يعيش الإنسان عمره متفاعلاً مع من حوله ولكنه قلما يتعمق بفحص التعاملات البشرية هذه التعاملات البشرية لا تقتصر على تعامل الإنسان فقط مع بقية البشر، وإنما تمتد إلى تعامله مع الكائنات الحية الأخرى حوله بل وحتى مع محيط بيئته التي لا حياة فيها. هذه هي الحياة إن حاولنا تعريفها فهي مجموعة من المعاملات في حركة مستمرة بين إنسان وآخر، بين مجموعات بشرية وأخرى، بين دولة وأخرى، بين الإنسان والحيوان، بين الإنسان وبيئته، وفي نهاية الأمر بين الإنسان وخالقه. يتطلب الخوض في هذا الأمر نظرة تحليلية لحادث من حوادث الحياة اليومية، وربما تكون أكثر صدقاً من خلال فحص تفاعل إنسان مع كائن حي لا يقوى على الكلام.
قصة حصان:مع بداية الربيع في بريطانيا تتوجه الأنظار إلى سباقين للخيول. الأول في شمال غرب إنكلترا وبالتحديد قرب مدينة ليفربول وفي الأسبوع الثاني من شهر أبريل. أما السباق الثاني فهو في بداية شهر يونيو في جنوب شرق إنكلترا وبالتحديد في مدينة آبسوم Epsom الأول يعتبر مظاهرة وطنية لعموم طبقات الشعب. أما السباق الثاني فهو أكثر رقياً وملكيٌ في إطاره ومحتواه ورعايته.
قصة الحصان اليوم هو عن السباق الأول الذي جرى عصر الرابع عشر من أبريل هذا العام. قبل أسبوع من السباق وجميع مكاتب الرهان في بريطانيا تتحدث عن الحصان المرشح للفوز بالسباق الوطني العظيم Grand National السنوي لهذا العام الجميع اتفقوا وبدون جدال أن الحصان Synchronised ، والذي سميته مزامن، هو أفضلهم ولا أحد سينافسه للفوز بهذا السباق الذي لا مثيل له في قسوته على الخيول والفرسان على حد سواء.
كان الحديث صباح يوم السباق بأن الجهة الرسمية في ليفربول قد اتخذت جميع الاحتياطات اللازمة بعدم تكرار المأساة السنوية بإصابة أكثر من حصان بكسور تقضي على حياتهم مباشرة بعد انتهاء السباق. تنفس الناس الصعداء وهم يسارعون بوضع الرهان بعد الآخر على حصان واحد أو أكثر للفوز بسباق يصعد بالحصان وفارسه إلى قمة الشهرة. أما من يمتلك الحصان ومن أشرف على تدريبه فرزقهم من جراء الفوز لا حدود له. بعبارة أخرى يدخل الجميع سجل التاريخ البريطاني، وإن كنت تجهل يوم السباق ولم تلقي نظرة على السباق فأنت بالتأكيد لا تعيش في هذا البلد.
ليس من باب المبالغة القول بأن معظم السكان يضعون بعض المال وإن كان رمزياً للرهان على أي حصان في هذا اليوم لأن بعض أرباح مكاتب الرهان من جراء السباق يتم توزيعها على مؤسسات خيرية، في صباح ذلك اليوم كان الجميع يتحدث عن مزامن وسرعته ووسامته واستلمت مكاتب الرهان مئات الآلاف من الجنيهات للرهان عليه. استمر الحال نفسه حتى ساعة واحدة من قبل بداية السباق حين لاحظ البعض أن الحالة النفسية لمزامن فيها شيء من الخوف والقلق.
فجأة استلمت مكاتب الرهان ربع مليون جنيه استرليني وضعها الناس على المرشح الثاني الحصان سيباس Seabass حدث ذلك حين هرب الحصان مزامن من فارسه أمام أعين الحاضرين مبتعداً عن موضع تجمع الخيول قبل السباق. ألقى بفارسه جانباً وهرب من الساحة وكانت رسالته لا أحب هذا السباق ولا رغبة لي في صراع جديد.
تصور البعض أن الرهان على سيباس ربما يكمن في انتظار الجميع فوز أول امرأة في السباق الوطني العظيم وهي الآنسة كيتي ولش. أختفى مزامن عن الأنظار ولكن بدون جدوى .رجع به مدربه وسيده إلى السباق وصدر الأمر إليه وإلى فارسه بالدخول إلى حلبة الصراع.
