يعيش المجتمع "الإسرائيلي" مفارقة اجتماعية سياسية غريبة، فبينما تؤكِّد استطلاعات الرأي المتتالية من حين لآخر والمنشورة نتائجها على صفحات الصحف العبرية اليومية، عدم رضا معظم "الإسرائيليين" عن أداء حكومة نتنياهو الحالية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، وأنّ أضرارها أكثر من فوائدها، وفي المقابل فإن نتائج الاستطلاعات إياها تشير في الوقت نفسه إلى حظوظ متقدمة لحزب الليكود فيما لوجرت إنتخابات برلمانية مبكرة أو حتى غير مبكرة. إنها مفارقات تتجلّى في الفجوة الكبيرة بين موقف معظم "الإسرائيليين" من أداء الحكومة الحالية في مختلف المجالات، ومواقفهم التصويتية في الانتخابات البرلمانية إذا أجريت الآن.
إن تلك الوقائع والتناقضات الواضحة في تقدير الموقف، تشير لوجود أسئلة قلقة ومحيرة داخل المجتمع اليهودي على أرض فلسطين التاريخية، تجعل من الصعب على أحد إعطاء الإجابة الشافية والكافية لكل سؤال يتعلق بما يجري من تفاعلات في البيئة الإقليمية المحيطة بـ "إسرائيل" وداخل "إسرائيل" ذاتها.
وفي سياق تلك الحيرة فإن الملف النووي الإيراني بات يشكل ملجأً سهلاً وهروباً للأمام من أسئلة القلق التي تخيم على "إسرائيل"، ففي ظل تلك الحيرة تُكثر حكومة نتنياهو من الحديث عن التهديد الإيراني لوجود "إسرائيل"، وتلوِّح بضرب منشآتها النووية الإيرانية، وتعمل على رفع ميزانية التسليح والدفاع على حساب ميزانيات المجالات الأخرى التي من شأنها المساعدة في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وكأنها تريد استحضار (بعبع) خارجي لإسكات أصوات الاحتجاج الاجتماعي الداخلي من جهة وللتغطية على "عجز الإجابة" عن أسئلة مايجري في المنطقة ووجود حالات التضارب في تقدير الموقف.
إن تلك الحالة من الإضطراب في الرؤية بشكل عام داخل "إسرائيل" في تقييم ما يجري في عموم المنطقة، ألقت بظلالها على الإئتلاف الحاكم بقيادة حزب الليكود، وعلى بعض الأحزاب ومنها حزب المعارضة الأكبر، حزب كاديما (الى الأمام) الذي انتقل من صف المعارضة الى صف الائتلاف الحاكم، في خطوة لها علاقة بكل ما ذكرناه أعلاه، كما لها علاقة بالحسابات الحزبية الداخلية بين مختلف الأحزاب "الإسرائيلية"، ثم عاد وانسحب من الحكومة ذاتها، حيث تتربع الحسابات الحزبية على رأس أولويات الكتل والأحزاب من المعارضة أو من الائتلاف الحاكم.
إلى ذلك، نستطيع أن نجتهد ونضع عدة تصورات في تبيان أسباب كل تلك المفارقات العجيبة في تقدير المواقف "الإسرائيلية"، على المستوى العام المتعلق بما يجري في المنطقة. أولها أن ما يجري في المنطقة ليس وليدة لحظته بل وليد تراكمات هائلة، ويعبر في واحد من تجلياته عن انفجارات اجتماعية وسياسية، وأن كل الأمور متوقعة ولهذا يصعب التحديد الدقيق لمآلات الأحداث، فالمفاجأت متوقعة جداً. وثانيها أن العوامل المؤثرة الداخلية والخارجية على خط الأحداث متداخلة ومتشابكة، وأن الأمور تزداداً تعقيداً يوماً بعد يوم. وثالثها أن القوى الكبرى تخوض من خلال ما يجري في المنطقة صراعات كبرى فيما بينها، صراعات على المصالح ومناطق النفوذ، كما هي صراعات ذات بعد جيوستراتيجي.
أما على المستوى الداخلي في "اسرائيل" فان مرد المفارقات الواردة أعلاه في تمايل وتأرجح مواقف عموم الناس والمجتمع والأحزاب وتراقصها كالبندول، فيعود لانتشار وازدياد منطق القبلية السياسية خاصة بين الدوائر الدينية المعتدلة والمتشدِّدة في المجتمع "الإسرائيلي"، وهرولة تلك الأحزاب نحو المكاسب الخاصة على حساب المواقف العامة.
وثانيها الوضع المتردِّي لأحزاب اليسار والوسط، فهي لم تعد تقدِّم رؤى وبرامج تمثِّل تغييراً حقيقياً عن أحزاب اليمين ويمين الوسط حتى تنجح في جذب الناس، فقد تماهت ووصلت الى حدود عالية من التطابق مع سياسات اليمين العقائدي واليمين التوراتي في الدولة العبرية، وقد فقدت هويتها السياسية.
وثالثها فيتمثّل في الاعتقاد عند قطاعات واسعة من الناس في المجتمع "الإسرائيلي" بأنّ حكومة جديدة برئاسة نتنياهو تستطيع العمل بشكل أفضل في المجال الأمني، خصوصاً مع استخدام نتنياهو منطق التشدد السياسي مع الفلسطينيين واستمراره في حمل لواء الاستيطان والتهويد والدفاع عنه، فالجمهور اليهودي يؤيد سياسات نتنياهو ويساندها ويريد إنتخابه في الانتخابات التشريعية القادمة لكنه يتصادم معه بشأن القضايا الداخلية ذات البعد الاجتماعي والاقتصادي بالرغم من سلة الإغراءات التي يلجأ نتنياهو لتقديمها للجمهور من فترة لفترة.
وفي الاستخلاصات الأخيرة، نستيطع القول بأن المجتمع اليهودي على أرض فلسطين ليس كتلة جامدة هامدة ساكنة لاحراك بها، بل هو مجتمع أو (تجمع) بشري يعيش تناقضاته الداخلية، كما يعيش اضطراباته التي نبتت بفعل النشأة الطافرة للدولة العبرية الصهيونية، فـ "إسرائيل" دولة طافرة قامت بقرار أممي ولم تنشأ نشأة طبيعية كحال دول العام والكيانات السياسية على امتداد المعمورة. ومن هنا فهي أكثر تأثراً بما يجري في المنطقة العربية وفي البيئة السياسية الشرق أوسطية، حتى وإن كانت تلك التحولات لا تزعجها مباشرة إلا أنها تحمل في طياتها تحولات مستقبلية يراها الكثيرون من مفكري "إسرائيل" باعتبارها خطراً داهماً على كيان الدولة العبرية طال الزمن أم قصر.
واقرأ أيضاً:
إسرائيل وحرب السايبر / فلسطين ومناخ التحولات العربية