تركت مصر في أوائل شهر يونيو 2012 والناس غارقون في الجدل بين اختيار مرسي (مرشح الإخوان المسلمين) أو شفيق (مرشح النظام السابق والفلول والخائفين من أي شيء وعلى أي شيء)، وكان في تخيلي أنني سأرى صورة أفضل في تونس حيث كان لهم السبق في الثورة والسبق في ترتيب شئون البلاد بشكل نعتبره نحن في مصر أفضل، حيث حدث (أو المفترض أنه قد حدث) توافق بين حزب النهضة الإسلامي وبين التيارات السياسية الأخرى ذات التوجه الليبرالي والعلماني واختير رئيس توافقي يساري هو المنصف المرزوقي، وهناك حكومة مؤقتة تمثل الثورة إلى حد كبير، والجيش حمى الشعب من أوامر بن علي ولم يقتل المتظاهرين ثم ترك السياسة لأهلها وعاد إلى ثكناته، ولكن للأسف الشديد رأيت تونس وقد تركها الدكتاتور بيت على أرضٍ محروقة على مستوى الإنسان والبنيان.
كان همي هو الإنسان التونسي الذي بدأ شرارة الثورات العربية التي لم تتوقف حتى الآن، ما الذي دفعه لأن يثور؟، وكيف حاله الآن بعد الثورة؟ وفيم يفكر؟ وإلام يتطلع؟. لقد وصلت إلى تونس عبر رحلة نصفها جوي ونصفها بحري انطلقت من روما ثم نابولي ثم باليرما في إيطاليا لكي تحط الباخرة العملاقة MSC على شاطئ تونس لندخل قرية جولييت، وهنا تبدأ الصدمة الحضارية حيث تقارن العين بين ما رأته في إيطاليا من انتعاش وحيوية وتطلع واضح نحو المستقبل وبناء منظم وواعد للحياة إلى قرية عربية صحيح يبدو فيها بعض الجمال ممثلا في اللون الأبيض وبساطة البيوت، ولكن كثير منها يبدو متهالكا فقيرا شاكيا ظلم الدكتاتورية والاستبداد. والناس في هذه القرية الساحلية يبدو عليهم الفقر والانكسار والذبول ووقف الحال فتراهم وقد أعياهم الزمن فظهر ذلك في صورة حركة بطيئة ورأس مثقلة بالهموم وعينين غير مطمئنتين.
بينما تبدو المحلات متواضعة للغاية والبنوك خاوية (فقد نهبها بن علي وأسرته وأسرة زوجته قبل أن يهرب إلى السعودية). وحين تنتقل من أوروبا إلى أي بلد عربي (إفريقي خاصة) تشعر أن الشريط تحول إلى العرض البطئ خاصة في حركة الناس البطيئة اليائسة المتخاذلة، على الرغم من أنه لا يفصل بين هذا وذاك إلا البحر الأبيض المتوسط، وهذا يعطيك الدلالة بين ماتفعله الديموقراطية وما تفعله الدكتاتورية بالبشر.
ووصلنا إل قرطاج حيث الفيلات والقصور الخاصة بالطبقة الغنية، وأشار مرشد الرحلة إلى أحد القصور الخاصة بابنة "بن علي" وتذكر كيف كان ممنوعا على الناس الاقتراب من دائرة واسعة محيطة بهذا القصر. ووصلنا إلى الحمامات الرومانية (حمامات أنطونيوس) الملحقة بحديقة قرطاج، وكان المكان خاويا إلا من عاملين يكنسان الحديقة بفروع الشجر مما يثير غبارا هائلا على الزائرين. وللحق فالمكان غاية في الجمال والهدوء والحمامات تحفة جمالية أثرية تستحق الزيارة، ويطل القصر الرئاسي من أعلى على الحمامات، والزائرون يصورون القصر بلا أدنى مشكلة بينما كان ذلك محظورا بشدة قبل الثورة، ويذكر التونسيون أن المنصف المرزوقي يتبرع براتبه للبلاد ويفضل أن يعيش حياة بسيطة للغاية.
