لكل ثورة مَقاتِلُ، فلتنظر كلُ ثورة مقاتلها. هذا المقال يصب في إطار التفكير الهادئ الذي لا يخلو من تأمل وتراكمية في الرصد والتحليل خارج السياق الملتهب للفعل الثوري المصري، عله أن يسهم -وإن بقدر ضئيل- في نقل الرؤية من حيز الأشجار والأغصان إلى موضع الغابة وآفاقها القريبة والبعيدة، على حد سواء.
ومن زاوية الراصد "البراني" للثورة المصرية الاستثنائية، أتحسس ثلاثة أسباب يمكن أن تستحيل إلى مقاتل لهذه الثورة، وهي تحمل دروسًا -بالإشهار والإضمار- يمكن أن يفاد منها في تجنيب الثورة أكبر قدر ممكن من الخسائر والهدر والإنهاك. وأنا هنا أنبه إلى أن مساقات تلك المقاتل التي سأوردها هي مساقات عامة، ولذا فهي لا تختص بالثورة المصرية، ولكن الاختيار وقع عليها كجانب تطبيقي فقط، ولعلي أوجزها في عناوين كبيرة، كما يلي:
تسقط ثورة تقفز على مبادئها وأهدافها
مبادئ الثورة وأهدافها تنبع بشكل رئيس من الجواب "القاطع" عن سؤال "لماذا ثار الناس؟"، ومن ثم فهي تتواشج مع الحرية والعدالة الاجتماعية والنهضة ومجابهة الفساد والعطالة بكل أنواعها واستعادة الثروات المنهوبة عبر القنوات القانونية والحقوقية، وهذا يستلزم -ضمن أشياء كثيرة- عدم التناحر الفكري والسياسي داخل معسكر الثورة حول مسألة "هوية الجمهورية المصرية الثانية"، الأمر الذي يدفع بسرعة إقرار اللجنة التأسيسية للدستور على نحو يمنح تمثيلاً عادلاً لكافة الشرائح من جهة، ويخفف من حدة "المخاوف المشروعة" -وربما المتزايدة- من هيمنة الأغلبية الحالية في البرلمان على تلك اللجنة من جهة ثانية.
إن أي طيف سياسي أو فكري يجر الفعل الثوري بعيدًا عن تلك المبادئ والأهداف، فليعلم أنه إنما يحقن الثورة بمواد سامة تشبه سمية "الثورة المضادة" لا من حيث نواياها وبواعثها بل من حيث أثرها وانعكاساتها، وهذا يعني وجوب التلبس بالعقلانية السياسية والفكرية التي تتجاوز "طفولة الأدلجة" و"مراهقة الرهانات" و"شيخوخة الولاءات". وهذا لا يتحقق إلا بالممارسة العملية، لا بالكلام العاري من الأدلة والتضحيات والقدوات الحقيقية.
تخفق ثورة تحرق مراحلها ورموزها
ثمة أمر آخر يكمل "الرشد الثوري" في التعاطي مع مبادئ الثورة وأهدافها، وهو متعلق بـ"مراحل الثورة"، وذلك أننا نشهد خطابات سياسية وشعبية تصور لنا أن الثورة مطالبة لا ببناء دولة بل بتشييد "يوتوبيا مصرية" تبهر العالم بأجمعه، وتتوسل تلك الخطابات بـ"النفخ السيكولوجي" المبالغ فيه، كما أنها تلوذ بتفكير رغبوي مسطّح من شأنه تخدير "العقلانية الواقعية" والنسف غير المبرر لـ"تراكمية الدولة العميقة" بقذائف عاطفية، كلامًا أو احتجاجًا.
ومن غير السائغ أيضا ما تشهده الساحة المصرية في بعض الأحيان من تجاوزات غير مقبولة على رموز الثورة وصناعها، فالاختلاف لا يفسد للثورة غاية، خاصة في المسائل المعقدة المتشابكة. ومن المسائل التي أرى أنها تعالج بشكل غير دقيق في الثورة المصرية ما يتعلق بديناميكية الثورة، حيث نشهد مبالغة مفرطة في تقرير "تلقائية الثورة وعفويتها"، مع ما يصاحب ذلك من نفي شبه مطلق لوجود قيادات للثورة، وهذا غير مقبول إطلاقًا في ضوء العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تتضافر حقول معرفية عديدة فيها على إثبات الدور الطليعي للقيادات بشكل أو بآخر في أي تجمع إنساني، ومن ثم البرهنة على خرافة "اللاقيادة" (Leaderless) في السياق الاجتماعي.
