لا شك أن عالم الاتصالات بين البشر قد تغير. ربما سيبدأ العالم في وضع القواعد واللوائح القانونية في المستقبل القريب لتنظيم، أو ربما تقييد، هذه الاتصالات، ولكنه لن يكون قادراً على التراجع إلى الوراء ومنع أو حجب التواصل بين البشر عبر عالم الفضاء...... في مقال سابق تطرقت إلى التشخيصات الطب نفسية التي يتم تحميلها عبر الإنترنت وهي في متناول كل إنسان هذه الأيام. تولد من جراء عالم لفضاء تشخيصات مرضية متعددة في الصحة النفسية كان لها تأثيرها في صياغة وتصنيف الأمراض النفسية، وسيكون ذلك واضحاً عند صدور التصنيف العالمي الحادي العاشر والطبعة الخامسة لتصنيف الأمراض النفسية للجمعية الطب نفسية الأمريكية. كذلك لعب هذا السلوك دوره في صياغة وعي الإنسان وإدراكه لمختلف المشاكل والأمراض النفسية التي يمكن أو يتصور أنه يعاني منها، أنواع العلاج المتوفر، وأحياناً تحدي الطبيب أو المعالج النفسي عند تقديمه العلاج والرعاية النفسية..... هناك حقل خاص من مجال الصحة النفسية يتعلق بالسلوك والحياة الجنسية الذي بدأ يلعب دوره عالمياً وخاصة في تلك البقاع من العالم التي لا تتوفر فيها الثقافة الجنسية والحرية الجنسية كما هو ملاحظ في العالم الغربي وأجزاء متعددة من العالم الشرقي الأسيوي. كان من إحدى نتائج انفجار عالم الاتصالات الفضائية ازدحام الإعلام غير المراقب بشتى المعلومات التي يصعب تدقيق صحتها، ومن هذه الأمور الصحة النفس جنسية.
هذا المقال محاولة لتفسير نفوذ الإنترنت على الاستشارات النفس جنسية من الزوايا التالية:
• حرية التعبير الفردي.
• رفع درجة المعايير الفردية في السلوك الجنسي.
• البعد الديني وطرح هذا الفكر عبر الإنترنت.
• تأثير العوامل أعلاه على الفرد.
الإنترنت وحرية التعبير :
تعطي الإنترنت ومواقعها المختلفة الفرصة لكل إنسان للتعبير عن رأيه وبكل حرية. قد يكشف الفرد عن هويته وإن شاء أخفاها، وحتى بريده الإلكتروني لا يصعب تضليله وتغييره. على ضوء ذلك يشعر الإنسان بثقة شبه كاملة بأن ما يعبر عنه ويتحدث به سوف لا يعرضه لانتقاد جارح وعقوبات مدنية أو حتى جنائية. هناك الكثير من الاستشارات حول المسائل الجنسية النفسية التي تصل الى المواقع الإلكترونية1، من رجال ونساء، تتميز بكونها استثنائية في التعبير. هناك عدة تفسيرات لهذه الاستشارات:
1- قد يكون البعض منها امتدادا لنسيج الخيال الذي لا حدود له للإنسان. هذا التفسير يمكن رفضه في الغالبية العظمى من الاستشارات. جميع هذه الاستشارات تتميز بعفوية التعبير وعمق المعاناة النفسية. تلاحظ بعض التعليقات التي تنشر تؤكد أن معاناة هذا الفرد ليست بالنادرة وفي الكثير لا تصدر أي تعليقات تشكك في صدق الاستشارة.
2- التفسير الأكثر احتمالا هو أن هذه الشكاوي والاستشارات ليست بالحديثة في المجتمع العربي، ولكن طرحها على الأصحاب والأقارب أو حتى استشارة طبيب فيها كان صعباً للغاية، خوفاً من سخرية الناس وانتقاداتهم الجارحة.
لذلك يمكننا الاستنتاج بأن معظم هذه الاستشارات حقيقية أو غير زائفة، ودوماً ما ترى الرجل والمرأة يحرصان على إخفاء الهوية، ويضاف إلى ذلك أن إطار ومحتوى الاستشارة يتميزان بالعفوية والمعاناة النفسية.
