اقتلاع الأنظمة المستبدة، يعني ولادة شعب وأمة على تربة جديدة وفي فضاء آخر. وما أصاب المجتمع العربي الثائر، أنه كان في قِدور الأنظمة الفردية ذات الضغط العالي، وكان يفور بداخلها، وعندما تحقق الانفجار الأعظم وانطلق الشعب من قدره الحامي، تناثرت طاقاته في جميع الاتجاهات والهيئات والأشكال.
وبسبب ذلك راحت آليات التكتل والتجمع والتحزب والتمحور حول حالة ما أو تصور معين تستقطب الناس، وأصبحنا أمام شعب من الكتل والأحزاب والطوائف والمدارس وغيرها من التنوعات.
والدافع إلى ذلك هو الحاجة للشعور بالقوة والأمان، بعد أن غاب الغطاء الضاغط والفاعل في جميع عناصر المكان.
ولهذا رأينا الميل المتنامي نحو التعددية وتقاسم السلطة والتفاعل الحاد والسلبي ما بين أبناء الشعب الواحد.
فكان ذلك مريرا وقاسيا وداميا وصعبا، وما وعينا بأن علينا أن نحقق الوفاق الوطني ونؤسس لملامح الوعاء الوطني اللازم لاستيعابنا جميعا قبل أن نتحرك خارجه.
فالشعوب لا يمكنها أن تكون وتتقدم إذا حطمت وعاءها وأنكرت عقدها الوطني الاجتماعي الفريد، فبدون هذا العقد لا يمكن للمجتمع أن يعرف إلى أين المسير.
وتونس هي الدولة العربية الرائدة التي وضعت خطواتها في الطريق الأصوب، لأنها عززت الوعاء الوطني وكتبت العقد الاجتماعي وتحركت ضمن الهوية التونسية أولا والوطن أولا، ومن ثم تعاملت مع الأحزاب والكتل والتجمعات والنشاطات الأخرى بأنواعها.
بينما انحرفت غيرها وتخبطت وتعثرت ودخلت في نفق لا تعرف نهايته وتداعياته لكنه دامي ومروع.
وبعضها أعطت الدليل على فشل تقديم التعددية على الوفاق الوطني أو الوعاء الإنساني الوطني الضامن لجميع التنوعات فيه، فعقيدة المحاصصة مثلا قد حولت البعض إلى كتل متصارعة في وحل الاضطرابات والتداعيات المكلفة.
ولكي تكون الثورات العربية ذات مردود إيجابي وحضاري مهم، عليها أن تدرك أولوياتها، وتحقق الوفاق الوطني ويكون الوطن أولا هو منهجها، وبعد أن تؤسس معالم الصيرورة الوطنية الراجحة الراسخة، يكون من حقها أن تتفاعل وتتناقش بإرادة الأحزاب والكتل والتجمعات ضمن ذلك الإطار الوطني المتين.
أما إذا انطلقت في نشاطات التعددية أولا، فإنها ستؤدي إلى انهيارات اجتماعية واقتصادية وانقسامات وحروب أهلية، وصراعات على الكراسي لا يجني منها الشعب إلا الخسران، ولا يصيب الوطن منها إلا الدمار والتأخر والتناحر والبُطلان.
18\2\2012
أقرا أيضا:
قراءة نفسية في ملحمة الأمل المصرية / الإنهاك النفسي وحالة الخرف الحضاري / ديناميكية انهيار الطغاة..! / نظـرة في الطغيـان