ولذا يمكنني القول إن حرق مراحل الثورة أو رموزها لا يليق البتة بالتفكير العقلاني الواقعي الذي ينشد تحقيق أهداف الثورة في سياق يسلّم فيه بأن الفعل "الما بعد الثوري" يجب أن يكون مشدودًا بحتمية التغيير المتدرج ونواميسه، وفق منظور إستراتيجي يحدد الأولويات والمراحل الكبرى، التي أحسب أنه لا يسوغ عدم تحقيق إجماع أو ما يشبه الإجماع حولها، إذ ليس صحيحًا البتة القول إن مثل تلك المسائل تخضع لوجهات النظر، وذلك أنها تمثل البوصلة التي تحدد "الوجهة الثورية"، كي يتم رسم الخريطة وتصنيع القاطرة للانطلاق نحو الفعل والبناء. وكل ما سبق، يجعلني أقرر أن الفعل الثوري بأمس الحاجة إلى التأكيد على ضوابط عامة للفعل الاحتجاجي، وذلك أن تروس الإنتاجية والخدمات والمصالح العامة يجب ألا تتوقف، على أن تستهدف تلك الضوابط تضييق الخناق على "المطالب الفئوية" بكافة أنواعها، فعربة الثورة لن تتمكن من تغذية سيرها ما لم تؤمَّن لها جادة قاصدة.
وفي إطار التحليل السابق، يمكننا إدراك أنه قد حدث تأخر كبير في أشياء كثيرة، ومنها على سبيل المثال: إقرار قانون العزل، والمطالبة بتغيير النائب العام ومن يرتبط بعمله من طواقم. ويتخلق هاهنا سؤال ملح وخطير: وما الأشياء الكبيرة المماثلة التي يلزم الشروع فيها الآن كي لا تنضم إلى قائمة المسائل المتأخرة؟ وأعيد التذكير هنا بأن الثورة المصرية غير مطالبة بصناعة يوتوبيا، لا في الداخل المصري ولا في السياسة الخارجية، كما أنها لا تطيق قفز أو حرق المراحل، فالله الله إذن بـ "الطموح المعقلن"، الذي يضيق "فجوة التوقعات الثورية" ويصنع "منصة الانطلاق" للنضال البنائي النهضوي.
لا تفلح ثورة تفشل في تسمية أشيائها
لماذا تفشل؟ لأن تسمية الأشياء بدقة وعقلانية خيط لإحكام السيطرة عليها والتحكم بها، والثورة التي لا تبرع في تسمية أشيائها ستفقد البوصلة ولن تكون قادرة على رسم خريطة كاملة فضلاً عن تصنيع قاطرة تعبر بها المراحل الأولى الحرجة، ولقد سبق لي بسط ذلك في مقال سابق (الجزيرة نت، 16/8/2011)، ولقد أشدت في ذلك المقال بمصطلح "الثورة المضادة"، وذلك أنه مصطلح ذكي فعال بامتياز، فهو دقيق من جهة، وتعبوي من جهة ثانية.
كما أنه يصنع نوعًا من الحماية الذاتية من جهة ثالثة، والردع من جهة رابعة، بالإضافة إلى كونه يؤسس تحذيرًا دائمًا من أخطار "الثورة المضادة"، وكل ذلك يعيّش الفريقَ الآخر حالة من الرعب النفسي والهلع القانوني، وربما القطيعة الاجتماعية والمهنية، وهذه مكاسب كبيرة تحققت من جراء شيء واحد تمثل في البراعة في تسمية الأشياء.
ولكنني هنا أشدد القول على أن ثمة فشلاً بيّنًا في تسمية أشياء مفصلية عديدة، مما أربك الفعل الثوري طيلة الفترات الماضية، ويمكن أن يرقى لكونه أحد مقاتل الثورة المصرية، ومن تلك الأشياء التي لم يبرع الفعل الثوري في تسميتها ما يطلق عليه "الفلول". أنا هنا لا أعارض استخدامه، وذلك أنه يحمل دلالات تكمل المنظومة الدلالية لـ"الثورة المضادة"، ولكن الخطورة تكمن في عدم تقديم معالم أو حدود أو سمات واضحة لـ"الفلول" ومن يدخل ومن لا يدخل فيها، ومعلوم أننا في البحث العلمي نطالب بما يسمى بـ"التعريف الإجرائي" للمفهوم كي نسيطر عليه ونخضعه للقياس الكمي والاستكشاف النوعي.
