الحصار المعرفي وبقية الأمراض النفسية:
في هذه الأيام هناك المجلد الرابع المنقح لتصنيف الأمراض النفسية، وتشخيص الحصار المعرفي ليس بالعسير. من جراء وجود معايير تشخيصية تتميز بكونها شاملة أصبح تشخيص هذا المرض أكثر شيوعاً في المجتمع وفي المراجعين لأقسام الصحة النفسية. منذ نهاية التسعينيات إلى يومنا هذا أصبح تقدير انتشار المرض يقدر بين 1.5–2.5% وهي أكثر بكثير من تقدير انتشار المرض في الثمانينات من القرن الماضي8. ولا يقتصر الارتباك في اضطراب الحصار المعرفي على الشيزوفرانيا حيث يمكن مشاهدته في الاكتئاب (30-50%)، الرهاب (47%)، الرهاب الاجتماعي (18%)، اضطرابات الأكل (17%)، اضطراب الهلع (12-14%)، الإدمان على الكحول (14%)، واضطرابات الشخصية بأنواعها (5– 30%). لا بد من الاشارة إلى ضعف العلاقة ما بين الحصار المعرفي والشخصية الحصارية المعرفيةObsessive Personality 12.
الحصار المعرفي في هذه الحالات يمكن تفسيره كما يلي:
1- الاضطرابات أعلاه إحدى التعقيدات المرضية للحصار المعرفي.
2- أعراض الحصار المعرفي هي إحدى مظاهر القلق المصاحب لجميع الاضطرابات النفسية المدرجة أعلاه ومن ضمنها الشيزوفرانيا.
3- الحصار المعرفي ناتج عن استعمال عمليات دفاعية غير شعورية للتأقلم مع العملية النفسية الذهانية أو العصابية المصاحبة لهذا المرض.
المصابون بالحصار المعرفي لا يمتلكون المناعة النفسية ضد بقية الأمراض النفسية5 ويحتمل إصابتهم بأي اضطراب نفسي وعلى ضوء ذلك فإن الاحتمال الأول هو الأكثر ترجيحاً في الحالات المزمنة من الحصار المعرفي إلا في حالة الشيزوفرانيا. أما ظهور علامات الحصار المعرفي في وقت متقارب إلى الاضطرابات الأخرى فهذا يرجح التفسير الثاني والثالث. أما من الناحية العلاجية فمن المستحسن التركيز على علاج الاضطراب النفسي وعدم صرف الانتباه إلى الحصار المعرفي. هذه القاعدة في غاية الأهمية في علاج الشيزوفرانيا ويفضل التركيز على علاج العملية الذهانية ومن خلال ذلك يتم السيطرة على أعراض الحصار المعرفي. كذلك الأمر في علاج الاكتئاب الشديد المصاحب لأعراض الحصار المعرفي وضرورة التركيز على علاج الاضطراب المزاجي والتحري إن كانت أفكار الحصار ذهانية في إطارها.
* الحالة أدناه توضح خطورة التركيز على الحصار المعرفي وصرف النظر بدون قصد عن أعراض مرضية أخرى:
رجل أعزب في بداية العقد الخامس من العمر مبتلى بحصار معرفي منذ المراهقة. يحمل معه دوماً أنواع سوائل التعقيم المنزلية لمكافحة أي تلوث. تأقلم مع طقوسه ولكن بدأ يشكي من آلام في البطن ويراجع الطبيب بعد الآخر. تم عمل كافة أنواع الفحوص الطبية وإثبات سلامته من أي مرض خطير. استمر على هذا الحال لعام كامل ولم يتوقف عن المراجعة الطبية. قرر يوماً طعن بطنه بسكين حاد لإخراج كائن غريب من معدته. لم يصرح بذلك إلا بعد عملية جراحية طارئة.