معايير السلوك الجنسي عبر الإعلام الإنترنت :
يقضي الإنسان في يومنا عدة ساعات أمام شاة التلفاز وتفحص المجلات اللامعة وفحص المواقع الإلكترونية الواحدة بعد الأخرى. التلفاز يبرز الصورة قبل الخبر وبالإضافة إلى نجوم الفن والدين في يومنا هذا هناك مقدمو البرامج من رجال ونساء الذين أصبحوا المعيار الذي يقيس به الإنسان شكله وملبسه وحديثه. يضاف إلى ذلك عديد من المحطات التلفزيونية العربية الإباحية والشائعة على جميع الأقمار الصناعية. أما المجلات اللامعة فهي تتميز بسطحية المحتوى الفكري فيها وازدحامها بالصور الملونة التي لا تخلو الكثير منها من الإثارة الجنسية. هناك العشرات من هذه المجلات التي تصدر باللغة العربية، ومعظمها إن لم تكن جميعها غير صالحة للقراءة. أما الإنترنت فهي الوسيلة الوحيدة لتفحص ما تشاء من دون رقابة.
هناك العديد من المواقع الإباحية بلغات مختلفة ومنها العربية، ومن الصعب التأكد من مصدرها، التي بدأت تسطر معايير جديدة للإثارة والسلوك والمتعة الجنسية بعيدة عن الواقع. بالطبع لا يصعب الجزم من أن الغاية الأولى والأخيرة لوجود مثل هذه المواقع تجارية بحتة تستهدف الفرد الحساس سريع التأثر الذي لم يوفق إلى سد احتياجاته العاطفية والاجتماعية، ولا المجتمع الذي يعيش فيه يبالي به أو يمد يد العون إليه لسد احتياجات لا يمكن وصفها إلا بالمشروعة..... من جراء ذلك ولدت ظاهرة جديدة تعرف بالإدمان الجنسي عبر الإنترنت2 أو الفضاء Cybersex Addiction هناك العديد من الكتب التي تطرقت إلى هذا الأمر وإلى سبل علاجه. تكمن مشكلة هذه النشرات في افتقادها إلى البحوث العلمية الدقيقة واستعمالها عينات بشرية معينة، ولكنها تكشف بوضوح بأن هذا الوباء العالمي لا ينحصر في العالم العربي فقط كما يتصور البعض.
الموعظة الدينية عبر الإعلام والإنترنت :
العامل الثالث والأخير الذي يلعب دوره ويحاول التسلط والنفوذ على الإنسان وسلوكه الجنسي هو الفكر الديني. إن الوعظ الديني عبر الفضاء لا يقتصر على الدين الإسلامي فقط وإنما يشاركه في ذلك جميع الأديان السماوية وغير السماوية. لمن يتتبع القنوات الفضائية العربية سيلاحظ أن المواعظ الدينية لا تقتصر على قنوات خاصة وإنما هناك الكثير من القنوات العامة الإخبارية والترفيهية التي تتنافس على بث هذه البرامج بصورة منتظمة. أصبحت القنوات مصدراً لإطلاق الفتاوى الدينية بدون قيود، وخلقت أيضاً نجوماً ينافسون نجوم السينما والتلفاز في تأثيرهم على الرجال والنساء.كذلك هناك العديد من المنتجات الدينية الصوتية والبصرية التي يكتظ بها السوق العربي، والتنافس على أشده على شبكات الإنترنت. ما عليك إلا أن تتبع شبكة الفيس بوك الاجتماعية والتويتر لتدرك بأن عالم الفضاء أنتج العديد من رجال الدين وبمختلف الأعمار. كما هو الحال مع السيرة الشخصية لرجال ونساء الفن، فإن سلوك رجال الدين له تأثيره على العامة من الناس، وبعضها لا تخلو من الإثارة مثلا في كونه مزواجاً مطلاقاً.