هذا أمر مسلم علميًّا، ولم لا يكون مسلمًا به أيضا في سياقات الفعل الثوري؟ فحين يتم ترديد كلمة "فلول" دون ضبط دلالي دقيق، فإنه يحيل هذه الكلمة على أحسن الأحوال إلى كلام مرسل مهلهل لا دليل عليه أو لغو لا قيمة له أو حتى شتيمة مسيسة أو مؤدلجة.
إذن، يجب ضبط هذه الكلمة، ولعلي أقدم تعريفا مبدئيا عامًّا لها، حيث يمكن تعريف الفلول بأنهم "الفئة المتورطة فعليًّا بجرائم مرتبطة بالنظام السابق أو بمناصرته على نحو مشفوع بأدلة قانونية"، وهذا يعني أن تسمية الأشياء بدقة تحقق فعالية وعدالة وذكاءً وعقلانية في التعامل مع ملف "الفلول" وفق منظور يراعي طبيعة المراحل الأولى وخطورتها، وكل ذلك يتطلب دقة في عملية تصنيف "الفلول" وفق الاعتبارات المختلفة، فمثلا يمكن التصنيف بحسب الأنواع إلى: "فلول جرائم" (قتل، فساد...)، و"فلول مناصرة"، ويمكن تصنيف الفلول بحسب الخطورة إلى: "فلول عميقة" (تنتمي للدولة العميقة) و"فلول سطحية"، وبحسب المجال إلى: "فلول سياسية" و"فلول اقتصادية" و"فلول إعلامية" ونحو ذلك.
وليس ثمة ما يمنع الدفع باتجاه إصدار تشريعات واضحة في هذا الصدد تتكامل مع "قانون العزل" وتقويه، لاسيما أن "الشرعية الثورية" تعد مصدرًا ملهمًا ومغذيًّا للبعد التشريعي والمؤسسي في هذه المرحلة التأسيسية. وإن تعذرت التشريعات، فلا أقل من الظفر بالتسميات الدقيقة حيال المسائل المفصلية الخطيرة، ومنها: "استمرار الثورة" أو "الثورة مستمرة"، ماذا يعني ذلك بالضبط؟ ما دلالات "استمرار الثورة/الثورة مستمرة" وما ضوابطه وما استحقاقاته؟
خمسة أسئلة حرجة للثورة المصرية
1-كيف يمكن للثورة المصرية الكبيرة إحداث مزج ذكي متوازن بين الزخم والإلهام الثوري (=فخامة الشعب) من جهة، والرشد والبناء العقلاني الواقعي (=فخامة الرئيس) من جهة ثانية وفق منظور إستراتيجي طويل (عشر سنوات)؟
2- هل تستطيع الثورة المصرية أن ترسم نهج تغيير ثوري بنائي تدريجي متسم بالطموح والعقلانية والواقعية في آن واحد وفق منظور إستراتيجي طويل (عشر سنوات)؟
3- هل يمكن لهذه الثورة أن تعد خطة إستراتيجية شاملة تعنى بإشكالية "تفكيك وإدماج الفلول" وفق منظور إستراتيجي طويل (عشر سنوات)؟
4- ألا تستحق مسألة الثروات المنهوبة خطة إستراتيجية محكمة تضمن استعادة أكبر قدر ممكن منها، سواء ما هُرِّب إلى الخارج وما بقي في الداخل وفق منظور إستراتيجي متوسط (خمس سنوات)؟
5- أجزم بأن ثمة مفكرين وباحثين ومستشارين كثرًا بوسعهم فعل ذلك الأمر وفق أعلى المعايير المنهجية والمهنية، فهل تتاح الفرصة لهم؟
وأخيرًا: لتدرك أي ثورة أن اتساع "فجوة التوقعات الثورية" مربك للفعل الثوري البنائي، بل مجهض له، وتضييق تلك الفجوة يقع دائمًا على عاتق قيادات الثورة وعقلائها، فلا تحملنّ رحمكم الله الثورة ما لا تطيق!
نقلاً عن: موقع الجزيرة
واقرأ أيضاً:
قراءة نفسية في ملحمة الأمل المصرية / ماذا لو زُورت الانتخابات لصالح شفيق؟ / دولة الإخوان في مصر وصعود الإسلاميين