في ليلة الخميس 16/8/2012م خرجت مريضة من عيادتي فاستوقفها اثنان من البلطجية أمام باب العمارة وأخذوا حقيبة يدها عنوة، وشعرت بالأسف لما حدث لها خاصة وأن أعرف ظروفها المادية والصحية، وفي طريق عودتي بعد انتهاء العيادة شاهدت في شارع كورنيش النيل بالقرب من كوبري 15 مايو مجموعة من المواطنين يتشاجرون بدرجة خطيرة بينما يقف أحد ضباط الشرطة وبعض الجنود في كمين بجوارهم ولا يفعل أي شيء، واكتملت الصورة الكارثية في نفس اليوم الخميس الساعة الرابعة بعد صلاة الفجر وعلى بداية طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي وبالتحديد عند مزلقان قرية الشرقاوية حيث فوجئنا بأعداد كبيرة من البلطجية وأهالي القرية يقطعون الطريق وهم يحملون الرشاشات ويطلقون النار ويشعلون الإطارات ويقطعون خطوط السكك الحديدية ويشعلون النار في أي سيارة متواجدة في المكان أو يحطمونها. كان المشهد مرعبا، وعلمنا أنهم يفعلون ذلك بسبب موت أحد أبناء القرية في مقر مباحث قسم أول شبرا الخيمة، وتتردد على ألسنة الواقفين رواية أن رجال المباحث داهموا هذا الشخص (الذي توفي) في أحد المقاهي لحوزته قطعة مخدرات وضربوه على رأسه ليعترف ثم أخذوه إلى القسم حيث لفظ أنفاسه هناك (نفس سيناريو خالد سعيد الذي حرك ثورة 25 يناير ضد جهاز الشرطة)، ولا ندري صحة الرواية من خطئها ولكن الجماهير الغاضبة تتحرك على أساسها، والشخص المذكور فعلا قد مات، وهذا يعكس اضطراب الأولويات لدى جهاز الشرطة ويعكس توجس الناس تجاهه وعدم ثقتهم في الرواية الرسمية التي تقول أنه أصيب بهبوط حاد أدى إلى وفاته أثناء الإجراءات في قسم أول شبرا الخيمة.
وحدث تكدس هائل للسيارات على الجانبين والجميع يحاول الهرب من هذا الجحيم دون جدوى واستمر الموقف بهذه الخطورة لساعات ونحن نتلفت يمينا أو يسارا فلا نجد أثرا لعسكري مرور أو شرطة أو أي سيارة تتبع الجهاز الأمني، واتصلت بشرطة النجدة لأخبرهم وكان الخط مشغولا فترة كبيرة وحين انفتح الخط أخبرني الموظف الذي أبلغته بالحادث بأن لديهم علم به وأنهم تلقوا أكثر من ثلاث آلاف اتصال حول الموضوع وأنهم قاموا بإبلاغ كل الجهات المسئولة وليس بيده شيء أكثر من ذلك، وفي نهاية المكالمة قال "ربنا يستر" فتخيلت أنني لم أتصل بشرطة النجدة وإنما اتصلت بشيخ جامع، وذكرني هذا بما نشر على لسان مدير المخابرات العامة (الذي أقيل) بأنهم كان لديهم معلومات عن عملية رفح الحدودية ولكنهم لم يتخيلوا أن يقتل مسلم مسلما بهذه الطريقة وقت الإفطار (أهكذا تكون المهنية والاحتراف في جهاز أمني محترم).
وعدت لأقترب من قسم أول شبرا الخيمة لعلي أبلغهم بما يحدث فوجدت عشرات الجنود والضباط يقفون حول القسم لحمايته ولم يلقوا بالا للطريق المقطوع قريبا منهم وكانت هناك حالة من البلادة والتراخي والرخاوة المعهودين في مثل تلك الظروف. وللعلم فإن قطع الطريق تم بالقرب من وحدة قيادة الطريق الزراعي، إذن فجهاز الشرطة كله يعلم بهذا الحدث، ويعلمون مدى أهمية وحيوية طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي فهو بلا مبالغة أكثر الطرق حيوية وازدحاما في مصر ولا يحتمل الأمر قطعه لعدة دقائق فما بالك بساعات وذلك قبل عيد الفطر بيومين.
