلي وتحويلها إلى آلام جسدية. هناك قاعدة قديمة وهي أن محتوى الألم الجسدي يعكس صورة الألم النفسي، تماماً مثل الصورة السلبية Negative للفلم والصورة المطبوعة على الورق.
تتحدث النظريات النفسية دوماً عن الألم بأنه تجربة تطورية يمر بها الإنسان منذ الطفولة مع بداية تعامله مع الوالدين، فلا عجب إذن أن يكون في خدمة الفرد وقت الدفاع عن كيانه الشخصي النفسي عند وقوع الأزمات. لو تتبعنا الفن والشعر والخطابة في أدبنا العربي لما صعب على أحد الربط بين الألم وجميع العواطف والأسرار.
على صعيد آخر يرتبط الألم بالعقاب والشعور بالذنب . يضاف إلى ذلك أن الخوف من والشعور بالألم نفسه يرتبط كذلك بالتسلط والقوة لمن هو قريب من الفرد ويضاف كذلك علاقة الألم بفراق من تحب أو من تتصور أنك تحبه.
بعد هذا الشرح الوجيز كان لابد من النظر إلى من هم في حياة الفتاة ولم يكن هناك إلا ثلاثة:
1- الأم.
2- زوج الأم.
3- الأب الغائب.
2- نظرية علاقات الشيء Object Relations Theory
أحد مشاكل الأحاديث النفسية التحليلية استعمالها لتعابير غامضة للبعض وأحد هذه التعابير هي الشيء والذي لا يعني سوى شخص أو إنسان والعلاقة بينه وبين المريض، على ضوء ذلك سأستعمل كلمة شخص أو أشخاص في هذا المجال لأنها أكثر لياقة في جميع اللغات.
الابن أو البنت في حاجة إلى وجود الوالدين أو من يقوم بدورهم ويتولى رعايتهم. يتم حدوث علاقة بين الأطفال والوالدين، قد تكون مثالية أو صحية أو دون ذلك، مليئة بمشاعر وعواطف مثل القلق والخوف والشعور بالأمان والحب والغضب. مع الوقت يتم خزن هذه العلاقة في داخل الإنسان ويكون لها تأثيرها على سيطرة الإنسان على اندفاعين غريزيين وهما:
1- الاندفاع الجنسي Sexual Drive
2- الاندفاع العدواني Aggressive Drive أو التنافسي Competitiveness
متى كانت العلاقة أعلاه صحية ينمو الفرد ويمتلك القدرة على السيطرة على اندفاعه بصورة سليمة. متى ما كانت العلاقة غير صحية ينتهي الأمر بفقدان السيطرة والتحكم في الاندفاع بين الحين والآخر. يمكن أن تشبه ذلك بسيارة محركها هو الاندفاع الغريزي أما الفرامل فهي جيدة إن كانت العلاقة بين الفرد والأشخاص صحية وإن لم تكن كذلك فهي فرامل قد تؤدي بسائق السيارة إلى الكارثة
غاب الأب عن طفلته وهي في عمر مبكر ولم يكلف نفسه حتى بزيارتها في المستشفى. أما الأم فكانت متعلقة بطفلها من الزوج الجديد الذي لم يتوانَ عن تحسين المستوى المعاشي لزوجته وابنهما. لم تخفِ الفتاة عدم وجود أية علاقة حب تربطها بزوج أمها ولكنها فجأة صرحت بأن آلام الكفين والقدمين ظهرت مع ذكريات عن زوج الأم يدخل غرفة نومها ليلاً بعد قدومه من العمل ويداعب ثدييها. صرحت الفتاة بهذا السر وغضبت الأم لأكاذيب الفتاة. لم تكشف عن عدد المرات التي حدث فيها هذا الاعتداء وهي في سن الطفولة ولكنها أصرت أن الأمر كان يحصل شهرياً وربما أسبوعياً.