الحصار المعرفي كاضطراب قلق:
المجلد الرابع المنقح لتصنيف الأمراض النفسية يضع الحصار المعرفي ضمن مجموعة اضطرابات القلق مثل اضطراب الهلع والرهاب بأنواعه. المسار الطولاني للحصار المعرفي يكاد يكون مشابهاً إلى اضطرابات القلق المزمن. يحتل الحصار المعرفي المرتبة الرابعة ضمن الاضطرابات التي تراجع العيادات الخارجية للطب النفسي بعد الهلع، الاضطرابات المتعلقة بالمواد، والاكتئاب. لا يختلف انتشار المرض بين مختلف المجموعات الحضارية في العالم3.
۰ لا فرق بين الرجال والنساء في نسبة انتشار المرض ولكنه أكثر شيوعاً في الذكور في عمر المراهقة4. يبدأ المرض في بداية العقد الثالث من العمر، ولكن ظهور المريض للعلاج في العيادات الخارجية قلما يحصل قبل عمر 25 عاماً. أما بعد عمر الخمسين فإن ظهور الأعراض توحي بمرض عصبي عضوي مثل اضطراب باركنسون1.
الحصار المعرفي والاضطرابات العصبية التطورية:
في المجلد التشخيصي الإحصائي الخامس لتصنيف الأمراض النفسية، سيتم اعتماد مصطلح الأمراض العصبية التطورية لتشمل ما يلي: 1- اضطراب التطور الذهني Intellectual Development Disorders .
2- اضطرابات التواصل Communication Disorders.
3- الاضطرابات التوحدية Autistic Spectrum Disorders .
4- اضطرابات عجز الانتباه وفرط الحركة Attention Deficit and Hyperactivity Disorders .
5- اضطرابات تعليمية محددة Specific Learning Difficulties .
6- اضطرابات حركية منها متلازمة توريت واضطرابات العرة (Movement Disorders (Tourette and tics.
تكثر ملاحظة الاضطرابات الحركية7 وعجز الانتباه فرط الحركة مع الحصار المعرفي13. في ما يقارب الثلث من المرضى يتم تشخيص هذه الاضطرابات سوية والكثير يعتمد مصطلح الاضطرابات التطورية العصبية لوصف الحصار المعرفي وخاصة عند ظهور الأعراض قبل سن البلوغ.
أما في الاضطرابات التوحدية فتكثر أيضاً ملاحظة أعراض الاضطرابين معاً وأحياناً يصعب التمييز بينهما في ما يقارب الثلث من الحالات السريرية.
موقع الحصار المعرفي:
على ضوء ما تقدم التطرق إليه إلى الآن يمكن استعمال النموذج أدناه للإشارة إلى اضطراب الحصار المعرفي. يمكن الجزم بأن الاضطراب المعرفي هو اضطراب عصبي تطوري يشترك مع بقية الاضطرابات العصبية الأخرى. كذلك يمكن النظر إلى الحصار المعرفي كاضطراب قلق وخاصة عند ظهوره في العقد الثالث من العمر. يمكن دمج النموذجين معاً على أن الحصار المعرفي الأكثر شدة تظهر أعراضه في مراحل مبكرة من الحياة. أما الحصار المعرفي الطفيف فيظهر في العقد الثالث ويكون مساره أقرب إلى اضطرابات القلق.
تطور نظريات الحصار المعرفي:
على مدى أكثر من قرن من الزمان تم حصر نظريات الحصار المعرفي في قطبين. القطب الأول هو الذهني والذي يؤكد على أن الفكرة هي مصدر الاضطراب والتفاعل العاطفي لها ثانوي. بعبارة أخرى إن الفكرة منشأها داخلي من جراء ذكريات وتجارب الفرد وبعدها يحدث خطأ في تفسيرها، وهذا التفسير الخاطئ يؤدي إلى تفاعل عاطفي مرضي ومن هنا تبدأ حلقة مفرغة تؤدي إلى استمرار الفكرة والقلق منها. هذا هو ما صرح به جانيت Janet في بداية القرن الماضي.