توجه مزامن وفارسه بهدوء نحو أول حاجز لتجاوز الخوف والرهاب وقف مزامن بضعة دقائق ينظر إلى الحاجز مدركاً أن في هذا اليوم لا سبيل إلى الهروب والخروج عن طاعة السيد والأب. استدار مزامن حاملاً فارسه على ظهره، والقرار لم يكن قراره والخيار لم يكن خياره.
بدأ السباق وبعد الحاجز الثاني من ثلاثين حاجزا لم يسمع الناس باسم مزامن سوى إشارة سريعة بسقوطه من ضمن عدة خيول سقطت كما هو الحال في كل عام. كان السباق في غاية الإثارة وفاز الحصان نبتون وانتهى سيباس وفارسته في المركز الثالث. لا أحد سيذكر يوماً من كان الثاني أو الثالث ولا من لقي حتفه في هذا السباق. هذا ما حدث بالضبط لمزامن. لقي حتفه ولم ينهض بعد سقوطه وكسر جميع الأطراف في جسده. جاء قرار سيده بنهاية مزامن فلا حياة له بعد اليوم.
نقاش ورأيإن الحديث عن قصة حيوان يستعبده إنسان لا تختلف كثيراً عن قصة تعاملات إنسان مع غيره من البشر، ويعود بنا ذلك إلى ذكريات عن نظريات في تحليل السلوك البشري بعضها اليوم لا يطلع عليها إلا القلة من الطلبة وعامة الناس. أحد هذه النظريات هي نظرية التحليل التعاملي Transactional Analysis لإيرك برن Eric Berne.
كانت ولادة نظريات التحليل النفسي لفرويد بداية لعصر جديد في علم النفس والطب النفسي. كان لهذه النظرية تأثيرها في علم الاجتماع والسياسة والفكر الديني وتحولت من نظرية علمية إلى صراع بين مجموعات بشرية ودينية. كان للمعلم فرويد تلاميذه، بعضهم عاش عمره وفياً له، وبعضهم خرج عن طاعته وبالذات كارل يونك Carl Jung الذي احتضنته المؤسسة الدينية في أوربا أيامها.
لم تكن نظرية التحليل النفسي لفرويد خالية من الغموض ومن يتعمق في دراستها يدرك ذلك بسهولة .على ضوء ذلك بدأت نظريات متعددة تظهر في مجال علم نفس في محاولة لتوضيح تلك النظريات رغم أنها متفرعة من نظرية المعلم فرويد، وأحد هذه النظريات هي نظرية التحليل التعاملي. يمكن تلخيص هذه النظرية بأن هناك ثلاثة حالة للذات أو الشخصية يطلق عليها حالات الأنا Ego States وهي:
١- الطفل Child .
٢- الراشد أو البالغ Adult.
٣- الأب أو الوالد Parent.
يتفاعل الإنسان مع من حوله من البشر مستعملاً أحد هذه الأدوار بدون أن يدرك ذلك أحياناً. يمكن تصور الحياة على ضوء هذه النظرية بأن الإنسان أشبه بفنان منفرد على المسرح يلعب عدة أدوار خلال عرض المسرحية. لم يكن هذا بالشيء المجهول في القديم، ولكنه أيضاً ليس بالغير المعروف لمعظم الناس في الحياة. ربما يدرك من حول الفرد الدور الذي يلعبه ولكن الأهم من ذلك أن يدرك الفرد الدور الذي يلعبه. الفنان على خشبة المسرح على علم بأدواره ولكن الإنسان على مسرح واقع الحياة قلما تكون له دراية بما يحدث.
يعيش الإنسان ضمن مجموعات بشرية تضع لوائح من التوجيهات وظيفتها السيطرة على السلوك. تلك التوجيهات قد تتحول إلى تشريعات يمكن تصورها كمثلث كما يلي:
1- الرأس الأول: توجيهات أخلاقية Moral Guidelines
2- الرأس الثاني: توجيهات دينية Religious Guidelines
3- الرأس الثالث: توجيهات وتشريعات قانونية Legal Guidelines
أما داخل المثلث فهناك الذات أو الأنا الفردية ولها تشريعاتها وتعليماتها التي قد تفصح عنها أو تكتمها. من جراء هذا الكتمان ربما يلجأ الإنسان أحيانا إلى لعب الدور بعد الآخر في الحياة وفي أوقات مختلفة آخذاً بنظر الاعتبار التوجيهات الخارجية الثلاثة أعلاه والشخصية الفردية التي لا يعلم بها إلا هو نفسه وقد يجهلها حتى أقرب الناس إليه. لكنه أحياناً قد يضرب كل رؤوس المثلث عرض الحائط ويدمر كل التوجيهات.
