كلما تأملت مسلة حمو رابي، وقرأتها بتفاصيلها، أجدني أمام أول دستور تنبثق منه أحكام وقوانين ومعايير وضوابط واضحة وصريحة، وذات قدرة فعالة على التحكم بالسلوك وتهذيبه وتطويعه لتحقيق المصلحة العامة، واستتباب الأمن والوقاية من الصراعات والاضطرابات الداخلية في المجتمع. وعندما أمعن النظر بموادها الدستورية، يبدو لي أن حمو رابي أو طاقم حكمه لم يخترعوا مواد المسلة الدستورية، وإنما اكتشفوها، لأن الحاجة قد أملتها عليهم والضرورة دفعتهم للاستجابة اللبيبة، ذات الحكمة السياسية والمعرفة السلوكية، وتداعيات عدم تنظيمها وتوجيهها وإحكام اتجاهاتها ودوافعها...... فالدستور وما يتعلق به من قوانين ومعايير، حاجة بشرية وليس ترفا واستبدادا وظلما، فلا يمكن لنهر الحياة أن يجري بانسيابية إذا امتلأ مجراه بالعثرات والمصدات والتيارات المضطربة الحائرة الاتجاهات، ولا للمجتمع أن يتماسك ويتوازن في سلوكه إذا انتفى فيه دور القانون، ولا يحتاج ذلك إلى أدلة وبراهين فما عندنا يكفي ويزيد عن أي حد ومدى.
وربما أغفلنا وعي دور القانون في السلوك البشرى على مختلف المستويات، فأهملت الدراسات هذا العامل المهم وراحت تتحدث عن مجتمعاتنا بلغة سلبية، وتوصلت إلى استنتاجات متعددة لكنها قد تبدو غير صائبة، ذلك أنها لم تأخذ بنظر الاعتبار دور القانون في صياغة السلوك البشري. وربما تندر الدراسات التي تشير إلى أن لغياب قوة القانون وأهمية الدستور في الحياة العربية تأثير على ما يحصل، وهذا يعنى أن قيمتها ليست ذات درجة عالية من المصداقية والصوابية.
فالمجتمع العربى تشكل سلوكه وفقا لآليات فقدان قيمة القانون في الحياة، وإهمال الأنظمة الحاكمة للمعايير الدستورية والقانونية، فكل نظام يتحول إلى دستور وقانون وكل شيء، فهو معيار النزاهة والوطنية والعمل الصالح، وأي سلوك لا يتفق وهواه إنما يكون معاديا ومرفوضا.
فما عاش المجتمع على مدى عقود تحت ظل دولة دستورية حقيقية محكومة بقوانين تطبّق على الجميع بعدالة واستحقاق قانوني نزيه ومنضبط. ولا زالت بعض المجتمعات ترزح تحت وطأة الكراسي الفاعلة فيها بمسمياتها المتنوعة، فكل كرسى هو دستور وقانون وفوق كل شيء والذي يقضي ويحكم ولا يُحاكم أو يُقاضى.
ووفقا لهذه الثوابت الغابية يتحقق السلوك في المجتمع، وتبدو التفاعلات السلبية على جميع المستويات، فترى في بعضها الفساد والرشوة والاحتيال والسرقة والسلب والنهب واغتصاب حقوق الآخرين والاتهام وغيرها الكثير، عبارة عن ثوابت وتقاليد سلوكية تعبّر عن الشجاعة والوجاهة والقوة والسطوة، أما احترام حقوق الآخرين والامتثال للقوانين فيحسب في عرف المجتمع ضعفا وجبنا.
فعندنا رئيس أي نظام هو القانون والدستور وهو الخصم والحكم، وهو الذى يكون دوما فوق القانون، وندري تماما بأننا قد عشنا لعقود متواصلة، وفقا لتعليماته، فتوجيهات الفرد الحاكم أو المتسلط، هي الدستور والقانون، ومَن لا يتبعها يناله المصير المشئوم.
وهذا يشير إلى أن المجتمع قد مرَ بمراحل قاسية ومتوحشة، أدت إلى صياغات سلوكية متراكمة، تفاعلت مع بعضها في الزمن الذي ذهبت فيه تلك الأنظمة والقوى، التي هيمنت بجبروت الكرسى وأجهزة السلطان التي كانت تفترس الآخرين بشراسة فائقة.
وقد برزت تلك السلوكيات المُتعلمة والمتوارثة من الأنظمة السالفة في هذه الفترة، وما يحصل هو مرحلة انتقالية مضطربة لا يمكن تنظيم حركتها وتهذيب دوافعها واستجاباتها، إلا بدستور وقانون يخضع له الجميع من أعلى مسئول إلى أبسط إنسان في المجتمع، وهذه الاتنقالة الحضارية ليست سهلة، وربما ستكلف الكثير من الخسائر والصراعات، لكي يدرك المجتمع أن الدستور والقانون هو الأصلح لبقائه وقوته وتفاعله الإيجابى مع أبنائه ومع الآخرين من حوله.
