لم يكن بوسعنا إلا وأن نرحل عبر الذاكرة إلى هناك حيث نترجل دوما لتسكن الروح مع بقايا الوطن.. هناك عندما تنساب مشاعر الألم وفي ساعة حضور بيسان عبر رمال أريحا ووهيج القدس.. في ساعة الظهيرة وبعد شروق الشمس تكون فلسطين هي المشهد الحاضر مع حلول شهر رمضان المبارك أعاده الله علينا بالخير والبركة والإحسان..
وحيث تلك الأسلاك الشائكة وحضور وجبات الإفطار في معتقل كيتسعوت (باللغة العبرية تعني الأفاعي والعقارب) وقد أطلق علية أبناء شعبنا الفلسطيني معتقل (أنصار 3) وكان (أنصار 1) في جنوب لبنان إبان الغزو الإسرائيلي لبنان و(أنصار 2) أقيم في غزة إبان الانتفاضة الأولى وفي صحراء النقب أقامت وحدات خاصة من جيش الاحتلال الإسرائيلي (أنصار 3) لتعتقل فيه كادر الانتفاضة الأولى والنشطاء من أبناء شعبنا الفلسطيني.. وفي عام 1990 تم اعتقالي لمدة عام كامل إداريا فقام ضابط المخابرات الإسرائيلي بتسليمي أمر اعتقالي وحضرت قوة من جنود جيش الاحتلال واقتادتني إلى معتقل (أنصار 2) في مدينة غزة ومن ثم تم اقتيادنا وتحميلنا في حافلات عسكرية إسرائيلية وتم في فجر اليوم التالي نقلنا فجرا إلى معتقل (أنصار 3) ونحن مكبلين الأيدي ومعصوبي الأعين وبأسلوب همجي وقح أقل ما يمكن وصفه تم نقلنا إلى معسكر الاعتقال (أنصار 3) في صحراء النقب..
ما دعاني إلى كتابة هذه المقدمة البسيطة هو حلول شهر رمضان المبارك حيث رحلت الذاكرة إلى هناك لنعيش أروع أيام شهر رمضان المبارك حيث كان شهر رمضان في فصل الشتاء (أذكر يوما وعندما كنا نتناول طعام السحور –كان عبارة عن فول مطبوخ وكان الصحن (مكاش في لغة السجون –صحن بلاستيكي متعدد الاستخدامات) قد وضعناها على الأرض.. انهمرت الأمطار في غزارة.. كنا أنا والدكتور الحبيب أحمد اليازجي والدكتور الحبيب زياد شعث نتناول طعام السحور.. وفجأة سبحنا في المياه التي اقتحمت خيمتنا وحملت المياه صحن الفول الذي كان بحوزتنا.. وسرعان ما تبلل فراشنا ولم نأكل طعام السحور في تلك الليلة ولم ننام بعد أن انغمرت ملابسنا بالمياه وتبلل فراشنا.. في الصباح عدنا بعد توقف المطر وحرصنا على تجفيف ملابسنا وفراشنا حيث كانت الشمس ساطعة وجميلة في اليوم التالي..
ما أجمل تلك الأيام التي تكون فيها الذاكرة حية وما أجمل أيام رمضان في سجن النقب حيث كانت الذكريات حلوة ورائعة ولا يمكن لنا أن ننساها عشنا تفاصيل كثيرة داخل القضبان وبين الأسلاك الشائكة..
كنا نمضي معظم وقتنا في الصلاة والقراءة والعبادة والصوم والدعاء والتوحد مع الله سبحانه وتعالى.. فكم كانت أيامنا رائعة ونحن نمضي أيام السجن ليكون الوطن كل الوطن حاضرا وبصمت في وجدان الكل منا..
كان همنا الأول هو الانتفاضة واستمرارها وبقائها وتوجيه ضربات قوية متتالية للاحتلال الإسرائيلي حيث كانت الانتفاضة الأولى والتي ساهمت فيما بعد بتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة ونتج عنها توقيع اتفاقيات السلام..
إننا في شهر رمضان المبارك وفي سجون الاحتلال حيث أمضيت خمس سنوات رهن الاعتقال في (سجن غزة وسجن عسقلان وسجن أنصار 3) كان له مذاق آخر حيث أن الأسرى يستقبلون رمضان نفسيًّا بفرحة؛ نظرًا لأنه شهر الصوم والتقرب لله تعالى إلا أنهم من النواحي المادية فهم يفتقدون لأبسط الأشياء التي يحتاجونها خاصة التي تتعلق بالطعام.
وأذكر هنا أننا كنا نتمنى وجود التمر في شهر رمضان حيث أن التمر كثير من الوقت يكاد ينتهي شهر رمضان المبارك دون تواجده بين أيدي الأسرى وربما يحرم الأسير من تناوله بالمطلق.
وإن الطعام الذي يقدم من قبل إدارة سجون الاحتلال لا يناسبهم بالمطلق.. ولا يلبي حاجة الإنسان الصائم.
وفي هذا اليوم الفضيل ونحن نقف على أبواب شهر رمضان لازلت أعيش معاناة الأسرى في شهر رمضان المبارك ولا يمكن فصل حياتي عن معاناة إخواننا في سجون الاحتلال وإن أهم المشاكل التي يواجهها الأسرى بعدم وجود (كنتينا) أي سوق في داخل الأسر وإن وجد تكون الأصناف غالية الثمن ورديئة النوعية من حيث الفائدة.. وهذا يجعل الأسرى يشترون الطعام من (الكنتينا) التي تعد غالية الثمن وتفتقد لكثير من الأشياء حيث ما يتوفر فيها يكون إما أشياء غير مهمة، أو قد اقتربت من الانتهاء أو لا تجد ترويجًا لها بالخارج ومع ذلك تباع بأسعار غالية للأسرى.
حياة لها طعم آخر.. عشناها ويعايشها معنا شعبنا الفلسطيني حيث لا مكان لنا إلا وأن نكون صامدين غير مبالين بالاحتلال ونتائج تلك التجربة المريرة التي نعيش معها ولا يمكن للذاكرة أن تنساها وإن ما دفعني للعودة بالذاكرة هو مقالي في (صحيفة الشعب الجزائرية -صوت الأسير) حيث كان من واجبي أن أكتب عن معاناة زملاء الأسر وأن أسجل ولو بعض القليل من تلك الحياة الرمضانية المباركة خلف الأسر لنقف أمام واقع يعيشه الآن إخواننا الأسرى في سجون الاحتلال بشكل مستمر حيث معاناتهم وحرمانهم من أبسط حقوق شهر رمضان المبارك وحتى حرمانهم من أداء الصلاة بشكل جماعي حيث ترفض سلطات الاحتلال فتح مسجد بداخل المعتقلات وتمنع الأسرى من أداء الصلاة وتلاوة القرآن الكريم وإقامة حلقات الاحتفالات بالمناسبة الكريمة والعظيمة على أمتنا الإسلامية..
إننا وفي شهر رمضان المبارك ندعو الله أن يكون إطلاق سراح أسرانا الأبطال قريبا وندعو إخواننا إلى الدعاء لأسرانا وتعزيز صمودهم في مواجهة المحتل الغاصب.. وإن النصر لقريب والحرية لأسرانا الأبطال في سجون الاحتلال..
واقرأ أيضًا:
يا وطني الضائع يا وطني.! / في وطننا إعلام صهيوني!!! / دور الأدب الإسرائيلي في صُنع النفسية العدوانية / إسرائيل وحرب «السايبر» / لماذا يدفع العربي الأموال لإسرائيل؟ / الأيدي المطهمة بالدم اليهودي