منذ بداية الأحداث المريرة في سورية، وفئة من الناس –في شتى بقاع الأرض- بدأ الشك يساورها، ويعتمل في صدرها، مع شيء من الاعتراض والتأفف...
تقول: لو كان صحيحًا أن الله تعالى تكفل بالشام وأهلها، فلماذا يجري فيها ما يجري؟ ولماذا نزل ذلك البلاء العظيم بأهلها؟
هذا التشكك أثار قلقي، خوفًا على إيمان من دخل صدره، وما زالت تلح عليّ فكرة الكتابة في هذا الأمر وبيانه، فقد زُلْزِل الناسُ، وكلنا يحتاج إلى دعم وتثبيت...
لكن كان يعيقني عن الكتابة تسارع الأحداث، واشتدادها، فكلما تأقلمت النفس مع نوع من المآسي، واستطاعت أداء الواجبات رغم وجودها، احتدمت الأمور وانهالت علينا أنواع جديدة من الفظائع، والمفاجآت المرعبة...
وحينها يتوقف العقل، وينعقد اللسان..، ووداعًا لكل عمل مفيد...
وحيث شعرت الآن برغبتي، وقدرتي على الكتابة، قلت أسارع إليها قبل أن يتغير الحال، ودوام الحال لساعة هذه الأيام من المحال!!
إن اللَّبس عند من يسأل عن تناقض ما اختص الله به الشام من خصائص، مع ما يجري فيها من فظائع، يكمن في تصوره لمعنى تلك الخصائص، فليس المراد بالتكفل، والبركة في الحديث ما يتخيله الناس من رغد العيش في الدنيا، فما كان للحياة الدنيا قيمة في يوم من الأيام إلا بمقدار ما تكون مزرعة للآخرة التي هي خير وأبقى..
فالمدينة المنورة على شرفها وقدرها وبركتها، فيها من الشدة والمشقة ما يجعل لمن صبر على ذلك من ساكنيها الأجر العظيم، فعنْ أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لاَ يَصْبِرُ عَلَى لأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي، إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ شَهِيدًا». [رواه مسلم، واللأواء: الشدة والجوع]
فالشدة الدنيوية لا تنافي الفضل، لأن المراد الفضل المتعلق بالدين وبالآخرة.
ولو قرأنا التاريخ، لوجدنا أن الكفالة الربانية ظاهرة أيما ظهور في شامنا الحبيبة، فهذه الأندلس زالت عن ملك المسلمين، وتضائل الدين فيها، لهجمة أتت عليها في يوم من أيامها...، لكن الشام نال البلاء منها على مرّ العصور، وقصدها كل ماكر وحاقد، وسعى لمحو الدين فيها كلَّ ساعٍ، والدين فيها قائم، يقصدها الطلاب من كل حدب وصوب لأخذ القرآن والعلم الشرعي الصافي...
فمن يقرأ عن التتار وما أفسدوا، وعن تيمورلنك وطغيانه، حرق دمشق وحلب وغيرهما فلم يبق منهم باقية، ويقال أنه في سبعة أيام لم يبق في دمشق عذراء واحدة، لما فعل جنده ورجاله...، إلى الحملات الصليبية، إلى الاستعمار الحديث الذي اكتسح بلاد العرب، إلى مكر الكفار في الليل والنهار!!
ومع هذا، يبقى المسلمون ويبارك الله في نسلهم ودينهم، ويبقى عمود القرآن في الشام كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم...
والشام أرض الرباط، لا يزال فيها أناس قائمون على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمرُ الله وهم على ذلك))، وقد قال معاذ رضي الله عنه، بعد أن روى الحديث: (وهم بالشام)، [والحديث رواه البخاري].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (( لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة)). [قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يَعْلَى ورجاله ثقات].
ودعونا نتخيل، القيام على الحق وحمايته بشتى الوسائل من علم وجهاد وغير ذلك، هل يكون القائم في نعيم ورخاء، ودعة من العيش؟؟ لكن هل يتركه الله تعالى؟ وهل يحرمه من الأجر؟
لا ريب سيتكفل به، ويباركه، ويرفع درجاته....
هذه هي الشام، وهذه بركتها، هذه حبيبتي التي أقامني الله تعالى فيها، وأحرص على البقاء فيها رغم صعابها، وأحتسب الأجر في كل ثانية أقيمها، طاعة لقوله صلى الله عليه وسلم: ((سَيَكُونُ جُنْدٌ بِالشَّامِ وَجُنْدٌ بِالْيَمَنِ)). فَقَالَ رَجُلٌ: فَخِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((عَلَيْكَ بِالشَّامِ عَلَيْكَ بِالشَّامِ عَلَيْكَ بِالشَّامِ - ثَلاَثاً - عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَمَنْ أَبَى فَلْيَلْحَقْ بِيَمَنِهِ وَلْيَسْقِ مِنْ غُدُرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ لِي بِالشَّامِ وَأَهْلِهِ)).
اللهم احفظ الشام، وارحم أهلها، وردهم إلى دينك ردًا جميلًا، واجعلنا أهلًا للفضل الذي اختصصتها به، ورد كيد الكائدين عنها، يا أرحم الراحمين، ويا جار المستجيرين، ويا أمان الخائفين، ارحمنا يا الله، وعجل بالفرج القريب...
واقرأ أيضاً:
إسرائيل وحرب «السايبر» / في الثورة السورية كيف وصلنا إلى المجازر الحالية؟3 / هل تبكي الكلمات؟ / مخيم اليرموك ودلالاته الرمزية