إنها العبقرية في الكتابة للمؤلف عبد الرحيم كمال (صاحب العمل الرائع: شيخ العرب همام)، والعبقرية في الأداء ليحيى الفخراني الذي يثبت أنه ماكينة تمثيلية ضخمة وجميلة وشفافة ورقيقة تناطح أعظم الممثلين العالميين، والعبقرية في اختيار الموضوع وفي اختيار التوقيت وفي طريقة المعالجة..... فالخواجة طفل بالمعنى النفسي في نظرية التحليل التفاعلاتي لإريك برن يعيش حياة بسيطة وبريئة وصادقة ومباشرة وصافية وشفافة ونقية ولديه نقاط ضعفه وزلاته البشرية، وهو يتبنى في حياته قانون الحب. وتأتي روعة البناء الدرامي في أن هذا الشخص رغم أنه خواجة وأنه حديث عهد بالإسلام إلا أن بناءه الأخلاقي يبدو متساميا في بساطة ومتماسكا في مرونة وعبقريا في تواضع وإنسانيا في ملائكية. هذه التركيبة التي هي أقرب للفطرة الإنسانية السوية والمسحة الصوفية النقية تعيش في مجتمع قروي مصري يتبنى قانون الصراع وتسوده حالة من اللف والدوران واللوع والادعاء والغش والكذب والخداع والنفاق واستغلال المفاهيم الدينية بشكل انتهازي نفعي سيكوباتي. والنماذج البشرية في القرية كلها تقريبا نماذج مشوهة أو منقوصة أو متجمدة.
فمثلا الحاج عبد الظاهر كبير البلدة وعمدتها بما يمثله من قهر وظلم واستبداد حتى بأقرب الناس له (أخته زينب) مع ادعائه للعدل والإنصاف والاحترام والوقار، وزينب بما تمثله من توقف لتطور شخصيتها وخضوعها لإرادة الحاج عبد الظاهر رغم تململها وتمردها السطحي غير الفعال، والحاج يوسف المتطلع نحو الطموح السياسي مدفوع الأجر للحزب الحاكم والقامع لولده محمد إلى درجة إصابته بمرض نفسي جعله يتوقف عن النمو الإنساني الطبيعي وقد زوجه بمن لا يرغبها فظلم الاثنين وأخوه اللص الذي سرقه وقرر هو في النهاية أن يمارس معه لعبة الابتزاز والاستغلال بدلا من مواجهته، وأخو الحاج عبد الظاهر الشارد السواح في البلاد والمرتاد لأماكن اللهو والمتعة العابرة والعاجز عن مواجهة ظلم أخيه له والعاجز عن تحمل مسئولية الزواج أو الإنجاب أو حتى رعاية من يحب، ومناظر التي توقفت حياتها بعد موت زوجها وحبست أنوثتها وتنكرت لاحتياجاتها أمام سطوة أمومتها وعرف مجتمعها في تحريم الزواج على الأرملة حتى لو كانت شابة، والشيخ منصور إمام المسجد وشيخ القرية المليء بالادعاء الديني الكاذب والذي ينافق السلطة ويستفيد منها ولديه الاستعداد للكذب وشهادة الزور والغش والخداع وتطويع النص الديني ليحقق أغراضه الشخصية أو أغراض السلطة ، وكمال (الكبير) الذي يرى أشياء كثيرة حوله تناقض ما تعلمه من أستاذه الخواجة عبد القادر ولكنه يقف أمامها متألما ومتحسرا في صمت ولا يستطيع أن يفعل شيئا، وابنه عبد القادر(الصغير) الداعية الشاب الذي يهتم بشكل الدين وبصورته الشخصية في أعين الناس وقدرته على السيطرة عليهم وتوجيههم بشكل سلطوي ترهيبي. كلها نماذج مشوهة تتحرك وتتفاعل تحت قشرة زائفة من التدين والفضيلة والتمسك بالتقاليد والأعراف بينما هي تتحرك في أعماقها بدوافع انتهازية أو خوف أو ضعف أو خضوع مذل أو جمود.
ويبقى فقط في المشهد شخصيتين تتميزان بالسواء والنقاء والقدرة على العطاء والتطور وهما الخواجة عبد القادر وتلميذه الطفل كمال (الصغير) ويبدو التناقض واضحا والتعرية مكتملة لتؤدي في النهاية بشكل درامي متماسك وغير مباشر إلى رؤية ورفض وكراهية النماذج المشوهة في المجتمع المصري والتي نكتشف أنها تعيش بيننا منذ زمن وإلى الآن وكل لحظة ، ومن كثرة اعتيادنا عليها فقدنا القدرة على رؤية تشوهاتها، ولولا نموذج الخواجة عبد القادر بنقائه وصفائه وبراءته لألفنا هذا التشوه واعتبرناه من المسلمات في السلوك المصري. والمسلسل به مستويين زمنيين ومع هذا لا يشعر المشاهد بصعوبة في متابعة النقلات الزمنية.
ويتبدى في المسلسل نوعان من الخطاب الديني نوع يتبناه الخواجة عبد القادر وهو نوع بسيط للغاية ويزيد من بساطته ضعف القدرة اللغوية عند الخواجة فيتحدث وكأنه طفل يتعلم الكلام ولكن درجة الصدق والإخلاص والشفافية والروحانية تجعل خطابه الطفولي البسيط أكثر تأثيرا في الناس حيث يقربهم من حقيقة محبة الله ومحبة الناس ويقربهم من جوهر الدين وجوهر الإنسان وقد نجح في ذلك مع شخصيات شديدة الصعوبة مثل صابر الأعمى (المجرم المحترف) وشهاوية (بائعة المتعة)، أما الخطاب الآخر فيمثله الداعية الشاب عبد القادر(الصغير) ابن كمال وهو يميل إلى التنطع والفذلكة والإبهار بالمصطلحات والتهديد والوعيد والاستعراض والرغبة في السيطرة على آلاف الجماهير ، وأيضا الشيخ منصور شيخ القرية الذي يحفظ النصوص الدينية القديمة بلا فهم ويلوي عنق الأحكام ويسخرها لأغراض دنيوية وبناؤه الأخلاقي مشوه ومضطرب فهو كثير الكذب والاحتيال والادعاء مع سطحية في الفهم وغباء في التعامل .
ومتانة النص مع عبقرية الأداء تجعلك لا تشعر بفجوات أو شروخات نتيجة هذا التناقض الصارخ بل تكتشف ذلك في سلاسة ويسر وتجد نفسك متعاطفا مع ومحبا للخواجة عبد القادر رغم ما يلاقيه من صعوبات حياتية نتيجة تعامله البريء الصافي الطيب (والساذج أحيانا) مع واقع خبيث ملوث وملئ بالشر. رسالة عميقة وبسيطة ورائعة يحملها عمل فني راق تفوق كل من فيه في الأداء الدرامي يتقدمهم ممثل عبقري محترم بحجم وقامة يحيى الفخراني فشكرا للجميع ولننتبه لما أصابنا من تشوه ولنعد إلى الفطرة الإنسانية البسيطة عسانا نقترب من أنفسنا ومن بعضنا وقبل هذا من ربنا .
واقرأ أيضا:
التعليم السلطوي / نهضة ماليزيا في حوض سمك