يكثر الحديث عن التحليل التعاملي في التركيز على أن التعاملات بين البشر ما هي الا مجرد ألعاب يمارسها البشر بينهم. عندما نشر برن كتابه ألعاب يلعبها الناس Games People Play كانت غايته نشر نظرية للعلاج النفسي. لكن الكتاب سرعان ما تحول إلى ما هو أشبه بالرواية ثم نظرية اجتماعية لم تكن مستندة إلى بحوث علمية، ولم تأخذ بنظر الاعتبار التوجيهات والتشريعات التي تطوق الإنسان. العودة إلى مزامنلا يختلف حال مالك الحصان مزامن عن الكثير من البشر وهم في مراكز لاتخاذ القرار لا لأنفسهم فحسب ولكن لغيرهم من الناس. كان أمر سيد مزامن مع حصانه الذي ملكه أو بالأحرى استعبده، مقبولاً عند الكثير من الناس فمزامن كان مجرد حصان في نظرهم. لا حقوق له في الواقع سوى خدمة سيده.
كان جزاؤه في الماضي بعد الفوز بسباق ما المزيد من التدريب والأكل والتهيؤ لسباق آخر. لم يكن هناك الأمل يوماً ما أن يعود مزامن إلى الطبيعة التي يعيشها الخيول على كوكب الأرض. لكن حال مزامن مع سيده لا يختلف كثيراً عن حال الكثير من البشر في عالمنا هذا وبالطبع منها عالمنا الشرقي العربي.
ترى الطغاة من البشر يتسلطون على رقاب الناس متخذين القرار بعد الآخر بحقهم، ويصممون لهم الحاضر والمستقبل بل وحتى أحياناً يعيدون كتابة ماضيهم. ربما كان هناك أملاً في أن ينعم مزامن بالعيش ضمن الأسوار يوماً بدون أشغال شاقة ويتم إحالته على المعاش، ولكن هذا الأمل لا وجود له في الكثير من بلاد العالم العربي.
لا يتوقف الإنسان عن الطغيان في الكثير من مجالات الحياة وبالذات في مجال الحياة العائلية. ترى سيد البيت صاحب القرار أحياناً في زواج البنت وكذلك زواج الابن فهو الوحيد المدرك من يجب أن يشاركهم الكفاح من أجل بناء حياة إطارها السعادة والعطاء. لا يتوقف سيد البيت، وإن شأت سَمِّهِ طاغية البيت، عن اتخاذ قرار الزواج بل ويرسم كيف يبني الابن والبنت مستقبلهم المعرفي والمهني مشيرا إليهم في أي مجال من مجالات الحياة يجب الخوض فيها. ترى هذه المأساة حتى في الشباب من أصل شرقي الذين يعيشون في عالم الغرب حيث يتجاوز الطغيان جميع القواعد الاجتماعية الحاضرة في تحليل التعاملات البشرية.
التعامل البشري المثالي في مرحلة ما بعد البلوغ هي معاملة إنسان بالغ لإنسان آخر وصل نفس المرحلة. لكن هذه القواعد البديهية يتجاوزها البعض وترى التعاملات البشرية بين البالغين معاملة الأب للطفل، وتعامل الطفل مع الأب. أما المعاملات بين البالغين في الوسط العائلي الشرقي فإن لم تكن نادرة بعض الشيء فهي عند الكثير لا وجود لها.
عندما وقف مزامن ينظر نحو الحاجز لم ينطق بقراره ولم تكن له القدرة على اتخاذ قرار غير قرار سيده. كانت نظراته نظرات كائن حي قرر الانتحار دون مخالفة سيده. إن لم تسنح للكائن الحي الفرصة باتخاذ قرار والنطق به، قد لا يكون البديل سوى السعي نحو دمار وانتحار. هذا ما حصل لمزامن وما يحدث أحياناً للكثير من البشر، وربما هذا ما أشعل لهيب الربيع العربي في تونس والعالم العربي.
واقرأ أيضاً:
الشخصية المحمدية على بعد الحب-الكراهية / ذكريات وانفصال وحكاية فتاة مراهقة / الحب وجنون الحب / زرع الثدي الاصطناعي: الأبعاد الاجتماعية النفسية / الجن وعقل الإنسان / المرأة والرجل على الميزان