في لهجة أهالي مصر وبلاد الشام يُقال للقابلة: "الداية"؛ وهي المرأة التي تمتهن توليد النساء الحوامل، وهي مهنة لم تندثر حتى مع تطور الطب ووجود المشافي وعيادات التوليد؛ ومن "الداية" نحت أهل فلسطين مثالاً على السماح لشخص أو مجموعة بتجاوز الأعراف والتقاليد المرعية في المجتمع، وعادة يستخدمون هذا المثل من باب السخرية فيقولون: "فلان هو ابن الداية"؛ والأصل في الحكاية أن ابن "الداية" كان أحياناً يدخل مع والدته التي تقوم بعملية التوليد للمرأة الحامل، أو يدخل وهي تقوم بعملها وهو ما لا يُتاح لغيره من الأولاد، فأصبح المثل ينسحب على حالات مشابهة بتجاوز ما هو متفق عليه أو موجود كتقاليد متبعة ومعروفة.
في عصرنا فإن (إسـرائيل) هي ابن "الدايـة" في هذا العالم؛ فهي تُخالف كل القوانين والأعراف الدوليـة بلا حسـيب أو رقيب، ولا يرفع أحد الصوت لاسـتنكار أفعالها، وكأن ثمـة تواطؤاً دولياً في عالم اسـتمرأ النفاق، واعتاد غض النظر عن أفعالها وخطاياها التي تتبع الواحدة بأبشـع من التي سـبقتها...
فأمام الكاميرا اعتدى ضابط إسـرائيلي برتبـة مقدم على ناشـط دانماركي في منطقـة الأغوار، ولم ننـسَ قصـة (راشـيل كوري) الأمريكيـة التي داسـتها الجرافـة الصهيونيـة بلا رحمـة، ولم ننـسَ اسـتخدام فرق الموت (الموسـاديـة) لجوازات سـفر كنديـة وأوروبيـة في عمليات الاغتيال ـ محاولـة اغتيال خالد مشـعل في عمان واغتيال المبحوح في دبي ـ، والاعتداء على السـفينـة التركيـة في المياه الدوليـة وقتل العديد من ركابها... والقائمـة تطول.
طبعاً لن أتحدث عن جرائم (إسـرائيل) بحق الشـعب الفلسـطيني التي لم تتوقف يوماً، بل إن وجودها كان جريمـة بحق الإنسـان الفلسـطيني، لأن العالم المنافق يتعامل معنا كأننا «أبناء البطـة السـوداء»، ولكن أسـتعرض أحداثاً تتعلق بدول أخرى انتهك فيها الكيان العبري رسـمياً كرامـة مواطنيها وسـيادتها، دون أن تنال العقاب ولا حتى التوبيخ..!!
هب أن فلسطينياً أو عربياً أو مسلماً ارتكب عملاً ضد دولة أوروبية بطريقة فردية أو من تلقاء نفسه أو شاركته مجموعة لا تُمثل إلا نفسها، فكيف ستكون ردّات الفعل الأوروبية!؟ سيُنادون بفرض عقوبات على دول ومجتمعات وحكومات وهيئات مجتمعية وجمعيات خيرية، وستتعالى صيحات العنصرية، وسيقولون بأن الإسلام يحوي نصوصاً تُشجع على العنف والقتل، وأن المناهج يجب أن تتغير، وقد تُجيش الجيوش والأساطيل بهدف الردع والانتقام؛ أما إذا قام الاحتلال بصفـة رسـميـة باقتراف جريمـة أو انتهاك لعُرف دبلوماسـي أو ما شـابـه، فإن الأمر يبدأ تدريجياً بالتلاشـي من وسـائل الإعلام، ويدخل غياهب النسـيان، والعقوبات بحق الكيان تُعتبر حُلما بعيد المنال!
الإنسان المسلم يعلم أن هذا النفاق الدولي والتغاضي عن جرائم وفظائع واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار هو من علامات مرحلة العلوّ الكبير التي أخبرنا الله تعالى عنها في سورة الإسراء الآية الرابعة: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً)، إلا أن لهذا العلو ما بعده من سقوط سريع بمشيئة الله، وقد ظهرت مجموعة من إرهاصات السقوط المؤكد بالنص القرآني، ولن تبقى (إسرائيل) ابن "الداية" إلى ما لا نهاية (مع العلم أن ابن "الداية" يتصرف بعفوية وبراءة غالباً) لأن الزمان يدور والأيام دول.
والعبرة هنا أن الحقوق تُنتزع انتزاعاً، لأنها لا تُوهب ولا تُمنح من أي كان، ومن يمتلك القوة يفرض كلمته أو على الأقل يمنع عن نفسه الأذى والطمع، فالعالم الغربي يُنافق للصهاينة لأسباب مختلفة منها تنفذ اللوبي اليهودي، وتحكمه برؤوس الأموال، ومنها حقدهم التاريخي على العرب والمسلمين، ولكن هذا العالم لو رأى أن لنا قوة أو أننا نُحسن استخدام أوراق الضغط لتغيّر بالتأكيد.
في آب/أغسطس 2010م كتبت «كلا.. لم أندهش ولم أستغرب» وتطرقت لمسألة العميل الذي أُخلي سبيله في ألمانيا رغم وجود شُبهات قوية على ضلوعه في جريمة اغتيال الشهيد المبحوح، وقلت بأن هذا لا يُثير دهشتي ولا استغرابي، وعليه لم أستغرب ما يجري للأوروبيين في مطار اللد أو في الأغوار أو في أي مكان، فهذه هي (إسرائيل) منذ وجدت.
وبعض مشـركي قريـش كانوا يُطعمون المسـلمين وأقاربهم في شِـعب أبي طالب سـراً، هذا موقف سـجلـه التاريخ كموقف ينمّ عن شـهامـة وإنسـانيـة، إلا أن المؤكد أن هؤلاء الذين أطعموا المحاصرين ليسـوا من كان سـبب انتهاء عصر الوثنيـة في مكـة؛ بل إن هذا الأمر تم بدخول عشـرة آلاف مقاتل إلى مكـة، فلا ينتظرنَ أحد أن يرحل الاحتلال بجهود مشـكورة من متضامنين أو غيرهم، فما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك!
واقرأ أيضاً:
وهل الضفة الغربية / بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة! / أليس هناك مساجد في جنين؟! / دروس لصحافيين عرب من العجوز المجربة / الحرية أولاً... الحريـة دائماً... / فوراً والآن... سحب القضية من أمريكا