يفتي الكثير من رجال الدين في مسائل السلوك الفردي الجنسي. السبب في ذلك يعود إلى أن القواعد القانونية في الأحوال المدنية والقضايا الجنائية خاضعة للسلطتين التشريعية والتنفيذية في كل قطر عربي، أما قواعد السلوك الفردي والتواصل بين الجنسين فهي خارج هذه الصلاحيات ولا تعنى السلطات بها من قريب أو بعيد. من جراء ذلك يصعب على الإنسان العربي أن يفهم قانونية وشرعية العلاقات الجنسية بين الجنسين المصاغة بإطار ديني إلى حد ما مثل زواج المسيار، زواج المتعة، والزوج العرفي. هذه العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة هي من اختصاص الفتاوى الدينية ولا أظن أنها من اختصاص السلطات المدنية في أي بلد عربي، وإن كنت غير واثقٍ من هذا.
لا يتوقف تدخل رجال الدين في أنواع الزيجات الشبه قانونية وإنما يشمل التدخل بكل ما له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسلوك الجنسي للفرد مثل زينة المرأة والرجل، ممارسة العادة السرية، والجماع بين المرأة والرجل. يتم تصويب هذه الآراء نحو الناس باستقطاب واضح لا تزيد المستلم منها إلا الارتباك..... إن علاقة السلوك الجنسي الفردي وفي المجتمع عامة مع الشرائع الدينية ليست حديثة. يمكننا أن نتفحص تاريخ هذه العلاقات بين الأديان والسلوك الجنسي بدراسة التاريخ الأوربي الحديث. في بداية القرن السادس عشر ومع بداية الانقسام الكنيسة وولادة الحركة البروتستانتية، كان المفهوم السائد أن السلطات الدينية الكاثوليكية قد فقدت سيطرتها على السلوك الاجتماعي ومواقفها من السلوك الجنسي اللاأخلاقي لم يكن متساهلاً فحسب وإنما مضللاً للرأي العام.
كان الرأي العام ينادي بضرورة إصدار أشد العقوبات الصارمة بحق كل زاني وزانية. كان التطرف على أشده من البروتستانت وتوجيهم الاتهام بعد الآخر إلى الفاتيكان حتى بدأ البعض يطلق على روما اسم عاهرة بابل3. كان الاعتقاد السائد أيامها أن من الغباء ترك اجتهاد المسائل الأخلاقية الدينية والجنسية لعامة البشر، لأنهم وإن كانوا ذوي نية حسنة فهم يفتقرون إلى ذلك البعد الروحي والفكري لتسيير أمور حياتهم. بعبارة أخرى لابد من إصدار الفتوى بعد الأخرى لتنبيه المواطن إلى محاسن الأخلاق والسلوك الجنسي. إن من يتتبع الأحداث في العالم العربي يمكنه أن يستنج بأن هذا هو الرأي السائد اجتماعيا في عصرنا هذا.
كان هذه النظرة تجاه السلوك الجنسي شائعة في الكثير من البلاد الغربية مثل هولندا وبريطانيا ولكنها تضاءلت تدريجيا مع قيام الحركات البرلمانية الأوربية وقيام القوانين المدنية. حاول الكثير إصدار القوانين لمراقبة السلوك الجنسي وإصدار العقوبات بحق المخالفين، ولكنها تدريجياً بدأت تبوء بالفشل حتى أدرك رجال السياسة أن من لم يحسن سلوكه بعد قراءة واستيعاب الكتب المقدسة، فلا أمل من يغير سلوكه رجوعاً إلى قوانين مدنية. كان عام 1746 هو الأخير الذي تم فيه إدانة مواطن ارتكب الزنا في انكلترا.
منذ تلك الهزة الأرضية التي عصفت بالعالم الغربي وما نسميه عهد التنوير، تغيرت المفاهيم وبدأت الناس تتحدث عن حرية الضمير، وبعدها بدأت الحرية الجنسية تنتشر في جميع بقاع العالم الغربي منذ القرن الثامن عشر. أصبحت مسؤولية العقاب في الآخرة على عاتق الإنسان نفسه بدون وساطة رجال الدين. لم يصل العالم العربي والإسلامي إلى هذه المرحلة بعد ولكن يجب أن ندرك بأن تعريف الحرية الشخصية بعد قيام عصر النهضة وولادة الديمقراطية الحديثة كان تعريفاً قانونياً وسياسياً. توسع هذا التعريف في بداية القرن الثامن عشر وبدأ يشمل ليس فقط الحرية الروحية والعقائدية ولكن الحرية الأخلاقية ومنها حرية السلوك الجنسي. لا أظن بأن العالم العربي لديه المناعة للتصدي لهذا الأمر مستقبلاً.