أما القطب الآخر المعاكس فيتمثل بالنظرية السلوكية والمعرفية11 التي ترعرعت في السبعينيات. على ضوء هذه النظرية فإن الطقوس والأفكار المعرفية التي تحاصر الفرد ما هي إلا رد فعل لعاطفة القلق. يشترك هذا النموذج مع نظرية التحليل النفسي التي تعتبر أعراض الحصار المعرفي عملية دفاعية نفسية غير شعورية للتخلص من القلق.
تأثر علماء الجهاز العصبي وليس الطب النفسي بنظرية جانية9 المعروفة بالهزال النفسي Psychasthenia وبدأ الطريق يتجه نحو اكتشاف الارتباطات الدماغية المختلفة لتفسير ما نعرفه الآن بالحصار المعرفي:
۰ عرف جانيه الهزال النفسي على أنها حالة عجز أسبابها فطرية (أساسية) أو مكتسبة بسبب عوامل أخرى.
۰ تؤدي هذه الحالة إلى فقدان السيطرة على الأفكار الواعية اللاإرادية.
۰ تشجع إطلاق سراح محتوى الأفكار ذات الطابع العدائي، العنيف والجنسي وحركات ذات قالب معين من المناطق السفلى غير الواعية من الدماغ، ومن جراء ذلك:
* يحدث نقص في التعبير عن السلوك ذات الصفات المناسبة أو المبتكرة أو الاستكشافية.
* يتم تعطيل عملية التفكير المنطقي واتخاذ القرار.
هذه النظرية مطابقة للدراسات العلمية المختبرية3 في العشرين سنة الماضية التي أثبتت إفراط الفعالية الجبهية في المخ التي تعكس صراع الإنسان ضد الحصار المعرفي واضطرابات المناطق التحت القشرية في الدماغ والتي هي مصدر السلوك الحركي الإجباري.
الفص الجبهي والحصار المعرفي:
هناك عدة مسارات للإرسالات العصبية الكيمائية ولكن في علاج الأمراض النفسية ثلاثة منها تشغل المحيط الأوسع وهي:
1-
مسارات السيروتونين Serotonin Pathways. 2- مسارات الدوبامين Dopamine Pathways .
3- مسارات النورادرينالين Noradrenaline Pathways .
يستجيب 40% من مرضى الحصار المعرفي للكلوميبرامين وعقاقير مثبطات إعادة قبط السيروتنين الانتقائية (الم.ا.س.ا) ويستجيب عدد أكبر من المرضى للعلاج عند إضافة مضادات الذهان التي تعمل على منع فعالية الدوبامبن. هذه الملاحظات العلاجية التي تكرر إثباتها تؤكد بأن المسار الأول للسيروتنين والثاني للدوبامين يلعبان الدور الأكبر للتكوين المرضي الكيمائي لهذا المرض.
هناك ثلاث طرق مباشرة وغير مباشرة تربط الفص الجبهي بأجزاء الدماغ السفلى6 وفي هذا المجال يكون الحديث عن ثلاثة دوائر عصبية تتحكم بفعالية الفص الجبهي في مجال الحصار المعرفي وهي:
1- الدائرة المحجرية الجبهية Orbito-Frontal Circuit: تتحكم في السلوك الحضاري والاجتماعي.
2- دائرة التلفيف الحزامي Cingulate Circuit : السلوك الاندفاعي.
3- الدائرة الظهرية الجانبية Dorsolateral Circuit: تتحكم في الفعاليات الادارية التي تضمن تقييم الفرد لمحيطه والتخطيط للعمل وحل المشاكل.
أما أجزاء الدماغ السفلى فهي المخطط Striatum الذي يرتبط أولاً بالفص الجبهي وبعد ذلك يرتبط الخطط بالمهاد Thalamus. بعد وصول الإشارات إلى المهاد تبدأ المسارات الأخرى متجهة من المهاد إلى الفص الجبهي2. على ضوء ذلك فإن الحصار المعرفي ناتج عن عدم التوازن في هذه المسارات التي من خلالها تزداد فعالية الفص الجبهي وأجزاء الدماغ التحت القشرية. لتنظيمها علاجياً يتم الاستعانة بعقاقير مضادة للاكتئاب فعاليتها تعتمد على تحفيز السيروتنين، والعقاقير المضادة للذهان التي تحد من فعالية الدوبامين في الأجزاء تحت القشرية.
