اربة ثنائية (سني – علوي) المسألة الطائفية في النظام السوري
كان حافظ الأسد أول علوي من رموز السلطة الحزبية العسكرية (المتنوعة الأصول الاجتماعية) تجرأ على ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بينما اكتفى نظيراه محمد عمران وصلاح جديد بالوقوف خلف رئيس سني للدولة. وكان عند حافظ الأسد مشروع انقلابي لديكتاتور واضح في سياقق تاريخي متصل مع مشاريع مماثلة متزامنة في أكثر من بلد عربي (العراق والجزائر واليمن..) وتمت هذه الانقلابات بنفس الطريقة (الرجل الثاني يطيح بالرجل الأول كحركة تصحيحية).. ومعظم هذه الأنظمة سارت بنفس الطريق لتصل بالاستبداد والفساد إلى محاولة توريث الجمهورية للعائلة الحاكمة، ولكن كانت مشكلة حافظ الأسد أنه علوي وأن عائلته ستكون علوية بالضرورة.
لم يتطرق الديكتاتور أبداً بصراحة إلى هذه المشكلة بل تعامل معها دائماً بخبث ودهاء ووظفها سياسياً، فالدستور السوري ينص على أن دين رئيس الدولة الإسلام ولا يحدد الدستور طائفة الرئيس الإسلامية ولكن الرئيس كان كعرف متفق عليه ضمناً أو صراحة دائماً سنياً (كلمة إسلام في اللغة السورية الدارجة تتطابق مع السنة)، وبدل أن يطرح هذه المسألة بشفافية للتداول ناور كعادته حيث سرب لحزب البعث والأحزاب غير الإسلامية القومية واليسارية عن النية بتغيير الدستور كي يتم حذف فقرة دين رئيس الدولة من الدستور كاتجاه علماني! وحدثت أزمة الدستور المعروفة وكان مسرحها حماه وقالها له صراحة بعض مشايخ حماه “أنت ما بتركب رئيس دولة”.. كانت هناك معارك في السر ولكن ما خرج منها للعلن كان مزيفاًً كنقاش سياسي وقانوني دستوري، وقد تكررت هذه الازدواجية في التعامل مع قضايا جوهرية في مناسبات كثيرة فيما بعد وهذا ما أتاح الفرصةة للكثيرين في النظام والمعارضة للتفسير الطائفي دائماً (وحتى المؤامراتي) لبعض الأحداث واستثمارها سياسياً.
حدثت مساومة غير معلنة (وهمية): النظام يبقي على فقرة دين رئيس الدولة في الدستور الجديد مقابل القبول الضمني أن يكون رئيس الدولة علوياً ومن هنا جاء المثل المشهور في سورية عند السنة “فتاها كفتارو” حيث كان عبد الستار السيد وكفتارو (وأتى بعدهم كثيرون) ممن لم يوافقواا فقط على الرئيس بل وافقوا أيضاً على سيطرة عائلة الرئيس نفسها ومهدوا لفكرة التوريث أيضاً.
اغتال النظام محمد عمران في لبنان (ربما أول اغتيال سياسي لنظام الأسد) وسجن صلاح جديد ورفاقه حتى توفوا في السجن.. كان لدى حافظ الأسد مشروع كبير كديكتاتور فكرس في سورية عبادة الشخصية على الطريقة الأوربية الشرقية والكورية الشمالية ومارس سياسة خارجية ماكرةة تظهر سورية كقوة رئيسية في المنطقة، ولكن سياسته الداخلية قضت على المجتمع المدني قبل أن تقضي على السياسة وأشاعت الفساد وحولت الدولة السورية إلى دولة فاشلة يحكمها نظام أمني لعله “النجاح” الوحيد له حتى الآن على الأقل.
