مجزرة رهيبة وقعت في مخيم اليرموك مساء اليوم الثاني من أغسطس 2012 الجاري. فقبل آذان الإفطار في يوم فضيل من الشهر المبارك، وبدقائق محدودة، أُطلقت على إحدى الشوارع الفرعية المكتظة بالناس في مخيم اليرموك، ثلاث قذائف لعينة من مدفع هاون (مورتر) بتتابع، سقطت على النقطة ذاتها في المخيم بغرض إيقاع أكبر الخسائر الممكنة..... المجزرة تمخضت عن أربع وعشرين شهيداً من أبناء المخيم من الفلسطينيين والسوريين، وسقوط أعدادٍ مضاعفة من الجرحى، الأمر الذي أوجد مناخاً متضارباً ومشحوناً ومتوتراً كاد أن يعصف بأحوال الناس، وأن يذهب بهم نحو مواقف متطايرة هنا أو هناك، لولا تدخل أصحاب الحكمة والتبصر.
دماء بريئة وسيادة صوت العقل
لقد نزفت دماء بريئة من شبان ورجال وأطفال مخيم اليرموك لاذنب لأصحابها، واختلطت دماء أبناء سوريا وأبناء فلسطين معاً مثلما اختلطت على الدوام على أرض فلسطين والجولان ولبنان. فيما قام أهالي المخيم وحكماؤه بلملمة الجراح، والإسراع بدفن الشهداء، وإحكام العقل والحكمة في معالجة الأمور، وإبعاد ونفي لغة وسلوك الغرائز والتفلتات حفاظاً على الناس وعلى دمائهم، وعلى الأمن المجتمعي، وعلى دور مخيم اليرموك الإيجابي في جواره المحيط والمتميز بإكتظاظه السكاني من مختلف مناطق سورية.
لقد عادت بي الذاكرة الى الوراء قليلاً، وأستذكرت نفسي في العمل الوطني الفلسطيني، عندما أُصبت بشظايا قذيفة هاون (مورتر) من نفس النوع في شهر يونيو الموافق لشهر رمضان الكريم من عام 1985 في بيروت، عندما أطلقت تلك القذيفة اللعينة على مواقع القوات والتجمعات الفلسطينية إبان ماعرف بحروب المخيمات، وقد أدت تلك الإصابة بي في نهاية المطاف وبعد سنوات طويلة من المعاناة، لإجراء عمل جراحي مُعقد عنوانه عملية «OLT» أو (نقل كبد) في مشفى تيانجين التابع لجيش الشعب الصيني قرب بكين.
لقد سقطت قذائف الهاون الثلاث اللعينة على مخيم اليرموك، مسببة كارثة كبيرة بكل المقاييس، فيما كنّا نَحسد أنفسنا على حالة الركون والهدوء النسبي التي عمت المخيم في الأيام الأخيرة بعد أسبوعين من القلاقل إثر ماجرى ويجري في محيطه القريب، وقد تحول المخيم إلى ملاذ آمن لكل من دخل إليه من الأحياء المجاورة من الأخوة السوريين خصوصاً من احياء التضامن، والقدم والحجر الأسود، والميدان وغيرها.
ولكن، لماذا يقع كل هذا، ولماذا هذا النزف المستمر في العديد من المخيمات والأحياء الفلسطينية في سوريا من شمالها لجنوبها، خصوصاً وأن اللاجئين من أبناء الشعب الفلسطيني في سوريا وعبر كل قواهم وفصائلهم السياسية والمجتمعية، كانوا قد أعلنوا ومازالوا يعلنون كل يوم موقفهم الواضح بالحياد الإيجابي تجاه مايجري في سوريا في سياق الأزمة الداخلية الكبرى التي تعتمل فوق أرضها.
أغلب الظن، أن الموقف الوطني العاقل والمتعقل المُتخذ فلسطينياً وبإجماع وطني، لايروق للكثيرين ممن يَدعون وينظّرون لزج الفلسطينيين في آتون اللهيب المشتعل في سوريا، تحت عناوين براقة، لكنها عناوين تجانب الحكمة والبصيرة والتعقل، وتصب في مسار لايخدم لا القضية الفلسطينية ولا حتى القضية السورية ولا مطالب الشعب السوري الشقيق التوأم السيامي الحقيقي للشعب الفلسطيني.