تم سماع أقوال الفتاة من قبل رجل وامرأة من الفريق الطبي وبدأ البعض يميل إلى أنها قد تأثرت بمشاهدة الأم وزوجها يمارسان العملية الجنسية من عمر مبكر وهو ما يسمى بالمشهد البدائي Primal Scene ربما كانت مولعة بهذا الأمر فقط لا غير. لم يكن هذا التفسير مقنعاً ومن المستحيل تطبيقه في حدود القانون. بعد الإدلاء بمثل هذا الأمر لابد من التوقف عن الحديث والطلب من الفتاة أن تتكلم به مع رجال الشرطة إن رغبت في ذلك. لو كان عمرها دون السادسة عشر لكان ذلك من مسؤولية الفريق الطبي النفسي ولكنها تجاوزت هذا العمر والقرار قرارها.
بدأت العدالة تأخذ مجراها والأم تساند ابنتها تدريجياً. كان القرار بإحالة زوج الأم إلى القضاء لمحاكمته في محكمة الجنايات أمام هيئة من المحلفين. انتشر الخبر في الحي وبعد نشر خبر المحاكمة في الصحف أُدين الرجل اجتماعيا قبل أن يُدان قضائيا ولم يكن له خيار إلا بالانفصال عن زوجته ومغادرة الحي في انتظار جلسة المحكمة.
الفصل الرابع: في قاعة المحكمة
لم تكن القضية تستند إلى أدلة ومستندات، والطبية منها ما هي إلا تدوين لكلام الفتاة. رغم ذلك استمرت المحكمة خمسة أيام كاملة ووقف زوج الأم يدافع عن نفسه. لم يتكلم إلا عند سؤاله من قبل محامي الدفاع. وصفه الجميع بأنه رجلٌ خالٍّ من العواطف ولا تسمع غير إدانة الناس له.
بما أنه لم تكن هناك مستندات وأدلة في القضية فالحسم فيها كان بين الأخذ بكلامها وإنكاره. وكذلك لم تكن مفاجئة لبعض من حضر جلسات المحكمة عندما نطق المحلفون بقرارهم بأن المتهم غير مذنب. خرج المتهم من المحكمة متمسكاً ببراءته رغم إدانته من قبل المجتمع وزوجته. خرج من حياة زوجته وهجر المدينة وتزوج من امرأة أخرى. رجعت الفتاة إلى البيت مع أمها وتزوجت بعد سنتين وتزوجت أمها للمرة الثالثة بعدها بعام.
الحقيقة:
تمسكت الفتاة بقصتها بعد المحكمة. ما كان يثير الريبة في كلامها هو أن الألم النفسي في الكفين والقدمين لم يكن من السهل تفسيره بمقولتها عن أنها كانت ضحية زوج الأم الذي ادعت بأنه كان يداعب ثدييها ليلاً وهي في فراش النوم.
لكنها لم تخفي أنها كانت ضحية رجل آخر وهو صاحب الورشة التي كانت تعمل فيها. كان يجبرها بحكم قوته أن تساعده بممارسة العادة السرية باستعمال يديها وأحياناً قدميها. هذا الاعتداء هو التفسير الوحيد للألم النفسي التي عانت منه وانتهى إلى الأبد بعد رجوعها إلى بيت أمها. لم تبالِ بهذا الأمر وتحول اتجاه الغضب نحو زوج الأم الذي يعير ابنه كل اهتمامه، وأمها التي حرمتها من أبيها وأنجبت طفلاً آخر ينافسها، والأب الغائب الذي داهمه الذنب لترك ابنته يوم نطقت بقصتها.
ملاحظات:
أهداف دراسة هذه الحالة:
1- الألم النفسي.
2- التعرف على بعض أنواع الصرع العام وعلاجه.
3- تحليل السلوك المرضي وتجاوزه.
4- تصرف الفريق الطبي النفسي عند الكشف عن اعتداء جنسي في مرحلة الطفولة.
5- التعرف على معنى الدوافع في الطب النفسي.
6- نظرة عامة على نظرية علاقة الأشياء.
الدراسة جزء من محاضرة للكاتب لطلبة الماجستير في علوم للصرع.
أتقدم بجزيل الشكر للمستشار الفنان الدكتور طه عمر على رسومه المبدعة.
واقرأ أيضاً:
امرأة وفصها الصدغي / خلف الستار العائلي... الإفراط الجنسي / رجل وامرأة وآذان صاغية / ذكريات وانفصال وحكاية فتاة مراهقة