رغم ذلك فإن على عكس ما يتصور الكثير فإن السلوك الأخلاقي الجنسي في العالم الغربي ليس بالمبتذل، وإن الغلو في هذا السلوك لا تلاحظه إلا في الأقلية من السكان وليس له تأثير على أخلاقية الغالبية العظمى من المجموعات البشرية. لا أحد يعني بما يفعله الغلاة ما دام الأمر لا يمس الآخرين بسوء. أحد مظاهر هذا الغلو كان يتمثل بوجود صالات عرض سينمائية للأفلام الخلاعية، ولكن دور العرض هذه انتهى أمرها تقريباً. هناك مجلات خلاعية لا يتفحصها إلا القليل، وهناك مواقع إباحية على الإنترنت قلما يعنى بها الغالبية العظمى من الناس.
التنافر الفكري Cognitive Dissonance :
يمكن توضيح ما تم طرحه أعلاه بتفحص المخطط أعلاه. تتميز جميع العوامل أعلاه بكونها فكرية في طرحها ومحتواها. هناك الكثير من البشر الذي لديهم المقدرة بحسم هذا التنافر الفكري اعتماداً على ظروفهم الشخصية، العائلية، التعليمية والاقتصادية. ومن أهم العوامل التي تساعد في التخلص من هذا التنافر الفكري وجود شبكة اجتماعية حقيقية تساند الفرد أيام محنته. بدون وجود شبكة اجتماعية مساندة يستمر الفرد في استلام التناقضات الفكرية المتعددة ويزيد من عدد أصحابه على الإنترنت ومراسلة الشبكات المتعددة والجلوس لفترات أطول أمام شاشة التلفزيون.
يمكن تصنيف المضاعفات الناتجة من جراء التنافر الفكري أعلاه كما يلي:
1- الشعور بالتهميش الشخصي اجتماعياً.
2- ارتباك نفسي من جراء انتشار الهوية الفردية.
3- تغير في السلوك الفردي وممارسات جنسية شخصية ذات آثار سلبية على معنويات الفرد وثقته بالنفس.
4- شعوره بالانهيار معنوياً ونفسياً ويتبع ذلك احتمال تطبيب الحالة بصورة عفوية.
يستوجب على الطبيب النفساني الانتباه إلى مسألة التنافر الفكري عند صياغة الحالات أعلاه والابتعاد قدر الإمكان عن الإصرار على استعمال النموذج الطبي فقط. قد يكون للعلاج الطبي دوره لفترة زمنية محدودة ولكنه قلما يوفر الشفاء وقد يضع المريض في فخ الاعتقاد بأنه مصاب بمرض عقلي مزمن لا سبيل إلى الخروج منه.
إن التنافر الفكري في الحالات أعلاه أشبه بمنزلٍ شب فيه حريق مدمر، ومن في داخله لا يرى علامة أو سهماً يشير إلى الخروج. هذا حال الكثير من ابتلوا بالتناقضات الفكرية من مواقع دينية وإباحية وغيرها ويبدو أن الإعلام والإنترنت على رأسها هو مصدر النار التي تلتهم الفرد أحياناً.
مصادر:
1- تفحص موقع مجانين وحقل الاستشارات عام 2012.
2- انظر في كتابInternet Addiction: A handbook and Guide to Evaluation and Treatment (2010) الإشارة إلى هذا الموضوع من صفحة 113 إلى 134.
3- انظر في كتاب عام of Ireland. 1713 John Ramsay: A sermon Preached to The Protestants.
واقرأ أيضًا:
اضطراب الشخصية الحدية.... بين النظرية والممارسة/ الشخصية الحدية... تحديات التشخيص السريري/ الأبعاد النفسية لهورمون الجنس الذكري