ركائز موقف الإجماع الفلسطيني
إن المصلحة الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني في سوريا تقتضي التأكيد على الموقف الوطني المُجمع عليه وطنياً في الساحة الفلسطينية، والمتمثل بالحياد الإيجابي، فهو موقف وطني وأخلاقي وإنساني وعروبي بامتياز، ومنحاز في جوهره لسوريا والشعب السوري، فهو موقف دقيق ومدروس ومبني على حد السكين كما يقال، وينطلق في تعامله مع الأزمة السورية من أربع ركائز:
أولاها، مساعدة الشعب السوري بكل ألوانه وموزاييكه السياسي وغير السياسي، ومساعدة سوريا ككل، في تخطي المحنة ووقف نزف الدم الغالي على أرضها، ووقف دمار المؤسسات والبنى التحتية بإعتبارها مُلكُ للشعب السوري ومن عرق جبينه، وتلبية مطالب الناس في الوقت نفسه.
وثانيتها، أن الأزمة السورية دخلت منذ بداياتها منعطفات مُعقدة، أكبر من الشعب الفلسطيني، وأكبر من أي دور مؤثر لجزء منه مقيم فوق الأرض السورية، وقد فَتحت مفاعيل الأزمة المجال أمام تجاذبات دولية وإقليمية، يُفترض بالفلسطينيين أن يبتعدوا عنها حتى لايكونوا جزءاً من ضحاياها نهاية المطاف. لقد علمتنا التجربة ودراما السيرة الفلسطينية خلال العقود الماضية أن الالتفافات الإقليمية والتجاذبات الدولية في أزمات الشرق الأوسط ترتد دوماً علينا، مهما كانت النوايا لأي طرف من أطرافها ومن لاعبيها.
وثالثتها، أن من يَعرف الحالة السورية الداخلية والمحيطة وتشابكاتها وتداخلاتها، يُدرك منذ البداية، ومازال يُدرك أن الحل في سوريا هو حل سياسي ولا أفق لأي حل غيره سوى التدمير الذاتي الشامل. فكل مسارات الأحداث في سوريا تؤكد بأن الحلول القسرية العسكرية والأمنية «من أي طرف كان» هي حلول عدمية وغير ممكنة، مع توزع القوة والقوى والإنقسامات «فالحلول السياسية الجادة فقط يمكن أن تكون الأمل للخروج من نفق الوضع الراهن وتفادي الانزلاق نحو كارثة أكبر» على حد تعبير المبعوث الدولي كوفي عنان بعيد تقديم إستقالته. وعليه، فإن الإجماع الدولي مع تعقيداته الهائلة يتبلور الآن رويداً رويداً بإتجاه الإقرار والسعي لحل سياسي.
وبالتالي فمن الأجدى أن يكون الموقع الفلسطيني لفلسطينيي سوريا في الأزمة السورية موقعاً سياسياً مساعداً على الحل السياسي عبر الحياد الإيجابي لا في التموضع بقلب بؤرة الاشتعال والدخول إلى لهيبها تحت عنوان براق لارصيد له بمقاييس المصلحة الوطنية والقومية الحقيقية والفعلية للسوريين والفلسطينيين على حد سواء.