تلاعب النظام السوري بكل مكونات المجتمع السوري المتنوعة لصالح بقائه واستمراره فقط، فماذا فعل بالطائفة العلوية؟
لا توجد عند العلويين غرفة خاصة في المحاكم الشرعية بل هم يتعاملون كالسنة في قانون الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث..)، ولا يوجد أي شكل من أشكال التضامن الطائفي الأهلي مثل الصناديق الخيرية الحصرية بهم، وكانت العلاقة بالمسئولين علاقة شخصية تتبع أشكالاً مختلفة نابعة من المصالح المتبادلة والولاءات العائلية أو العشائرية الضيقة وكثيراً ما يشتكي البعض (على عكس ما يتصور السائد) أن المسئولين من هذه الطائفةة كانوا يساعدون الآخرين من غير طائفتهم أكثر منهم (يحابون من يدفع أكثر مثلاً أو بسبب عدم الرغبة في الدخول في مسائل الرشى مع أقرباء ومعارف قد يتكلمون عليهم). العلويون أكثر طائفة منفتحة اجتماعياً نسبياً كأفراد في سورية وفيها أكثر الزيجات المختلطة دينياً وقومياً. ولذلك كله كان استثمار النظام لها طائفياً معتمداً بشكل كبير على التلاعب بالمزاج الشعبي العمومي بالدعاية والألعاب الأمنية، وقد مورست بهذا الصدد أكثر الألعاب الأمنية والدعائية دهاءً منذ بداية الثورة حتى الآن.
قبل الثورة بكثير تلاعب الأسد الأب بالخيال الشعبي العلوي دائماً فصلاته العلنية كانت صلاة السنة مع أن العلويين إذا أرادوا الصلاة الظاهرية صلوا صلاة الشيعة ولم يقل علناً بوضوح: هل تسنن؟ أم أنه يمارس طقساً واجباً كرئيس للدولة؟ فلماذا لا يصلي بطريقة الشيعة إذن؟..(سئل أحد المشايخ المقربين من عائلة الأسد عن تدين حافظ الأسد فأكد بأنه بعد أن صار رئيساً لم يصل مرة الصلاة العلوية الباطنية)، وقد أظهر رفعت الأسد نفسه دائماً للطائفة على الأقل كعلوي كنوع من توازن مع أخيه، في حين تمشيخ جميل الأسد وأسس جمعية المرتضى واستقطب الزعران من كل الطوائف والقوميات، وبنفس الوقت طلب شيئاً شبيهاً بالمبايعة من مشايخ علويين ولكن الكثير منهم رفض بصمت وكرامة شخصية، كما تم غض الطرف عن ظاهرة الشبيحة من العائلة الأسدية ومن لف حولها قبل الثورة بكثير مع تدخلات مختلفة أحياناً من قبل حافظ أو باسل أو بشار حين تجاوزت الأمور حد السيطرة خصوصاً في قضايا التهريب والفساد المالي كنوع من الضبط.
لقد كان واضحاً الاستثمار الطائفي السياسي في سلوك العائلة الحاكمة أو المالكة في المحن الوطنية الكبرى مثل أحداث الثمانينات حين زج رفعت الأسد بسرايا الدفاع (ذات الصبغة الطائفية) في حماه في البداية ولكنها أثبتت فشلها (بعد أن تركت شرخاً طائفياً كان مقصوداً) لتعود الوحداتت الخاصة (المختلطة اجتماعياً) وقائدها علي حيدر “فتحسم” الأمر. ومن وقتها برز نجم علي حيدر ودخل في الصراع على السلطة (حين مرض الديكتاتور) بمواجهة رفعت الأسد، ثم أقصي فيما بعد إثر معارضته إعداد باسل للوراثة.
وكرر رفعت الأسد فعله المقصود في مجزرة سجن تدمر فبعض الأفعال لا يمكن تنفيذها إلا من قبل أضيق حلقة من الموالين الشخصيين. لقد اختطفت هذه الأحداث الشعور الجمعي عند العلويين ووضعتهم في صورة لا يحسدون عليها، ومن الملاحظ الحجم الكبير للعائلات العلوية التي كانت تسكن مدناً مثل حمص وحماه وحلب وإدلب والتي غيرت إقامتها نهائياً وعادت لتسكن بشكل دائم في الجبال والمدن الساحلية بعد أحداث الثمانينات رغم عدم وجود أي ضغوط خارجية مادية عليها وإنما بسبب مشاعر متوهمة من الشعور بالذنب وعدم الأمان من المستقبل، وهذه إحدى الظواهر التي لم تدرس في التاريخ الحديث لسورية، ويتوقع تكرارها على نطاق أوسع بعد سقوط النظام.