إن إدراك المثل الذي قدمه حمو رابى له التأثير الأكبر على مسيرة الانطلاق الجديد. فمن غير دستور واضح وقوانين صارمة ومحاكم عادلة لا يمكن للسلوك أن يرقى إلى مصاف السلوك الحضارى المعاصر، وأي دراسة تتجاهل هذا العامل المهم والأساسي إنما هي دراسة ناقصة.
فالمجتمع العربى كأي مجتمع آخر، لا بد له أن يكون محكوما بقوانين وضوابط وقوة عدل سائدة بثقافتها ومؤثرة بآلياتها في الحياة. وهناك أمثلة عديدة على سلوكيات مجتمعات متقدمة فقدت فيها قوة القانون، فحصل أبشع مما حصل في مجتمعاتنا في زمن الاضطرابات الشديدة. ذلك أن القانون قد غاب فانفلتت الدوافع والغرائز البشرية، ولو غاب القانون في أية مدينة في العالم المتقدم لأيام لحصلت الأهوال والعجائب والغرائب، بل ولو انقطعت الكهرباء لبضعة أيام لتحققت سلوكيات إجرامية خارقة.
فالمجتمع يُبنى على المعايير والتقاليد والأعراف والقوانين، وأنظمة الحكم الفردية وذات الحزب الواحد قد أجهزت على تلك الآليات والمواثيق السلوكية، وأوجدت آليات تحقق مصالحها وتؤكد سطوتها وقدرات قهرها للناس. وكانت تلك الأعراف الاجتماعية السائدة ذات قوة في التحكم بالسلوك، لكنها وبعد أن تقاطعت أجيالها، أصبحت ضعيفة التأثير والفاعلية..... ولهذا نرى عقب انهيار تلك الأنظمة تعم الفوضى ويسود التفاعل السلبي الذي نحسبه غريبا وشاذا.
وهكذا فإن للقانون دورا أساسيا في صياغة السلوك البشري والدراسات التي تعودنا عليها ربما تلغيه، أو تتناساه ولذلك فهي دراسات اجتماعية قاصرة، لم تساهم في تغيير السلوك الاجتماعي نحو الأفضل، وإنما حصلت في بعض مجتمعاتنا تداعيات سلوكية وانتكاسات حضارية مؤلمة ومؤسفة، وما حضرت دراسة تتصدى للحلول وتأتي بمقترحات وآليات للتخلص من السلوك السلبي، بقدر ما أنها أمعنت في تكريس السلوك وتثبيته واعتباره وصمة وحالة أبدية مستحكمة ومستحيلة التبدل، أو كمرض مزمن مستفحل لا يمكن الشفاء منه أو التعايش معه، كما أن بعض الدراسات تبدي اتهاما وأحيانا ظلما للإنسان، وأخرى مكتوبة بمداد الدونية والتحطيم الذاتي والتدمير الاجتماعي.
ولا توجد مجتمعات ديمقراطية لا تعرف القانون ولا يسود فيها الدستور، فالحرية في التفاعل الإنساني تكون وفقا لضوابط ومعايير وقوانين تحقق السلامة والكرامة والعدل والإنصاف، وتحافظ على الحقوق وتبيّن الواجبات. وفي الزمن الديمقراطي الجديد، سيكون من غير الممكن إنجاز أي تقدم حضاري إذا لم تتأكد الثقافة القانونية، ويسود الدستور الجامع بمواده ومعطياته التي ترعى المصالح العامة للبلاد والعباد.
والخلاصة أن العيب الكبير في النظام العربي بأكمله يتلخص في غياب القانون الحقيقي بمعناه الدستوري والإنساني، وتحول الكرسي إلى قوة منفلتة تتدبر الأمور ولا تخضع لأي مساءلة أو محاسبة، لأنها لا تعترف إلا بدستور وقانون هواها.
فعلينا أن نتغيّر أو نتبدل ونعيد النظر بآليات تفكيرنا واقتراباتنا من المجتمع، وأن نساهم في دراسات بناءة موضوعية إيجابية ذات طاقات متفائلة وخلاقة من أجل التقدم والارتقاء.
فالحالة المتأججة بحاجة إلى كوكبة من العقول القادرة على صناعة المستقبل الأفضل، وبناء الحالة المتفائلة الساطعة ذات العطاءات الإنسانية الفاضلة.
1\8\2012
واقرأ أيضاً:
كتاتونك شيزوفرينيا / الكلمة والسلوك / الأزموية