تعودت خلال الأعوام الماضية أن أودع أبنائي في الصباح عند ذهابهم إلى المدرسة .كنت أقف في بلكونة منزلي في الدور الثامن وأبنائي بدورهم يودعونني كما يحدث مع أغلب الأمهات في المنازل المجاورة .لحظات تتكرر مع الكثيرين منا، ولكننا نعيشها فرادى أو كما كنت أظن. كنت أعتقد أني أعيش هذه اللحظات يوميا بمفردي رغم مشاهدتي لها في نفس الوقت في شرفات الجيران .ولكن ما حدث أني لاحظت أن شخصا ما يشاركني هذا الوقت .......
أحد الشرفات في المنزل المقابل لمنزلي تفتح بحذر وترقب في نفس الوقت يوميا، استدعى انتباهي ما يحدث .....ترقبت....سيدة مسنة .....تلاقت أعيننا.....أغلقت الشيش بسرعة كأنها كانت تسرق ....تعجبت من هذا التصرف ....ظللت أتابعها يوما بعد يوم ولكني لاحظت ان فتحة الشيش التي سمحت لنفسها بالنظر من خلالها تزداد اليوم بعد الآخر .عند ذلك تعمدت أن انظر إليها في عينيها مرة أخرى ولكن صحبت نظرتي هذه المرة ابتسامة خفيفة كنت أقول لها "أنت مرحب بك لمشاركتنا هذا الوقت" كنا نتقابل يوميا أنا وهي وأبنائي في نفس الموعد دون أن نتحدث و لكن تصاحبت أرواحنا .
عندما كنت أراها كنت أشعر أن للأجساد أعمار مختلفة و لكن للأرواح عمر واحد. .......... تكرر الوضع لقرابة عام كامل و بمرور الأيام فتح شباك الغرفة على مصراعيه واكتشفت أن تلك السيدة إنما هي جليسة كرسي متحرك .اتضحت لي بعض معالم غرفتها .أرضيات خشبية قديمة تفوح منها رائحة الزمن....جدران باهتة تحكي عن أناس ولدوا وكبروا وشاخوا بجانبه ......أثاث قديم...... تخيلت كيف عاشت هذه المرأة عمرها في هذا المنزل حتى بلغا معا من الكبر عتيا. كيف كانت تزينه وترتبه حتى حال بينهما الزمن.
مرت الأيام وجاءت الإجازة الصيفية وتوقفت عن الخروج إلى البلكونة في الصباح .وفي أثناء شهر رمضان الماضي بينما كنت أطل من البلكونة رأيت مجموعة من العمال ينزعون الأرضيات الخشبية .أصبحت كومة من الحطام .تبدلت الأرضيات بأخرى لامعة براقة .......تلونت الجدران بألوان جديدة .....وبالطبع أيضا جيء بأثاث جديد يليق بالتغيير.هل دبت الحياة في البيت أم انقطعت ؟ بدأت أم انتهت ؟
رحلت العجوز ...إلى أين ؟ لا أعلم . إلى بارئها أم إلى سجن آخر ؟ لا أعلم.
ولكن ما أعلمه جيدا أني هذا العام سأودع أولادي في الصباح بمفردي كبقية الجيران.
واقرأ أيضاً:
أين أنت يا سيمبا ؟ / اقتراح: إلغاء المدارس، ومنح بدل نقدي للتعليم!!! / يوميات مجنون: مدارس 2020 / رجل السادسة أم طفل الأربعين!... هل يستويان؟
التعليق: ثم يعود تيار الحياة الجارف ليَعبر في طريقه على هذا المنزل القديم .. لتنزع الحداثة الأصالة والرقي، ويتم إحلال البهرجة الحديثة.. سالبة لجمال التاريخ، أشخاصه الهادئة، وأثاثه الرصين، وتبقى الحياة مستمرة، ويكمن استمرارها في حياة النسمات اللطيفة التي تتابعهم في نموهم، في السعادة التي نمو رغم الذكريات..
شكرًا للكاتبة على ما استطاعت من العبث في ذكريات الآخرين، في زمن سريع سريع لا يسمح لنا بقضاء أمتع أوقاتنا مع تاريخنا نحن