في السنوات الأخيرة من حياة الديكتاتور سمحت الرقابة الصارمة في الدراما التلفزيونية بانتقاد المخابرات السورية في مسلسلات شهيرة مثل مرايا وبقعة ضوء، كما سمحت الرقابة الصارمة بالربط بين اللهجة العلوية وعناصر الأمن في هذه المسلسلات، لم يتم هذا الأمر من قبل دولة علمانية تؤسس لمجتمع مدني ناضج، بل تم الأمر من قبل نظام بوجهين يحاول استثمار الطوائف سياسياً بشكل مكشوف ووقح، وقد تم السماح بعروض جماهيرية لأفلام عبد اللطيف عبد الحميد السينمائية التي تتحدث عن الحياة الاجتماعية في القرى الساحلية باللهجة المحلية في حين منعت أفلام مماثلة لأسامة محمد من العروض الجماهيرية بسبب احتوائها على نقد جوهري لطبيعة النظام السياسي المركبة (ولم يمانع النظام المنافق في اشتراك الأفلام الممنوعة في سورية في المهرجانات الدولية كي تحصد الجوائز ليظهر للغير بمظهر النظام المنفتح الديمقراطي!).
لماذا أوصى حافظ الأسد بدفنه في القرداحة بدلاً من دمشق بعد كل السنوات الثلاثين من حكمه وبعد كل ما عمله إعلامه الرسمي الذي أراد تكريسه كقائد قومي فذ لا يتكرر؟ لقد كان يعرف طوال الوقت ما عمل على تكريسه واستثماره في سياسته الداخلية، ولم تكن تساوره الأوهام أبداً في هذاا الخصوص بل لا بد أنه أحس في كوابيسه بأن يوماً ما سيأتي مثل أيام الثورة الحالية التي لم ترحم صوره أو تماثيله أو روحه نفسها. كان يعرف أنهه ديكتاتور مكروه لألف سبب غير أنه علوي، وعودته ميتاً إلى بلده لم يكن عودة إلى طائفته بقدر ما كان هروباً من أعدائه الكثر، ورغم ذلك كله جرى استثمار ضريحه سياسياً بشكل طائفي من قبل ورثته في لعبة لن تنتهي إلا بقيام نظام جديد مدني ديموقراطي.
تابع بشار الأسد لعبة الأب فقد ظهر ارتباكه في أوائل صلواته “السنية ظاهرياً” المصورة تلفزيونياً وسوّق له دينياً البوطي وأبناء عبد الستار السيد وحسون وحبش والقبيسيات، وحتى آخر لحظة كان سيتزوج فتاة شيعية ولكنه حسم الأمر بزواجه من سنية هو وأخوه ماهر كذلك في زيجاتت سياسية واقتصادية واجتماعية محسوبة تماماً على طريقة العائلات المالكة.
منذ بداية المظاهرات بدرعا سارع النظام في إعلامه لبث دعاية عن وقوف دعاة الإمارات الإسلامية والسلفية الجهادية وراءها، كما كانت ومازالت الرواية المسربة الشفهية الموجهة من النظام لمناطق العلويين أن هذه الثورة مذهبية، وجرى تحشيد بعض العلويين في بعض المناطق ضد المتظاهرين بشكل اجتماعي دون بنى حزبية أو نقابية أو منظمات سياسية (كما حدث في الثمانينات) حتى يتم اختطاف بقية الطائفة نفسياً بحيثث يشعرون بأنهم بعد سقوط النظام لن يبقى لهم مكان للإقامة في هذه القرى أو البلدات أو المدن، واستمرت اللعبة المزدوجة للنظام في الاستثمارر الطائفي السياسي بأشكال مختلفة، وظهر بعض المعارضين الجدد والقدامى أيضاً ليعزفوا على نفس اللحن القديم المتجدد.