الأبوة عملية بيولوجية نفسية، واجتماعية، وهي عملية شاقة، ومعقدة، تبدأ مهامها من قبل ولادة الطفل، وتستمر طوال العمر، بهدف تربية الطفل، وتنشئته التنشئة السوية. ولا تقف مهامها عند مجرد تأمين متطلبات الطفل البيولوجية من غذاء، وملبس، ومسكن فحسب، ولكنها تتعدى حدود ذلك لتشمل تأمين متطلبات الطفل النفسية، والاجتماعية، والعاطفية.
وقد كان للأبوة في العصور القديمة خاصة في مصر -في عهد أجدادنا الفراعنة- مكانة خاصة؛ حيث كانوا يحترمون واجبات الأبوة، ويقدسونها بدرجة كبيرة، حتى أنهم اهتموا بتسجيلها على جدران معابدهم.
وتعد الأبوة حقا من حقوق الطفل الإنسانية؛ حيث تسهم يشكل كبير، وفعال في بناء شخصيته، وتطورها، فقد أشارت العديد من الدراسات المهتمة بحقوق الأطفال، ومتطلباتهم Needs and Rights of Children ، إلى أن لكل طفل حق في أن تكون له أم عطوف، وأب مسئول، وإخوة يبادلهم الحب، ويكتسب منهم المهارات الاجتماعية، وأجداد (أسلاف) يشعرونه بأنه ينتمي إلى أسرة عريقة، وممتدة منذ القدم، كما أن له الحق في أن يحيا في منزل يقوم على علاقة زوجية سوية، وينعم فيه بطفولة بريئة، وآمنة بين والديه.
ويسهم الآباء في الأسرة بدور بارز في التأثير على سلوك أبنائهم من خلال:
1- اهتمام الآباء بالإشراف على أبنائهم، وملاحظتهم، وتوجيههم، ومساندتهم معنويا، وماديا.
2- حرص الآباء على الارتباط بأبنائهم عن طريق التحدث إليهم، والتواصل معهم لغويا، وهو ما يشعر الأبناء بدفء العلاقة التي تربطهم بآبائهم، ويعطيهم فرصة أكبر للتعلم، والاستفادة من خبرات آبائهم، كما ينمي قدراتهم على التواصل الفعال مع آبائهم بصفة خاصة، ومع المجتمع بصفة عامة، بالإضافة إلى أنه يرتقي بمهاراتهم في التواصل اللغوي للتعبير عن أنفسهم.
3- اندماج الآباء في حياة أبنائهم، وحرصهم على قضاء وقت مناسب معهم، واهتمامهم بتعليمهم العادات، والتقاليد التي تشكل الهيكل العام للمجتمع.
4- اندماج الآباء في النشاطات الذهنية لأبنائهم؛ وحرصهم على تعليم الأبناء المهارات المختلفة، حيث يهتمون بإثارة انتباههم، وتوسيع مداركهم، مثل محاولة تعليمهم القراءة والكتابة قبل الدخول إلى المدرسة.
5- كذلك يؤثر الآباء على سلوك أبنائهم من خلال سلوك الآباء أنفسهم، وطريقة تصرفهم أمام أبنائهم، حيث يقتدي بهم الأبناء، ويقلدونهم في تصرفاتهم، فسلوك الأبناء مرآة تعكس سلوك الأهل، وبيئتهم.
من هذا المنطلق، فقد قامت العديد من الدراسات المهتمة بدراسة الأبوة، وتأثيرها على سلوك الأطفال، بدراسة الأبوة من شقين أساسيين وهما: أسلوب (طريقة) ممارسة الأبوين لأبوتهما Parenting Style، والخبرة بالممارسة الفعلية للأبوة Parenting Practice ويقصد بأسلوب ممارسة الأبوين لأبوتهما موقف الأبوين من الطفل بصفة عامة في جميع المواقف، بينما الممارسات الفعلية للأبوة، أو ما يعرف أيضا بسلوك الأبوة، فيقصد به الموقف الذي يتخذه الأبوان من سلوك الطفل في موقف معين.
وقد صنف الآباء إلى أربعة أنواع، تبعا لموقف الأبوين من الأبوة، وقيمهم ومبادئهم عن الأبوة، وممارساتهم الفعلية للأبوة مع أطفالهم، وما إذا كانوا على قدر عالٍ أو منخفض من التوجيه والإرشاد لأبنائهم إلى:
1- الأبوان المتساهلان Indulgent Parenting : ويعرفان أيضا بالأبوين المتسامحين، أو غير المرشدين (غير موجهين) لأبنائهما، وهما يستجيبان لمتطلبات أبنائهما أكثر من مطالبتهم بالالتزام بتوجيهاتهم، وإرشاداتهم، وهما لينان في معاملتهما لأبنائهما، ولا يطلبان من أبنائهما أن يمارسوا السلوك الناضج في التعامل مع الآخرين.
2- الأبوان الدكتاتوريان Authoritarian Parenting : وهما على قدر شديد من الإرشاد (التوجيه) لأبنائهما، ويطلبان من أبنائهما الالتزام بهذا التوجيه، دون الاستجابة لجميع متطلبات الأبناء، فهما مدركان جيدا للأمور، ويطلبان من أبنائهما أن يلتزموا بطاعة أوامرهم بدون إبداء الأسباب. هؤلاء الآباء يقدمون لأبنائهم بيئة موجهة ومرشدة، تقوم على قواعد نظامية صارمة، ومحددة.