ورابعتها، استيعاب دروس التجربة الفلسطينية ذاتها المرة والمريرة مرارة العلقم، والتعلم منها، فكم من المآسي التي دَفع ثمنها وأكلافها الباهظة، قطاعات من الشعب الفلسطيني هنا وهناك بسبب من سوء تقديرٍ في الموقف، وبسبب من سوءٍ في اشتقاق المطلوب على المستوى الفلسطيني العام. إن تجارب ومِحن المسيرة الوطنية الفلسطينية زاخرة بالدروس والعبر، من محنة الأردن بمحطاتها المختلفة «بعيداً عن التفاصيل»، ولبنان بمحطاتها المختلفة أيضاً، وتجربة الفلسطينيين في الكويت والعراق، فقد دفع فلسطينيو العراق على سبيل المثال، أثماناً قاسية نتيجة لموقف سياسي كانت قد أعلنته قيادة المنظمة قبل سقوط نظام صدام حسين عام 1989، وهم الذين لم تكن أعداهم لتتجاوز ثلاثين ألفاً، فوجدوا أنفسهم في خيام منزوية في الصحارى على الحدود الأردنية العراقية (في طريبيل والرويشد) وعلى الحدود السورية - العراقية (في التنف والوليد والهول)؛
ومن ثم في منافي العالم من البرازيل الى تشيلي الى ماليزيا والدانمرك ومابينهما وقد ضاقت بهم أرض العرب على اتساعها، ولم يَقبل بهم أحد في بلاد «غسان وعدنان وقحطان» بلاد تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى الخليج شرقاً. إن تلك التجارب تعطينا دروساً صارخة لمن أراد أن يعتبر، ولمن أراد أن يضع الرغبات والإسقاطات والتمنيات والذاتيات والتقديرات الفردية جانباً، وأن يبني موقفاً عاقلاً وحكيماً عنوانه المصلحة الوطنية الجامعة التي يجب أن لا تقبل روح المغامرة بل تتنافى معها، وأن لا تقبل بلعبة الرهانات في معمعان أزمة طاحنة مازال أوارها مشتعلاً وعلى أشده في سوريا.
في الاستخلاصات الأخيرة، نقول، إن للشعب الفلسطيني قضيته الوطنية وصراعه الأساس هو مع المشروع الصهيوني، فيكفي الشعب الفلسطيني ما يلقاه يومياً على يد الاحتلال من قتل واعتقال ونهب للأرض وهو يخوض معركته دون أن يجد دعماً أو إسناداً فاعلاً وهاماً وقديراً ومقتدراً من أحد.
إن بوصلة الشعب الفلسطيني في الشتات تؤشر باتجاه فلسطين، ولاطريق للفلسطينيين سوى دروب فلسطين وطنهم التاريخ مهما تعقدت الظروف وتعاظمت التحديات. إن تلك البوصلة هي وحدها من تُعبّد الطريق الطويل والدروب الوعرة الى فلسطين، ودون ذلك فإن إلتواءات الطريق ستقذف بالقضية الفلسطينية نحو المجهول.
إن وعي الفلسطينيين، وارتقاءه وسموه، والابتعاد عن الرغبات والإسقاطات الذاتية للبعض من الفلسطينيين، يُشكّل الآن سلاحاً هاماً، للنأي بهم عن مسارب مخيفة ومظلمة لاسمح الله في أزمات طاحنة تعيشها المنطقة ككل ومنها سوريا على وجه الخصوص. ويدفع بهم هذا الوعي الراقي في سموه وفي نباهته وحذقه الرفيع لمساعدة سوريا وشعبها الشقيق من أجل وقف نزف الدماء، وفتح الدروب أمام التغيير الحقيقي في بلد كان ومازال موئلاً لفلسطين وشعبها منذ خروج العثمانيين من بلاد العرب.
إن الغيرة الفلسطينية على سوريا وشعبها، والتضامن اللصيق والتعاضد النهائي مع الشعب السوري وسوريا، أمر مطلوب وواجب من منطلق الوفاء، ومن موقع الحرص على شعبٍ وعلى بلد أنجب قائد الثورة الفلسطينية الكبرى عامي 1935 و 1936 الشهيد عز الدين القسام، إبن مدينة جبلة الواقعة على الساحل السوري جنوب مدينة اللاذقية.
صحيفة الوطن القطرية
الأربعاء 8/8/2012
واقرأ أيضاً:
ساخن من لبنان الأحد 20-8-2006 / ساخن من لبنان الاثنين21-8-2006 / ساخن من لبنان الثلاثاء 22-8-2006 / ساخن من لبنان الأربعاء 24-8-2006