ووسط هذا الموقف المرعب والمتأزم ساد شعور مؤلم بتقاعس جهاز الأمن في تأمين الناس وتأمين الطرق والحفاظ على الأرواح والممتلكات، وأن جهاز الشرطة الذي أغضب الشعب المصري لدرجة أنه دفعه ليثور يوم عيد الشرطة في 25 يناير 2011م ويسقط النظام ما زال يتسبب في معاناة الناس ويتخلى عن واجبه المهني والوطني تجاههم بشكل يدعو إلى قمة الغضب لدى المواطنين الذين تتعرض حياتهم وممتلكاتهم كل يوم للخطر على أيدي البلطجية وقطاع الطرق فلا يجدون من يحميهم.
وهذا ليس الحدث الوحيد في قطع الطرق، فنظرا لسفري المتكرر شهدت هذا السيناريو مرات عديدة على أكثر من طريق، وكان يتكرر نفس التقاعس ونفس الإهمال واللامبالاة والتراخي من الجهاز الأمني بما يجعل الأمر يبدو وكأنه مؤامرة مقصودة لتحقيق هدف ما، ربما لإسقاط النظام القائم بعد الثورة، أو ربما لعقاب الناس على قيامهم بالثورة، أو ربما استسهالا وراحة وتخليا سلبيا بليدا عن الواجب المهني. والأمر لا يتوقف على قطع الطرق والسكك الحديدية، وإنما يمتد التقاعس والإهمال في حوادث خلافات عائلية في القرى ينتج عنها قتلى كثيرون بسبب تأخر التدخل الأمني، وهذا ما يحدث أيضا في الأحداث الطائفية فيتضاعف عدد القتلى وتهدم دور العبادة وتزداد نيران القلوب اشتعالا .
ومعروف في القانون أن من بيده إيقاف حدوث جريمة ويتقاعس عن إيقافها فهو مسئول عنها يحاسب مع الجاني، وطبقا لهذه القاعدة القانونية المعروفة فإن جهاز الشرطة مسئول عن كثير من الجرائم التي وقعت في طول البلاد وعرضها حين كان يتأخر عامدا متعمدا حتى تتم الجرائم ويتوحش المجرمون ثم يظهر بشكل متراخ ورخو بعد أن تكون الكارثة قد اكتملت . والأمر بهذا الشكل ليس فقط جريمة، وإنما هو خيانة للوطن وخيانة لأمانة المهنة لأن الأمن هو الدعامة الأساسية لأي دولة، وإذا انهار الدور الأمني ينهار القانون وتنهار الدولة ، ويضطر الناس إلى حماية أنفسهم بطريقتهم الخاصة فيحملون السلاح ويكونون الميليشيات ويدخل المجتمع في صراعات مسلحة وحروب أهلية وطائفية. وقد عشت سنوات بالخارج وكنت أرى بعيني حين يحدث أي شيء ولو بسيط نجد أن الأرض قد انشقت وظهر منها رجال الشرطة المحترفون الذين يعالجون الحدث في لحظات وبمهنية عالية، ونتحسر على حال الشرطة البائس عندنا ولا نجد لهم عذرا في ذلك ولو عجزوا عن أداء مهمتهم فليعلنوا ذلك وليفكر المجتمع في البديل المناسب قبل فوات الأوان، فهم الآن أشبه بطبيب يقف أمام مريض يموت فيتراخى في إنقاذه إهمالا وعمدا.
والسؤال المنطقي الآن: أين الحكومة وأين رئيس الحكومة الجديد وأين وزير الداخلية الجديد، ولماذا يصمت الجميع على جريمة وخيانة التقاعس الأمني، لقد كانت الحجة أن الجهاز الأمني عانى في مواجهات الثورة وقد مر على ذلك أكثر من عام ونصف ولم يتغير سلوك الأمن والبلطجة تتوحش وحوادث خطف الناس تزداد وقطع الطرق في تنامي مرعب بشكل يومي ولا توجد محاسبة حقيقية أو ردع لمن يفعلون ذلك، ويصل أمر التراخي والإهمال الأمني إلى نقطة الحدود في رفح حيث يهاجمها مجموعة إرهابيين فيقتلوا من فيها بشكل يعتبر إهانة للأمن المصري وعار وطني للجميع، وأين الرئيس مرسي من كل هذا وقد تخلص من منافسة المجلس العسكري لسلطاته وأصبحت بيده مقاليد الأمور (سوف تسأل سيادة الرئيس أمام الله عما يحدث ، وأنا أعرف أن له في قلبك شأن كبير) ... لماذا يسكت على استمرار التقاعس الأمني الذي يشكل جريمة وخيانة في حق الوطن لأنه ينذر بانهيار الدولة .
واقرأ أيضًا:
عائدا من ماسبيرو ذاهبا للجهاز/ عائدا من ماسبيرو ذاهبا للجهاز مشاركة/ أحداث ماسبيرو: تداعيات تغييب القانوني وتغليب السياسي