وصلنا تونس العاصمة وكنت متشوقا لزيارة ساحة القصبة (المناظرة لميدان التحرير في مصر) حيث كان يتجمع المتظاهرون أثناء الثورة، وهي ساحة كبيرة ويحوطها مبنى وزارة الدفاع ومبنى رئاسة الحكومة، وقريب منها السوق الشعبي لتونس (المدينة). وتبدو وزارة الدفاع عالية الأسوار (كالعادة) يحرسها عدد قليل من الجنود، أما مبنى رئاسة الحكومة فيبدو هادئا متواضعا تحوطه الأسلاك الشائكة وتحرسه ثلاث سيارات للشرطة قديمة ومتهالكة مع مدرعتين للجيش أحدث قليلا.
عبرت كل ذلك إلى السوق (وهو أشبه بأسواق مصر في الثلاثينات من القرن الماضي) لأرى الناس فعرفت هناك لماذا ثاروا بهذه الطريقة التي فاجأت الجميع، وعرفت أن تونس حتى الآن بها آلاف مثل أبوعزيزي، فالفقر والكساد واضحين من أول وهلة تلمحهما في المحلات البسيطة والمعروضات المتواضعة والبائعين الذين يتعلقون بالمارة ويحاولون اجتذابهم للشراء دون جدوى، فالأسعار نسبيا عالية مقارنة بمصر وحتى بأوروبا، والناس في حالة ضيق بسبب هذه الحالة الاقتصادية وبسبب عدم اطمئنانهم للمستقبل على الرغم من نجاح الثورة في الإطاحة بالطاغية الذي أذلهم وأفقرهم. وكثير ممن قابلتهم هنا يكرهون بن على لأنه سرقهم، وقليلون يتحدثون عن فساده السياسي واستبداده، وكأن المواطن العربي أصبح لا يستنكر الاستبداد ولكنه يتململ حين تتأثر لقمة عيشه، وهذه أيضا إحدى ثمار الدكتاتورية المرة.
والناس في تونس يتابعون ما يحدث في مصر بدقة ويعرفون الكثير من أسماء المرشحين للرئاسة ويقارنون بين مرسي وشفيق، ويعرفون البلطجة والانفلات الأمني فالحال لديهم مشابه في تلك المسائل إذ ما زالت الشرطة محجمة عن القيام بواجباتها هربا من المشاكل والمواجهات مع الناس وإيثارا للسلامة، ومازال البلطجية يهددون حياة الناس وممتلكاتهم، وما زال هناك أعداد كبيرة من الفلول قابلت بعضهم وكان معجبا بشفيق ومتحسرا على الماضي الذي ذهب.
وفي المتحف الوطني القريب من مجلس النواب لم نرَ إلا مجموعة من لوحات الفسيفساء المعروضة على جدران المتحف الصغير والتي تعكس كلها التاريخ الروماني في تونس، ولم أر شيئا عن تاريخ تونس العربي أو الإسلامي، ويبدو أن فترة تحكم العلمانيين والمستغربين في تونس جعلتهم يصبغون المتحف بهذه الصبغة الرومانية ويخفون الجوانب العربية والإسلامية بشكل كامل ويدعو للدهشة.
وختمت الزيارة بجولة في قرية "سيدي بوسعيد" الجميلة على شاطئ البحر والتي تتميز بألوان البيوت البيضاء الناصعة وألوان الأبواب والشرفات الزرقاء، وأعتقد أن تلك الألوان وإيحاءاتها من ضمن أهم عوامل الجذب السياحي لتونس على الرغم من افتقارها للآثار والمزارات مقارنة بمصر أو أي بلد سياحي آخر.
وتبقى العبرة من الزيارة ممثلة في خريطة الإنسان المقهور والذي مازال مقهورا في مصر وتونس وربما سائر الوطن العربي من الخليج الغارق في الرفاهية إلى المحيط الغارق في الفقر، وكلهم في القهر سواء.
واقرأ أيضًا:
كوباية شاي في الميدان / ضحايا الانتهاك النفسي في ماسبيرو / مدونات مجانين فوائد انقطاع الكهرباء / عمر سليمان.. السيناريو الأسود