أدخلت الثورة التكنولوجية الرقمية، والقفزة الكبرى في تطور وسائل وتقنيات الاتصال، حياة البشرية جمعاء والعالم بأسره في مسار نوعي لم تكن البشرية تتوقع الوصول إليه بالسرعة التي تمت، في ثورة مستجدة قال عنها أحدهم بأنها حضارة الموجة الثالثة، حضارة ثورة الاتصالات والمعلومات والتغيير المتسارع، والاستثمار العالي وبكفاءة متقنة، لأسلحة جديدة ومن نوع جديد..... فنحن الآن أمام اختلاط المشهد بكثير مما يسميه البعض "الفوضى والدهشة" وصدمة المستقبل في عصر السرعة..
نعيش زمن القفزات المتتالية في تطور وسائل الاتصال والتواصل عبر الشبكة الالكترونية، واتساع نطاق هطول بث الموجات الكهرومغناطيسية التي تملأ فضاء المعمورة، حيث بات سلاح الفعل الالكتروني وسيلة طاغية في فرض سطوة من يمتلك تقنياته المتطورة، وفي استخدام هذا السلاح الفعّال إلى جانب الأسلحة التقليدية وغير التقليدية التي استخدمت في حروب تطاحنت فيها المصالح الكونية للدول الكبرى في الحربين الكونيتين الأولى والثانية.
فالولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، انتقلت أيضاً في استراتيجيتها للأمن القومي، في السنوات الأخيرة، وفي خطتها للسنوات القادمة، من التركيز على محاربة أعداء تقليديين بالنسبة إليها، كـ"الإرهاب التقليدي" مثلاً وفق الخطاب السياسي الأميركي، إلى وضع خطط استيعابية لمواجهة أعداء إلكترونيين مفترضين، ومن بينهم مثلا البرامج الصينية الإلكترونية، والتي تمثل عدواً حقيقياً للولايات المتحدة في الفترة المقبلة، من وجهة نظر البنتاغون.
حيث وضعت تصورات واسعة لمدى الضرر الذي يمكن أن تتعرض له الولايات المتحدة في حرب إلكترونية قادمة، وصلت بمخيلة البعض منهم في البنتاغون إلى مستوى القول بإمكانية القضاء على الولايات المتحدة في غضون ربع ساعة فقط، عبر شل منظومات الحياة الاقتصادية فيها، وتعطيل كافة مناحي الحياة التي باتت تسيّر برامجها أنظمة مؤتمتة على الشبكة العنكبوتية.
كما أن الدولة العبرية الصهيونية، التقطت التسارع العلمي في هذا الميدان، ساعية لتحويل نفسها إلى "دولة عظمى في تطوير المنظومات المتعلقة بمجال تقنيات الاتصال وحرب المعلومات الالكترونية"، مستندة للدعم الهائل الذي تتلقاه من الولايات المتحدة والغرب في هذا المضمار، ومن التطور الجيد نسبياً لصناعاتها الالكترونية؛ "صناعة الهاي تك" وصناعة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إضافة لرصدها الأموال الهائلة للبحث العلمي بهدف تحقيق قفزات استراتيجية في هذا المجال.
وقد أفصح الكاتب الإسرائيلي عوفر شيلح عن تلك الحقيقة، في إشارته لميدان التقدم في عالم المعلومات والاتصالات الالكترونية، بقوله "إن بين التطور المتقدم، وحتى القدرة على بيع العالم حلولاً ونتائج بالمليارات في ميدان العلوم الالكترونية، وبين الحماية الناجعة للكنوز الهامة للدولة، توجد مسافة زمنية طويلة والكثير من المال".
واليوم، وعلى ضوء ذلك، فإن ثمة قراءة مختلفة لوسائل الصراع المتبادل العربي والفلسطيني مع المشروع الصهيوني في المنطقة، انطلاقاً من إمكانية استعمال التكنولوجيا المتقدمة والفضاء الالكتروني بشكل فعّال، في حروب بات فيها العقل سيد الموقف.
وانطلاقاً من المعطى إياه، تحدث وزير الحرب الصهيوني الجنرال إيهود باراك بأن أجهزة الأمن العبرية، بصدد رفع قدرات إسرائيل في مجال الحرب المعلوماتية ووضعها في صدارة الأولويات.
ونقلت عنه الإذاعة العبرية قوله في سياق مؤتمر دولي حول الحرب الالكترونية، عقد في جامعة تل أبيب، "إن العالم الحر يواجه تهديدات في هذا المجال من قبل منظمات إرهابية وأخرى إجرامية"، وأنه لم يتم بعد تطوير الوسائل الضرورية للتعامل مع هذه التهديدات المعلوماتية.
وعليه، فإن الفضاء الالكتروني وتعقيداته التكنولوجية المتسارعة، أصبح من أهم وسائل الصراع المستقبلية، القادرة على حسم جوانب كثيرة إذا استعملت بشكل جيد، وإذا ما استثمرت بشكل ناجح. ففي مختلف الاستراتيجيات العسكرية الحديثة، باتت تسود نظريات الجيوش الذكية القائمة على النوع لا الكم، وبكلام أكثر دقة؛ النوع المتخصص القائم على دعامات هضم التكنولوجيا المتقدمة، القادرة على تحقيق أعلى المكاسب بأدنى المتطلبات.
وفي هذا السياق، فإن الدولة الصهيونية تقدّمت على العرب بأشواط لافتة في مجالات التكنولوجيا، وخصوصاً تكنولوجيا الاتصالات والتكنولوجيا الرقمية، كما تمكّنت من الوصول إلى الجيل الرابع لأهم الصناعات الإلكترونية الحساسة، وبالتحديد العسكرية منها.
فإسرائيل تصرف في موازناتها السنوية على البحث العلمي، أضعاف ما ينفقه العرب مجتمعين على هذا المجال فائق الأهمية..... ومع هذا، وحتى لا نعطي حجماً كبيراً لقوة وسطوة الكيان الصهيوني في هذا المضمار، فإن إسرائيل تعتبر من الدول المتقدمة تكنولوجيا بشكل جزئي، وإذا أردنا أن نوزع الأمر بين تقدم هجومي وتقدم دفاعي، فإن المنظومة الأمنية الإسرائيلية متقدمة من ناحية هجومية وليست دفاعية.
فأجهزة المخابرات الإسرائيلية بمختلف أنواعها، تعمل جاهدة على تطوير قدرات متقدمة جداً في مجالات العمل المختلفة، إلا أنها تقف عاجزة أمام وضع خطط دفاعية وحمائية ضد الهجمات الإلكترونية المحوسبة التي تأتيها من الخارج، وخير دليل على ذلك أن هناك هجمات كبيرة تعرضت لها أنظمة الحوسبة لعدد من المرافق الحيوية في إسرائيل، من قبل هواة من الشباب العرب ممن يمتلكون "حذقاً" كبيرا في مجال المعلوماتية وبرامجها.
المصدر: صحيفة البيان الإماراتية
واقرأ أيضًا:
يا وطني الضائع يا وطني.! / في وطننا إعلام صهيوني!!! / دور الأدب الإسرائيلي في صُنع النفسية العدوانية