3- الأبوان الديمقراطيان Authoritative Parenting : وهما يطلبان من أبنائهما الالتزام بتوجيهاتهم، وفي نفس الوقت يستجيبان هما أيضا لمتطلبات أبنائهما، فهما يرشدان وينقلان قواعد واضحة لسلوك أبنائهما، وبالرغم من أنهما جازمان، إلا أنهما غير متطفلين، ولا مقيدين لأبنائهما، ووسائلهما الانضباطية، أو التعليمية في تربيتهما للأبناء تكون لمساندة الأبناء، وليست وسائل لمعاقبتهم وتأديبهم.
4- الأبوان المهملان (المتكاسلان عن أداء واجبات الأبوة) Neglectful Parenting : وهما على قدر منخفض من الالتزام بمتطلبات أبنائهم، أو بمطالبتهم بالالتزام بتوجيهاتهم وإرشاداتهم، وفي الحالات الشديدة، فإن هذا الأسلوب في معاملة الأبوين لأبنائهم، يعرف فيه هؤلاء الآباء بالآباء الرافضين (النابذين) للأبوة، أو بالآباء المهملين (المستخفين) بالأبوة، على الرغم من أن معظم الآباء من هذا النوع قد ينحدرون من أسر طبيعية.
وقد وجد أن أسلوب الأبوين في التعامل مع أبنائهما ينبئ بقدرة الطفل على التعامل بكفاءة في الميادين الاجتماعية، وجدارته في الأداء الأكاديمي، ونموه (تطوره) النفسي، كما ينبئ بحدوث اضطرابات السلوك، فقد أثبتت الدراسات وجود علاقة بين سلوك العنف والعدوان في الأبناء وإهمال الأبوين، أو أسلوبهما السلبي في التعامل مع الأبناء، كما أن هذا السلوك مرتبط أيضا بالأسلوب المتزمت للأبوين في عقاب الأبناء، ونقص المساندة الأسرية والعواطف الدافئة.
أما عن خبرة الأبوين العملية في التعامل مع الأبناء (ممارسات الأبوة)، فقد وجد أن استخدام الأبوين لبعض الممارسات الخاصة مع الأبناء، كاستخدام أسلوب العقاب الجسدي المؤلم، أو استخدام وسائل متضاربة في التربية، لها ارتباط وثيق بظهور السلوك السلبي في الأطفال كالعنف، والإهمال والسلوك الإجرامي.
هذا وقد بينت الدراسات المختلفة أنه توجد عدة عوامل تؤثر على سلوك الأبوين في التعامل مع أبنائهما، وتنعكس على قدرتهما على القيام بدورهما في عملية الأبوة على أكمل وجه، وقد أوضحت الدراسات أن بعض هذه العوامل مرتبط بالأبوين، وبعضها يرتبط بالأطفال، بالإضافة إلى وجود عوامل أخرى مرتبطة بظروف الأسرة وبالبيئة المحيطة بها.
أما عن العوامل المرتبطة بالأبوين فقد وجد أن الأبوة تتأثر بالسمات الشخصية للأبوين، كما تتأثر بعمرهما الزمني وقت ممارستهما للأبوة، ومستوى تعليمهما، بالإضافة إلى خلفيتهما عن عملية الأبوة، والتي تتأثر بثقافتهما وبطريقة نشأتهما وتربيتهما في أسرتيهما، وبالعادات والتقاليد السائدة في مجتمعهما، كما تؤثر الحالة الصحية للوالدين، وما إذا كانا يعانيان من أمراض نفسية، أو جسدية، على أدائهما لعملية الأبوة، وكذلك تؤثر طبيعة العلاقة بين الأبوين على الأبوة حيث أن العلاقة الزوجية المستقرة بين الأبوين تعد الطاقة التي تعينهما على منح أبنائهما أقصى درجات العناية، والرعاية.
بالإضافة إلى هذا فإن القيام بواجبات الأبوة ومهامها يتأثر أيضا ببعض العوامل الأخرى مثل ما إذا كان الأبوان مدخنين، أو متعاطيين للمواد المخدرة، أو الكحول، كما تعتبر بعض الدراسات السمنة أحد العوامل التي قد تؤثر على الأبوين، وتعيقهما عن القيام بدورهما في عملية الأبوة.
وعن العوامل المرتبطة بالأطفال وتؤثر في عملية الأبوة فهي: عدد الأطفال في الأسرة؛ فكلما زاد عدد الأطفال زاد العبء الذي يتحمله الوالدان، وأثر هذا على قدرتهما على منح أطفالهم الرعاية الكاملة، بالإضافة إلى هذا فإن الأبوة تتأثر بالمزاج العام للطفل، والذي قد يؤثر على سلوك الطفل، وعلى قدرة الأبوين على التفاعل معه.
وأخيرا، العوامل المرتبطة بالأسرة وظروف البيئة المحيطة مثل: المستوى المادي للأسرة، حيث ينعكس المستوى المادي المرتفع للأسرة على سلوك الأبوين فيجعلهما أقل توترا عند التعامل مع أطفالهم نظرا لقدرتهم على توفير متطلبات أطفالهم بسهولة ويسر، وهو ما ينعكس بالتبعية على سلوك الأطفال، كما تتأثر الأبوة بالأصل العرقي الذي ينحدر منه الأبوان، وقدر المساندة المعنوية التي يحصلان عليها من المجتمع، بالإضافة إلى قدرة الأبوين الشخصية على مواجهة المشكلات التي قد تواجههما في الحياة، والتكيف معها بحيث لا تعوقهما عن أدائهما لعملية الأبوة.
ويتبع >>>>>: أبناؤنا والأسر المعتلة
واقرأ أيضاً:
بنية الأسرة وأثرها في تطور الأطفال / التنشئة الأسرية الموجهة نحو الصلاح الإنساني 5 / اضطراب الوظيفة الوالدية والإساءة للأطفال