هناك القليل جداً من المرضى المصابين بأشد أنواع الحصار المعرفي والذين لا مفر لهم إلا بعلاجهم جراحياً10 بقطع الاتصال بين الفص الجبهي وأجزاء الدماغ التحت قشرية أعلاه أو استعمال تحفيز الدماغ العميق Deep Brain Stimulation الذي يحتاج إلى دارسات أكبر لإثبات فعاليته.
تطور العلم خلال قرن من الزمان والتزم نظرية الهزال النفسي لدراسة الحصار المعرفي التي تحدث بها جانية في بداية القرن العشرين (المخطط أدناه). على مدى أكثر من عشرين عاماً شهد الطب النفسي مئات الدراسات المختبرية والسريرية التي أكدت دور الفص الجبهي في تفسير اضطراب الحصار المعرفي. يمكن أن تستنج بأن الحصار المعرفي اضطراب تطور عصبي يتفاوت في شدته من فرد إلى آخر، متى ما كان طفيفاً نظرنا إليه على أنه مجرد اضطراب من اضطرابات القلق. ومتى ما كان شديداً في فعاليته نتأكد من أنه جزء من مجموعة اضطرابات التطور العصبي. لكن هناك حقيقة واحدة لابد من قبولها وهي أن الوسواس لا دخل له بهذا الاضطراب.
المصادر:
1- Alegret M et al (2001): Obsessive compulsive symptoms in Parkinson’s disease. Jour. Neurology Neurosurgery & Psychiatry 70, 394–39
2- Bar-Gad I et al (2001). Stepping out of the box: Information processing in the neural network of the basal ganglia. Current Opinion in Neurobiology, 11, 689 -695.
3- Baxter L et al (1999). Functional imaging of brain systems mediating obsessive –compulsive disorder: clinical studies. In Charney D et al, Neurobiology of mental illness. New York. Oxford University Press.
4- Bebbington P (1998). Epidemiology of obsessive compulsive disorder. British Journal of Psychiatry, 173, 2-6.
5- Beech H (1974). Obsessional states. London. Methuen.
6- Chow T & Cummings J (1993). Frontal –subcortical circuits. In Miller B & Cummings J (Eds). The human frontal lobes. New York. Guildford Press.
7- Frankel M et al (1986). Obsessions and compulsions in Gilles de la Tourette syndrome. Neurology, 36, 378-382.
8- Hollander E (1997). Obsessive Compulsive disorder: The hidden epidemic. Journal of Clinical Psychiatry, 58, 3-6.
9- Janet P (1903). Les obsessions et la psychasthenie. Paris.Alcan.
10- Jenike M (1998). Neurosurgical treatment of obsessive compulsive disorder. British Journal of Psychiatry. 173, 79-90.
11- Mowrer O (1960). Learning theory and behaviour. New York. Wiley.Rachman S & Shafran R (1998). Cognitive and behavioural features of Obsessive Compulsive disorder. In Swinson et al (Eds). Obsessive compulsive disorder: Theory, research, and treatment. New York, Guildford Press.
12- Summerfeldt L et al (1998). Personality and obsessive compulsive disorder. In Welkowitz L et al (2000). Obsessive compulsive disorder and co morbid anxiety problems in a national anxiety screening sample. Journal of anxiety disorders. 14, 471 -482.
13- Zohar A et al (1992) An Epidemiological Study of Obsessive-Compulsive Disorder and Related Disorders in Israeli Adolescents. Journal of the American Academy of Child & Adolescent Psychiatry. Volume 31, Issue 6, November 1992, Pages 1057–1061.
14- هناك مقالات عدة على موقع مجانين وحقل خاص باضطراب الوسواس القهري (الحصار المعرفي).
ويتبع........: وسواس: تعبير حان شطبه من الطب النفسي
واقرأ أيضًا:
الصور العقلية التسلطية (الوسواسية(/ علاقة الفعل القهري بالحدث العقلي التسلطي